“غلاف غزّة” هذه المرة مدّ ذراعيه طويلًا، فبدأ من داخلها وانتشر صوب صنعاء، مرورًا بالأردن ولبنان، فكلّ العالم، من دون استثناء؛ سيرة أرض وشعب تُنشَد بملحمة، أبطالها أيضًا ممّن ينتمون إلى دول مُشرّفة بعروبتها، يحفرون أدوارهم عميقًا في أخاديد الزمن رواية للتاريخ، بكلّ مؤثّراتها.
شكّلت محطّة “الجزيرة” على مدى ثلاثة أشهر علامة فارقة في الإعلام الرسمي العربي، فكانت وما تزال الوسيلة الإعلامية الأكثر جذبًا للمهتمين بمتابعة مجريات الحدث الفلسطيني بكل أبعاده؛ وذلك لاتّسامها بالدقّة والسرعة في نقل الخبر مُصوَّرًا ومُوثَّقًا وحيًّا. وقد زاد من تسمُّر المتابعين أمام شاشتها، تنوّع ضيوفها وسَعة ثقافتهم، ولكنّ الأكثر بروزًا هو اللواء الأردني المتقاعد فايز الدويري، من خلال قدرته الاستثنائية في التحليل والمتابعة، والعودة إلى التاريخ، وربط الأحداث والمعلومات بعضها ببعض على نحو متين وصلب، على الرغم عن مجاهرته بانحيازه القومي إلى جانب القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني. فالدويري استأثر بعقول المشاهدين، كما في قلوبهم وعيونهم، وهم الذين لم يجدوا سواه على الشاشات يُقدّم المعلومة محلَّلة وموثَّقة، في حبكة لا تَعتريها شائبة، ما شكّل في عتمة العنف الصهيوني على غزّة، بقعة ضوء معنوية تشحن الناس، ولا سيّما الذين لا يملكون أيّ طائل سوى أضعف الإيمان، إزاء القضية الفلسطينية، فمدّهم بطاقة إيجابية في ضوضاء الحرب المُدمّرة. وكان لافتاً للإنتباه أن الدويري لم يسلم من انتقادات المؤيدين لحركة “حماس” من جمهور عربي يعترض على مواقفه التي كانت منحازة للمجموعات المعارضة للدولة السورية.
وائل الدحدوح
معظم الصحافيّين الذين ينقلون أحداث غزّة وتفاعلاتها عالميًّا، شكّلوا عناصر قوّة مميّزة لأجل فلسطين؛ وهم بحقّ في رتبة المقاومين في السلطة الرابعة. وزيادة، فإنّ ما ظهر من مراسل قناة “الجزيرة” وائل الدحدوح، من حضور إعلامي ميداني يستحقّ التهنئة والتقدير، سواء لجهة سلاسة لغته، أم وفرة معلوماته، أم تعاليه غير العادي فوق الجراح الخاصّة.. والعامّة. فأن يستشهد جميع أفراد عائلته وزميله المصور الصحافي في القصف الصهيوني أمام ناظريه، ويأبى الاستسلام، بل يصرّ على تأكيد حقّ قضيّته في أداء رسالته الإعلامية، لهو فعل بطولة، هذا عدا عن إدراكه في الصميم أنّه يعيش احتمال الاستشهاد في كلّ لحظة، فيلملم جراحه ويستكمل نذر الرسالة، وربّما ارتقى هذا الأداء عن العمل الصحافي المألوف، وهو نضال لا يقلّ أهمية عن دور المقاوم، مع قيمة مضافة هي أنّه مشهود بصوت وصورة.
محمّد رعد
اعتدناه في السنوات الماضية، بل منذ تعرّفنا إليه، شخصًا جدّيًّا، قليلًا ما تعرف البسمة طريقها إلى شفتيه، وهو صاحب المواقف الحادة، على الرغم من أنّه آتٍ من خلفية دينية دعوية، ومع ذلك، فقد كانت المرّة الوحيدة التي شهدنا محمّد رعد يرسل فيها ضحكات مستترة، معجونة بلحظة فلكية المشاعر، هي ساعة سقط ابنه شهيدًا. ففي أصعب لحظات الوجع والخسارات الكبيرة “ضحك” من لم يضحك قبلًا، ولكن أيّ ضحك – وهو الذي قال لولده الشهيد “لقد سبقتَني إلى ما كنت اتمنّاه”؟! غُمِر محمّد رعد بتعاطف كثيرين وحبّهم، حتّى من بين الذين لم يستسيغوا يومًا أداءه في السياسة، فغدا نجمًا يستحقّ الاحترام، بخاصّة لكونه من قلّة قليلة من السياسيين الذين لم يُرسلوا أولادهم للإلتحاق بأرقى الجامعات، بل هو خسر ابنه في المواجهة مع العدوّ الصهيونيّ، وشتّان ما بين مستميت في مشروع وراثة سياسية، وبين صانع مشروع شهادة من فلذة كبده، وكلّ كلام بعد ذلك غير ذات قيمة.. فقط إسمعوا صوت حزنه في كل عبارة تفوّه بها في أربعين “سراجه”.
العميد يحيى السريع
لم يتجاوز الثمانية والأربعين من العمر، وهو الواثق من نفسه ومن دوره، يعكس روح المقاومة اليمنية بما فيها من عنفوان وإباء لم يتوقّعه العالم. تراه يقرأ بيانات القوّات المسلّحة اليمنية بلغة عربية فصيحة، مستخدمًا مفردات جديدة، ولكنّ الأهمّ من كلّ ذلك هو ما يُفاجئ به العالم من مواقف سياسية، وقرارات عسكرية مهمّة، نظرًا لما لها من أثر في الصراع في المنطقة، فإغلاق باب المندب أمام السفن المتجهة إلى الكيان الصهيوني، على سبيل المثال، ليس بالأمر العادي، في ظلّ وجود ترسانات عسكرية في الجوار يُحسب لقوّتها وجبروتها ألف حساب؛ ولأجل ذلك ينتظر المتابعون بيانات السريع، إمّا لإنعاش فرحهم بها، وإمّا لكظم غيظهم من الوضع العربي العام.
“عمّو أنا بحلم..؟”
ما فطرَ قلوبنا وأدماها، تلك الطفلة الممدَّدة فوق سرير المعالجة، وهي تسأل من يُضمّد جراحها “عمّو، عمّو، بدي أسالك، هذا حلم والله حقيقة“. فهذه الطفلة استيقظت على قصف عنيف استهدف عائلتها في غزّة؛ لتجد نفسها بين مجموعة من المسعفين، ولكنّها لم تستطع معرفة ما حلّ بها وبعائلتها، فاعتقدت بأنّها تحلم، ولا تزال تغطّ في نومٍ عميق؛ لتكتشف أنّها الناجية الوحيدة في عائلتها من طغيان دولة الإجرام والفاشيّة والأبارتايد.
أبو عبيدة
هذه الشخصية حلّقت عاليًا في جميع فضاءات العالم وأصبح صاحبها النجم الأبرز، في رواية “الطوفان”، فاستحق عن جدارة لقب الشخصية الأكثر حضورًا وتأثيرًا وانتظارًا من الجميع، لذلك فإن الحديث عنه في سياق مقالٍ عاديٍ يبخسه حقه ولسوف يكون للتاريخ كلمته الفصل في تأريخ حكاية أبا عبيدة.
العدوان الفاشيّ الذي يطال فلسطين ذات القضية الحقيقية الباقية على رأس القضايا الإنسانية، عالق في ضمير هذا العالم حتّى يومنا هذا، وقد كشف للعالم وجوهًا لامعة، ووجوهًا فاطرة للقلوب، وأُخرى مجرمة.
هو مسرح لم يُغلَق بعد، فما نشهده ربّما لم ولن نشهد شيئًا يضاهيه، ما حيينا.. ومن يَعش يرَ!