لو أردنا اختزال علاقة حماس بالأردن خلال هذه الفترة، فإن أغنية “الحب كده” للسسيدة أم كلثوم تُلخصّها، عندما تقول “أَوَّرِيه المَلام بالعين وقلبي على الرضا ناوي”.
ثمة ظروف جيوسياسية تفرض مساحات تلاقٍ مشتركة بين حماس والأردن منذ العام 2007، لكن تحالفات كل طرف تخلق مساحات من البعد والتباعد وسوء الفهم المتبادل. برغم ذلك، تتسع المساحات المشتركة تدريجياً كلما اتجه العالم نحو نظام متعدد الأقطاب. لماذا؟
منذ بدء ما يسمى “الربيع العربي”، قبل ثلاثة عشر عاماً، أصبح التحليل السياسي الذي يأخذ في الاعتبار فقط العلاقة التحالفية بين الأردن وأميركا، تحليلًا ساذجًا، لأنه لا يأخذ في الحسبان مصالح الأردن المتعارضة مع مشروع “الشرق الأوسط الجديد” والمتلاقية مع أقطاب دولية جديدة ناهضة في العالم.
بناء على ما سبق، كيف يُمكن فهم علاقة الأردن وحماس في ظل المتغيرات التي عصفت بالمنطقة طوال ما يزيد على العشرين عامًا؟
حماس والأردن.. حب من طرف واحد
طلبت عمّان في العام 1999 من قادة حركة حماس، مغادرة الأردن. تبدى خياران أمام قادة الحركة من حاملي الجنسية الأردنية: إما المكوث في الأردن وعدم ممارسة السياسة أو الخروج منه، وبالفعل، غادرت قيادات الحركة عاصمة المملكة بعد أن كانت تُشكل حضنًا لها لسنوات عديدة.
بعد انتصار حركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في العام 2006، بدأت تتعالى أصوات في الأردن تدعو لإعادة العلاقات مع حركة حماس، والاقتراب خطوة من التيار المقاوم، فلسطينياً وعربياً، بغية تنويع الخيارات، وقد تبنى تيارٌ يُعرف باسم “الحرس القديم” في الدولة الأردنية هذا الرأي.
في ذلك الحين لم تمل كفة الميزان لمصلحة رأي “الحرس القديم”، ولم يقترب الأردن خطوة من التيار المقاوم، إلى أن بدأ ما يُسمى “الربيع العربي”، إذ بدأت الجغرافيا تقول كلمتها بين الأردن وسوريا. كان الأردن ينظر بقلق إزاء محاولة زعزعة سلامة الدولة السورية الجارة، مُدركًا أن انهيار سوريا سيرتد على كل منطقة المشرق العربي، وسيكون الإسلام السياسي في المنطقة في طليعة المستفيدين. وكانت هذه وجهة نظر “الحرس القديم” في الأردن، وهذه المرة مالت الكفة لمصلحة رؤية هؤلاء.
حاول الأردن طوال سنوات الأزمة السورية، أن يُقدّم لحلفائه (أعداء سوريا) العون بأقل منسوب ممكن ونأى بجيشه عن التدخل ضد الجيش العربي السوري، ولم يتدخل في جنوب سوريا بالمنسوب نفسه للتدخل التركي في الشمال السوري، وكان خطاب التيار المقاوم حيال الأردن واضحًا في خطابات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، ولسان حاله القول إن الأردن “ليس صديقًا لكننا لا نريده عدوًا”.
وبالفعل، وبعد تراجع غبار الأزمة السورية، إثر الانخراط العسكري الروسي في العام 2015، كان الأردن مستعدًا للتعاون مع حليفة سوريا الأولى (روسيا) فقدّم لها دفقًا من المعلومات عن الجماعات الإرهابية في الجنوب السوري.
في تلك الأثناء، وبرغم أن رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في حينه خالد مشعل كال المدائح للأردن، إثر السماح له بدخول المملكة لظرف إنساني، لكن الأردن حسم موقفه بعد اختباره الموقف السلبي للمكتب السياسي لحماس حيال سوريا في ضوء أزمتها الوطنية بعد أن كانت الحضن التالي لهم بعد الأردن.
ومع الوقت، شهدت الأعوام التالية لما يسمى “الربيع العربي” حالة من التكيف السياسي الأردني مع فكرة نظام عالمي بدأ يُعبّر عن نفسه، ولو أنه لم يتشكل بعد. نقول حالة تكيُّف أردنية وليس نقل سلاح من كتف إلى كتف.
من الصعب – برغم المصالح الكبيرة التي تجمع بين الطرفين – أن تعود علاقة الأردن وحماس بعد جفاء دام 25 عامًا بين ليلة وضحاها، إذ أنه وخلال هذه السنوات الطويلة تشعبت علاقات حماس وتبدلت، وحماس 2024 ليست هي ذاتها حماس 1999. صحيح أن الأردن يتكيّف مع تباشير ولادة نظام عالمي جديد، لكنه تكيفٌ بطيءٌ منسجمٌ مع مروحة علاقاته مع حلفائه التقليديين
الأردن وحماس.. حرس قديم وجديد
زلزّل ما يسمى “الربيع العربي” المنطقة العربية بأسرها من المحيط إلى الخليج، وأحدث تصدعات داخل البنى الحزبية. ومع الوقت، شهدنا تعاظم الخلافات بين الجناحين السياسي والعسكري في حركة حماس ولو أنها لم تظهر إلى العلن، لكن نتائجها كانت واضحة يوم صمدت سوريا وتلا ذلك انتصار قيادات الجناح العسكري في حماس (الذي رفض طعن سوريا في خاصرتها) في انتخابات الحركة في غزة، ليصعد نجم يحيى السنوار، مهندس عملية 7 أكتوبر، الذي قام بفك ارتباط حركة حماس بتنظيم الإخوان المسلمين، ولا يمكن حصر هذه الحركة فقط برغبة التقارب مع المخابرات المصرية، إن خطوة كهذه تعني أن حماس خلعت عنها عباءة أي تواصل مع أميركا، التي رعت الإسلام السياسي في المنطقة، بمعنى أدق، فإن حماس تتكيف بشكل أو بآخر مع عناصر نظام عالمي جديد آخذ بالتشكل تدريجياً.
في تلك الأثناء، كانت علاقات الأردن مع حلفائه التقليديين تشهد توترًا مخفيًا، فالإتفاقات الإبراهيمية بين الإمارات وإسرائيل أيقظت مخاوف الأردن، ولعل مخاوف المملكة تصاعدت عندما بدأ الحديث عن تطبيع سعودي ـ إسرائيلي، والذي سيتم تتويجه بما يسمى “الممر الاقتصادي الجديد”، الذي يعتبر الممر البري الذي يوصل المنتجات لإسرائيل عبر الأردن أحد أشكاله، والذي ينفذه الأردن في إطار تحالفاته التقليدية.
لذا، وبرغم الممر البري الذي يقطع الأردن وبرغم التحالفات التقليدية، إلا أن عملية 7 أكتوبر كانت أكبر هدية يُمكن أن تقدمها المقاومة الفلسطينية للأردن، وانطلاقًا من هنا نفهم الموقف الرسمي الأردني مع غزة، أما كيف نفهم الممر البري؟ فإننا نفهمه تمامًا كما نفهم غرفة الموك التي سمح الأردن بإنشائها على أرضه ليحاول حلفاؤه اسقاط سوريا، لكنه نأى بجيشه واستفاد من كل نقاط التنافر بين الحلفاء ليعفي نفسه من طعن سوريا، برغم التحشيد الإخواني للشعب وتأليب الأردنيين ضد الدولة السورية.
في هذا السياق، نُشير إلى أن الحروب التي يشهدها العالم، ليست بين دول بعينها، لكنها بين تيار “الحرس القديم” (المحافظين) وبين تيار “الحرس الجديد” (الليبراليين) في كل بلد، وفي الأردن لطالما مالت الكفة ناحية “الحرس القديم”، أي أننا أكثر انسجامًا مع محيطنا العربي.
ضبط الشارع الأردني من دون الغاء الحراك!
في أي سياق يُمكن ادراج الإنزال الطبي “المدروس” الذي نفذه الأردن في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 في عز حاجة أهل غزة للعون الطبي، وكيف قابلت حركة حماس هذا الإنزال؟
في البداية، قابلته الحركة بالصمت. لم تقل حماس شيئًا، ولم تشكر الأردن علنًا، لكن ونظرًا لإستشعارها أهمية هذه الخطوة، قال القيادي في حركة حماس أسامة حمدان بعد تنفيذ الأردن الإنزال الطبي “ندعو أمتنا العربية والإسلامية قادة وحكومات ومنظمات إلى إطلاق وتسيير جسور جوية إغاثية متواصلة توفر مقومات الصمود لشعبنا الفلسطيني في غزة خاصة في المجال الطبي وفي الوقود والغاز”.
ولم يأتِ الأردن على لسان قيادات حماس إلا عندما طالب الناطق باسم “كتائب القسّام” أبو عبيدة الجماهير الأردنية بالخروج نصرة لفلسطين، وقبله دعا خالد مشعل العشائر الأردنية للخروج، مع العلم أن الأردنيين من كل الأصول والمنابت خرجوا منذ السابع من أكتوبر نصرة لغزة، وجدّد مشعل الدعوة في أواخر شهر رمضان المنصرم، وتلا ذلك تزايد في أعداد المتظاهرين في الأردن، لكن من المعلوم قدرة الأمن الأردني على ضبط الشارع، وهو ما تم، لكن من يتابع الحراك المتضامن مع فلسطين في الأردن يُدرك أن الدولة أرادت ضبطه ولم تسعَ لإنهائه أبدًا.
كما أن دعوة خالد مشعل الأولى وطلب “أبو عبيدة” في تشرين الثاني/نوفمبر، تزامنا مع خروج قوات من “الحشد الشعبي” العراقي نحو الحدود الأردنية ـ العراقية مطالبة بفتح الحدود الأردنية للوصول إلى فلسطين.
وآخر مواقف حماس حيال الأردن جاء على لسان عضو المكتب السياسي لحماس موسى أبو مرزوق وذلك بقوله لإحدى وسائل الإعلام الإيرانية بأنه إذا أُجْبِر قادة الحركة على الخروج من قطر فسيتوجهون الى الأردن. وفي اليوم ذاته، وصف مصدر أردني مطلع تصريحات أبو مرزوق بأنها “استفزازية”. ذلك الرد المتوتر جاء في ذات اليوم الذي قدّم فيه وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي كلمة في المنتدى الاقتصادي العالمي في السعودية تحدث فيها عن هزيمة اسرائيل النكراء في غزة، وأن إسرائيل أصبحت دولة منبوذة، وقال الصفدي إن حماس “لم تُشعل النزاع”، وحماس “هي فكرة لا يمكن نسفها”.
حماس الإيرانية.. والعربية!
بناء على ما سبق كيف نفهم التصريحات المتنافرة بين الأردن وحماس؟
من الصعب – برغم المصالح الكبيرة التي تجمع بين الطرفين – أن تعود علاقة الأردن وحماس بعد جفاء دام 25 عامًا بين ليلة وضحاها، إذ أنه وخلال هذه السنوات الطويلة تشعبت علاقات حماس وتبدلت، وحماس 2024 ليست هي ذاتها حماس 1999. صحيح أن الأردن يتكيّف مع تباشير ولادة نظام عالمي جديد، لكنه تكيفٌ بطيءٌ منسجمٌ مع مروحة علاقاته مع حلفائه التقليديين ومع مدى سرعة تشكل هذا النظام الجديد.
ومن الطبيعي عندما نرى دعمًا إيرانيًا منقطع النظير لحماس، أن تضبط حماس علاقتها مع الأردن على إيقاع المصالح الإيرانية، وهذا هو المنطق السياسي لكل ما يجري، وهذا يعني أن إيران تود الضغط على الأردن لسبب ما، وهذا يُرجح فرضية إحداث ثغرة في البنيان الأردني من أجل تسهيل وصول الدعم الإيراني إلى الضفة الغربية عبر الممر الأردني، أو أن يُصار إلى تجميد ضربات سلاح الجو الأردني على الميليشيات الإيرانية في سوريا، ومن غير المستبعد أن يكون هناك سبب ثالث ورابع وخامس..
لكن إذا أردنا فهم العلاقات الأردنية الإيرانية في ظل المناخ الدولي والإقليمي المتحرك، فإنها حتمًا ستتجه نحو التنظيم والتقارب في قادم الأيام لا التنافر، وإذا أردنا فهم العلاقات الأردنية مع حماس في ظل النظام العالمي الجديد، فإنها حتمًا ستتجه نحو التقارب أكثر فأكثر، لكن من الواضح في ظل ما سبق أن السيناريو الذي سيبعث الراحة في فؤاد الأردن حيال حماس هو استقرار الأخيرة في الحضن العربي، وهذا يفتح الباب على أسئلة كبيرة؛ فهل تتخلى حماس أو تُخفّف من علاقتها مع إيران الداعم الأكبر لها؟ ولمصلحة من ولماذا؟ وهل ستدعم دول عربية حماس لتخلق توازنًا مقابل الدعم المُقدم لها من ايران؟ وكيف سيتم هذا الدعم وثمة دول عربية كانت تجد في إسرائيل مخلب قطٍ جيدٍ لمواجهة إيران، هذا قبل أن تتمرغ سمعة إسرائيل العسكرية في وحل غزة؟
كلها أسئلة مفتوحة على احتمالات كبيرة تبدأ محاولات الإجابات عليها في مرحلة ما بعد انتهاء حرب غزة، لكن ذلك لا يمنع فتح قنوات اتصال بين الأردن وحماس، أما عودة مكاتب الحركة إلى عمّان، فالظاهر أن هذا الأمر مستبعدٌ تمامًا في المدى المنظور.
(*) عنوان هذا المقال مستوحى من عنوان رواية شهيرة للكاتبة البريطانية جين أوستن: “كبرياء وتحامل“