في اليوم التالي لهجوم طوفان الأقصى، فتح حزب الله جبهة قتالية إضافية (تضامنية) ضد إسرائيل، عُلّق مصيرها بمصير الحرب الإسرائيلية على القطاع، كما أشار لذلك الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في أكثر من خطاب. بالنسبة لإسرائيل، شكّلت معادلة هذه الجبهة تحدياً “استثنائياً”. من ناحية، شكّلت مبادرة حزب الله إلى قصف المستوطنات الإسرائيلية في المنطقة الشمالية معادلة جديدة تجاوزت المعادلة التي حكمت قواعد الاشتباك بين إسرائيل وحزب الله منذ نهاية حرب تموز- “حرب لبنان الثانية” والتي استندت إلى قرار مجلس الأمن رقم 1701 العام 2006. من ناحية ثانية، وجدت إسرائيل نفسها في مأزق في ظل خيارات محدودة: إما القبول بـ”المعادلة الجديدة” التي يسعى حزب الله لإملائها على إسرائيل (حالة اشتباك مستمر على الجبهة الشمالية مرتبطة بمصير الحرب على قطاع غزة)، أو الدخول في حرب مفتوحة وشاملة على هذه الجبهة إلى جانب الانخراط والتعبئة الكاملة في حربها ضد قطاع غزة (…).
حرب استنزاف مفتوحة؟
على الرغم من الإقرار الإسرائيلي بأن حزب الله لا يريد حرباً شاملة ومفتوحة، وهو من المفترض أن يدفعه باتجاه الإبقاء على حدّة التصعيد الحالية، فإن إيقاع ضربات الجيش الإسرائيلي يشي بأنه ينتقل تدريجياً خلال الأسابيع الماضية من حالة الرد الدفاعي إلى تكثيف الأنشطة الهجومية وعمليات الاغتيال، وخروجاً عن قواعد الاشتباك في مسعىً لتغيير الواقع الذي يحاول الحزب فرضه خلال المواجهة الحالية، وقد تعزّز هذا الأمر وسط تقديرات المستويين الأمني والعسكري الإسرائيليين بأن قوة حزب الله وقدراته العسكرية والتقنيات الأمنية على طول الحدود كانت مفاجئة وفاقت التقديرات السابقة للسابع من أكتوبر/تشرين الأول، ما يحتّم عليها السعي لإضعاف القدرات العسكرية على الحدود بالتزامن مع مطلب الابتعاد إلى ما وراء الليطاني.
وعلى الرغم من أن هذه المواجهة ما زالت تسري في إطار مضبوط وحذر من قبل كل من حزب الله وإسرائيل، حتى الآن، فإنها تُشكّل عبئاً يُضاف للأعباء الإسرائيلية التي ما زالت تتكبّدها منذ السابع من أكتوبر؛
أولاً: أدّت المواجهة على هذه الجبهة إلى إجلاء فوري لقرابة 60 ألف إسرائيلي من سكان المستوطنات المحاذية للحدود مع لبنان وآلاف آخرين تم إجلاؤهم بشكلٍ طوعي.
ثانياً: ألحقت الهجمات التي قام بها الحزب على مدار أكثر من ثلاثة أشهر تدميراً واسع النطاق للبنية التحتية والمنازل والمنشآت في المستوطنات المحاذية للحدود.
ثالثاً: أدّى إجلاء عشرات الآلاف إلى خلق أعباء اقتصادية إسرائيلية (متطلبات الاستيعاب) إلى جانب شلل القطاعات والحياة الاقتصادية في هذه المناطق، وهو ما يُضاف إلى الأعباء الاقتصادية الكبيرة للحرب التي فاقت وفق آخر التقديرات 60 مليار دولار (241 مليار شيكل).
رابعاً: على مستوى الأعباء العسكرية، من حيث الإبقاء على مئات الآلاف من جنود الاحتياط في حالة تأهب، ناهيك عن الخسائر العسكرية الإسرائيلية سواءً في صفوف الجيش، أو حتى تدمير المنشآت العسكرية والتقنيات المزروعة على الحدود (أنظمة المراقبة والتجسّس والاستشعار وغيرها) بعد استهدافها من قِبَل حزب الله.
إن المواجهة المفتوحة المحدودة زمنياً (تستمرّ لأيام محدودة) التي تضع فيها إسرائيل حدّاً لضربات حزب الله، وتفرض تسوية سياسية تضمن عودة سكان المستوطنات، إلى جانب إعادة بناء ميزان الردع في مقابل حزب الله قد تكون وجهة إسرائيل في الفترة المقبلة في حال استمرّ حزب الله في توجيه ضرباته العسكرية
من ناحية أخرى، تُشير التقديرات إلى أن الخسائر والأثمان التي تكبّدها حزب الله بفعل القصف والاستهداف العسكري الإسرائيلي (على مستوى الخسائر البشرية لقيادات وعناصر الحزب، وكذلك القدرات العسكرية) تبدو مقبولة بالنسبة للحزب في إطار محاولة تعزيز الأهداف الاستراتيجية للحزب على النحو التالي:
- في السياق الفلسطيني: إضافة إلى التعبير عن التضامن مع الفلسطينيين في غزة، يسعى حزب الله إلى استنزاف وتحييد الجيش في جبهة إضافية في سياق محاولات منع القضاء على حماس في غزة، أو حتى تقليص إنجازات إسرائيل العسكرية في الحرب.
- في المواجهة مع الجيش الإسرائيلي: الحفاظ على ميزان الردع، بل محاولة تحسينه لصالح الحزب في “اليوم التالي للحرب”.
- في تعزيز المصالح الإيرانية: المساهمة في تعزيز المصالح الإيرانية بتعظيم الإضرار بإسرائيل وإضعافها عسكرياً في ظل استعداد إيران المحدود للرد بشكل مباشر على العمليات الإسرائيلية ضدّها.
- في تعزيز محور المقاومة: تعزيز استراتيجية “وحدة الساحات” في القتال ضد إسرائيل (بالإضافة إلى الحوثيين في اليمن)، والتي كان حزب الله شريكاً مركزياً في صياغتها وتنفيذها بالتعاون مع إيران.
وفقاً لذلك، تُشير التقديرات نفسها إلى أنه وعلى الرغم من “الإنجازات التكتيكية العسكرية” التي يُحققها الجيش الإسرائيلي في الجبهة الشمالية، فإن استمرار الوضع القائم مدّةً أطول سيكون في صالح حزب الله وليس في صالح إسرائيل، وستكون له إسقاطات سلبية بالمعنيين الأمني والعسكري عليها في المدى البعيد. لذلك، تجد إسرائيل نفسها أمام خيارات عديدة، لكن محفوفة بمخاطر وأثمان لا يُمكن الاستهانة بها في ظل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة (…).
سيناريوهات إسرائيلية محفوفة بالمخاطر!
بالنسبة لإسرائيل، تبدو السيناريوهات والتوجهات من أجل “تغيير الواقع الأمني” على الجبهة الشمالية وإعادة سكان المستوطنات مُكلفة في كل حالاتها. من جهة، يبدو سيناريو توجيه ضربة عسكرية كبيرة لحزب الله من أجل إعادة بناء الردع لصالح إسرائيل محفوفاً بالعديد من المخاطر والمعيقات؛
أولاً: على الرغم من التفوق العسكري الإسرائيلي الواضح لصالح إسرائيل من حيث الإمكانيات العسكرية والتقنيات وسلاح الجو، والقدرة على إلحاق الضرر، تُدرك إسرائيل أن هذه الحرب ستُكبّدها خسائر باهظة وغير مسبوقة.
ثانياً: هذه المخاطر تتعزّز مع استمرار تعثّر الجيش في تحقيق الأهداف العسكرية في قطاع غزة (القضاء على حركة حماس)، وهو الأمر الذي يُثير شكوكاً حول قدرته على تحقيق إنجازات واضحة في جبهة قتالية إضافية (حرب شاملة) ضد حزب الله الذي تُقدّر قوته بعشرات أضعاف قدرات حركة حماس وفصائل المقاومة في القطاع.
ثالثاً: ما زالت الولايات المتحدة – حتى الآن على الأقل – ترفض بشكلٍ علني تدحرج المواجهة مع الحزب إلى مواجهة شاملة ومفتوحة، وتدفع إسرائيل للتركيز في حربها على قطاع غزة تحسّباً من التدحرج نحو حرب إقليمية (بين إسرائيل وإيران أو حلفاء إيران)، وهو ما يُثير الشكوك حول قدرة نتنياهو ومعسكر اليمين الداعم لمثل هذا التوجه على تنفيذ ذلك.
رابعاً: تُشير العديد من التقديرات إلى أن الجيش الإسرائيلي مُنهك جسدياً ونفسياً بسبب حرب غزة، ويحتاج إلى فترة إعادة تأهيل تتطلّب أيضاً تغييرات في قيادة الجيش.
من جهة ثانية، إن استمرار إسرائيل بالامتناع عن توجيه ضربة عسكرية كبيرة لحزب الله – كما تفرض الظروف الحالية عليها على الأقل – من شأنه أن يؤدي إلى تآكل الردع مع حزب الله، وهو ما سيترتب عليه تغيير “قواعد اللعبة”- قواعد الاشتباك القائمة على الحدود، ما يعني الانتقال إلى مرحلة جديدة بقواعدها تتجاوز مضمون القرار الأممي 1701 الذي كان كفيلاً بتحقيق استقرار نسبي لإسرائيل منذ العام 2006. بموجب هذه المرحلة، تكون إسرائيل مجبورة على القبول بقواعد جديدة سعى حزب الله إلى تثبيتها على الحدود حتى يوم هجوم طوفان الأقصى، ما يعيدها إلى الوضع نفسه الذي كان قائماً، بل وأسوأ من ذلك بكثير.
من جهة ثالثة، إن رهان إسرائيل على المسار الدبلوماسي الذي تقوده الولايات المتحدة عبر مبعوثها إلى الشرق الأوسط آموس هوكشتاين إلى لبنان، إلى جانب الضغط الفرنسي على الدولة اللبنانية، لا يبدو مُجدياً بالنسبة لحزب الله الذي يرفض القبول بالشروط والإملاءات الإسرائيلية- الأميركية بالعودة إلى ما وراء الليطاني، كما أن الخطة الأميركية التي عملت بموجبها على دفع إسرائيل باتجاه الإعلان عن الانتقال لـ “المرحلة الثالثة” من الحرب على قطاع غزة، بحجّة أن ذلك قد يُساعدها في دفع حزب الله إلى وقف القتال من طرفه بدون إنهاء الحرب بشكلٍ كامل والانسحاب من قطاع غزة، لا تبدو مُجدية حتى هذه اللحظة في تحقيق المطالب الإسرائيلية من حزب الله، ما يعني استمرار الوضع الحالي على ما هو عليه، وتحول هذه الجبهة إلى جبهة استنزاف إضافية لجبهة غزة، وهو ما يعني بالضرورة استمرار الأزمة الداخلية وعدم عودة سكان المستوطنات إليها في الوقت القريب.
ختاماً، تبدو الخيارات الإسرائيلية فيما يخصّ الجبهة الشمالية صعبة ومحفوفة بالمخاطر كما أشرنا أعلاه، لكن هذا الأمر لا يعني أن التلكّؤ الإسرائيلي (في الوقت الحالي) في توجيه ضربة عسكرية كبيرة لحزب الله تؤدي إلى حرب مفتوحة سيستمر، وإنما هو مسألة وقت لا أكثر، طالما لا تؤتي الضربات والاغتيالات الإسرائيلية الحالية (التي يُمكن وصفها بأنها تفاوض بالنار بهدف دعم الجهود الدبلوماسية الأميركية) أي نتائج تُلبّي “حاجات إسرائيل الأمنية” على هذه الجبهة.
إن المواجهة المفتوحة المحدودة زمنياً (تستمرّ لأيام محدودة) التي تضع فيها إسرائيل حدّاً لضربات حزب الله، وتفرض تسوية سياسية تضمن عودة سكان المستوطنات إلى منازلهم في محاولة تخفيف الأعباء الداخلية التي تسبّبت بها هذه الحرب، إلى جانب إعادة بناء ميزان الردع في مقابل الحزب (على الرغم من صعوبة هذا الخيار نسبةً للخسائر التي ستتكبّدها إسرائيل) قد تكون وجهة إسرائيل في الفترة المقبلة في حال استمرّ حزب الله في توجيه ضرباته العسكرية. هذا الخيار يتعزّز إذا ما أخذنا بالاعتبار أن إسرائيل لا تبدو آبهة بالأثمان التي قد تتسبّب بها مواجهة مفتوحة مع حزب الله طالما ستُحقّق لها “إنجازاً عسكرياً” وإعادة بناء ميزان الردع الجديد في مقابل الحزب (…).
(*) لقراءة النص كاملاً، راجع موقع “مدار“