زمن التحولات الكبرى.. دور حاسم للمحور الأوراسي (3)

في الجزأين الأول والثاني من هذه المقالة، تناولنا كيفية تبدل موازين القوى في الإقليم بفعل تراجع السيطرة الغربية وتبلور الدور الحاسم للمحور الأوراسي في الأزمات الإقليمية في الشرق الأوسط. في الجزء الثالث والأخير، ثمة إستكمال للمقاربة إياها من خلال عدد من الأسئلة والخلاصات.

لقد ساعد تحلل آليات النظام العربي في انطلاق ثورات من داخله سُميت “الربيع العربي” كونها نزعت إلى التجديد ووقف التردي ومظاهر الانحطاط ولا يُغيّر في هذا الأمر الخطير، أن تكون قوى خارجية ومنظمات وجمعيات أهلية عالمية قد شجعت على نشوب هذه الثورات عبر صوغ بيانات وإصدار دعوات إلى التحرك والاحتجاج. فهذا الأمر الذي يتصل بديناميات التفاعل بين النسقين الإقليمي والدولي، لا يمكن أن يحجب حقيقة أن المجتمعات العربية في البلاد التي نشبت فيها الثورات، كانت جاهزة لاعتبارات موضوعية للتمرد على النظام الرسمي بدليل الانتشار السريع والمتزامن لشرارة الثورة.

لقد رأينا كيف أن هذه الثورات تزامنت في بلدان عربية عدة، وتفاعلت بالمنسوب إياه، سياسياً وعاطفياً، حيث كانت الشعارات متشابهة، بل متطابقة أحياناً، ضد أنظمة الحكم الاستبدادية والتهميش السياسي والظلم الاجتماعي، ومن أجل إعادة الاعتبار إلى كرامة الإنسان وتجديد الأمل بالمستقبل لملايين الشباب العرب الباحثين عن الحرية والمساواة والتقدم.

الثورة والثورة المضادة

انفجرت الثورات في مجتمعات عربية تمثل مجتمعة توليفاً انتروبولوجياً لتركيبة الدول العربية الـ22 الاقتصادية ـ الاجتماعية المعقدة، فقد كان بينها المجتمع النفطي الغني، والمجتمع المتناسق سكانيّاً، والمجتمع المتعدد المذاهب والطوائف والمجتمع القبلي.. لذلك يصح فيها القول إنها كانت في المحصلة ثورة عربية إقليمية، ضد عناصر الانحطاط والتخلف السياسي والعنف السلطوي والفساد والإهمال، وأن الطابع الإقليمي الشامل هذا يفسر الطريقة المعقدة التي تعاملت بها القوى التقليدية والمحافظة مع هذه الثورة/الثورات، إذ أقدمت حكومات محافظة على التحالف مع تيارات بعينها أو تبنّت قوى معتدلة أو شجعت قوى دينية متطرفة لكي تخرق الثورات وتحرفها عن أهدافها بعدما زودتها بالسلاح والمال، كما ركزت مؤسسات الثورة المضادة على فلسطين لإبعادها عن التيار الثوري الجارف وبالتالي إيجاد المبرّر لتجاهل القضية الفلسطينية بوصفها القضية المحورية للنظام الإقليمي العربي.

ولدى انهيار الستاتيكو الإقليمي تحت وطأة هذا المد الثوري المزلزل، تجلت أزمة غياب القيادة العربية بأجلى صورها وفتح الباب لتركيا بعد إيران لكي تكرّسا سوية التموضع في قلب الجغرافيا السياسية العربية، وهي عملية ستؤدي إلى تنافس تركي ـ إيراني على استقطاب البلاد العربية، ثم إلى تدخل روسيا تحت عنوان منع انهيار النظام السوري وتعويض النقص الغربي في “الحرب على الإرهاب”.

بيئة جاذبة لقوى غير عربية

إن تراكم عوامل القصور والتراجع والانكفاء إلى سياسة المحاور إزاء الأزمات العراقية والسورية والليبية واليمنية، أدت كلها إلى تفتيت السياسة الخارجية العربية وشكلت بيئة جاذبة للنشاطات الإيرانية الثقافية والسياسية تحت عنوان نصرة فلسطين ومواجهة التهديد الإسرائيلي، كما سمحت لتركيا الأردوغانية بأن تطرح “العثمانية الجديدة” بديلاً من النظام العربي معتمدة على طاقتها الاقتصادية وقدرتها على التدخل المتدرج في سوريا وحيازة قواعد عسكرية في منطقة الخليج والبحر الأحمر فضلاً عن تحالفها مع جماعة الإخوان المسلمين واعتماد خطاب مناهض لإسرائيل أكثر في موازاة الخطاب الرسمي العربي.

وكانت إيران سبقت تركيا إلى التموضع الفاعل في إدارة الأزمتين العراقية والسورية، فظهر بوضوح التنافس الإيراني ـ التركي على الزعامة الإقليمية، والتقاطع الروسي ـ الإيراني على احتواء التمدد التركي في الميدان السوري، وذلك قبل أن تقرر البراغماتية الأردوغانية، إعادة التموضع والتقارب مع المحور الروسي ـ الإيراني، بعدما تحوّل استدعاء التدخل الروسي إلى العامل الحاسم في تطورات الأزمة والحرب في سوريا، ثم اقتراب الوجود الروسي من موقع القوة الإقليمية التي لا يمكن تجاوزها وانكشاف هزال السياسات العربية أكثر مع التورّط السعودي المأسوي في الحرب اليمنية، وقبول التدخل العسكري الأميركي والأوروبي في سوريا وليبيا على خلفية حرب عالمية مزعومة ضد الإرهاب.

تشكيلان صراعيان.. مترابطان

تزامن منعطف 2011 العربي مع السنة التي تراجعت خلالها الهيمنة الإقليمية لواشنطن إلى أدنى مستوى منذ الذروة التي بلغتها سنة 1991[1]، عندما نشرت قواتها بشكل دائم في منطقة الخليج على مرأى من الاتحاد السوفياتي الذي كان يعاني سكرات الموت، وسحقت العراق عسكريّاً وحتى ذلك الوقت كان الشرق الأوسط إجمالاً وبصرف النظر عن التعريف الجيوسياسي المعتمد (الشرق الأوسط، الشرق الأدنى، الشرق الأوسط الجديد أو الكبير..) يُعتبر نظاماً دوليًّا فرعيّاً[2]، تشدّه فاعلية شديدة قوامها تشكيلان نزاعیان رئيسيان ومجموعة من التشكيلات الثانوية؛ أما التشكيلان الرئيسيان فهما الصراع العربي – الإسرائيلي ومحوره القضية الفلسطينية أو ما يسمى باللغة الدبلوماسية “النزاع في الشرق الأوسط”، والصراع الإيراني ـ الغربي في الخليج وشبه الجزيرة العربية. بيدَ أنه بات من الصعب لاعتبارات نظرية وعملية الفصل بين التشكيلين الرئيسيين، وذلك لانخراط جمهورية إيران الإسلامية في الصراع العربي ـ الإسرائيلي والتحديات التي راحت تطرحها السياسة الإيرانية ولا سيما البرنامج النووي ومن ثم الاتفاق بشأنه مع الدول الكبرى.

إن الدفع نحو انتظام آليات للتعاون والتنسيق بين المجموعة العربية (التحالف الخليجي المصري) وإيران وتركيا وروسيا، يستدعي تسويات معقدة بين أطراف هذا الرباعي الجيوسياسي على أن يكون المعيار لهذه التسويات السعي إلى ترتيبات إقليمية تحد من تأثير الشراكة الأميركية – الإسرائيلية وتساهم في لجم اتجاهات التطبيع الرامية إلى عزل القضية الفلسطينية

وإذ بات من الصعب الحديث عن التشكيلين المذكورين من دون إدراك ما طرأ من تحوّلات في بيئة الصراع الإقليمي في الشرق الأوسط، حيث أن التشكيل الأول عرف تراجعاً للفاعلية العربية بسبب التطبيع المصري الأردني مع إسرائيل ثم التسوية المثقوبة الإسرائيلية ـ الفلسطينية عبر عملية أوسلو وتداعيات الغزو الأميركي للعراق واغتيال الرئيس رفيق الحريري في لبنان والتداخل بين الملف السوري والوضع العراقي، الأمر الذي عقد صورة النتائج المتولدة من الانتفاضات العربية ومنها تعطيل الدور الإقليمي للدول العربية المركزية (مصر وسوريا والعراق) وتصاعد دور الدول الخليجية والمنظمات غير الحكومية والحركات المسلحة العابرة لحدود الدول. وقد فتح التراجع العربي المجال للتقدم الإيراني في الموضوع الفلسطيني في مرحلة أولى، وتلا ذلك تموضعاً تركياً في مرحلة ثانية.

إقرأ على موقع 180  مُسيّرتا الكرملين.. جبهة مفتوحة من باخموت إلى موسكو

أما التشكيل النزاعي الثاني، فقد استوعب تدريجيًّاً دوراً عربيًّا خليجيًّا بدأ دفاعيًّا أولاً، ثم تحوّل هجوميًّا تحت عنوان الرد على النفوذ الإيراني القادم إلى اليمن بعد البحرين. هذا فضلاً عن الاستقطاب الأميركي ـ الإيراني حول العراق، وانخراط السياسة التركية في اللعبة السياسية العراقية والتقاطع الإيراني ـ التركي على احتواء وضبط نزعة الاستقلال الكردية.

ديناميات الصراع

ولا تكتمل محاولة الإحاطة بالبيئة الدينامية للصراع في الشرق الأوسط من دون تصور مآلات الدور الروسي الجديد، وأبعاد المواجهة حول الأزمة السورية، بين التحالف الروسي الإيراني والكتلة الغربية الأطلسية التي أخذت تضيق منذ بعض الوقت على هامش الشريك التركي النازع إلى التقارب المحسوب مع موسكو وطهران.

وفي هذا الإطار، يُلح السؤال: هل الصراع الروسي ـ الغربي حول سوريا والشرق الأوسط ينطوي على تشكيل نزاعي جديد يصب في الأزمة الانتقالية للنظام الدولي؟

تأتي في هذا السياق أسئلة أخرى تتعلق بالتشكيلات النزاعية الثانوية: ما طبيعة وحدود التوتر السني ـ الشيعي الذي يتمظهر في تيّارات سلفيّة مثل “داعش” و”القاعدة”، أو في النشاطات الإيرانية ضد ما يسمى الخطر”التكفيري” و”التهديد الإرهابي” حيناً آخر؟ في أي خانة من التشكيلات تندرج صراعات المحاور العربية والإقليمية في اليمن وسوريا؟ ماذا عن الخلاف العربي ـ الكردي، والحرب التركية لمنع ظهور الدولة الكردية على الخارطة الإقليمية؟

يمكن أن نستوحي الجغرافيا التكتونية لتصوير البيئة الجيوسياسية للصراع في الإقليم العربي ـ التركي ـ الإيراني، على أنها حركة تدافع وتصادم وتوازن بين كتل تكتونية تمثل مصر والسعودية وإيران وتركيا وإسرائيل، وتندفع إلى نزاعات متدنية او عالية التوتر (سوريا وليبيا واليمن) او تستدعي تدخل قوى كبرى مثل روسيا وأميركا.. الخ.

ما عادت ديناميات الصراع في إقليم الشرق الأوسط وقلبه العربي النابض، تنتظم حول محورين رئيسيين متراكبين يغذي أحدهما الآخر فحسب، بل صار المحور الشرقي الأوسع (إيران وروسيا وتركيا) يمارس تأثيراً أكبر على المحور العربي ـ الإسرائيلي بالنظر إلى تداعيات الحضور الروسي والإيراني والتركي على ميزان القوى الاستراتيجي في الشرق الأوسط.

تقدم المحور الأوراسي

لقد طَفَت على سطح البيئة الإقليمية في الآونة الأخيرة، مؤشرات إيجابية في شبكة العلاقات التركية – الإيرانية، والروسية – التركية، والروسية – الإيرانية، والسعودية ـ الإيرانية، الأمر الذي سمح لبعض المراقبين بالنظر إلى منظومة التعاون والتنسيق بين تركيا وإيران وروسيا باعتبارها مؤهلة لمواكبة المرحلة الانتقالية في سوريا والعراق.

وإذا كان لهذا الاتجاه من التحليل النسقي ما يسنده في تبدل موازين القوى في الإقليم بفعل تراجع السيطرة الغربية وتبلور الدور الحاسم للمحور الأوراسي في الأزمات الإقليمية في الشرق الأوسط، فإن الدفع نحو انتظام آليات للتعاون والتنسيق بين المجموعة العربية (التحالف الخليجي المصري) وإيران وتركيا وروسيا، يستدعي تسويات معقدة بين أطراف هذا الرباعي الجيوسياسي على أن يكون المعيار لهذه التسويات السعي إلى ترتيبات إقليمية تحد من تأثير الشراكة الأميركية – الإسرائيلية وتساهم في لجم اتجاهات التطبيع الرامية إلى عزل القضية الفلسطينية عن محيطها العربي والإسلامي.

[1] المصدر نفسه، ص .242.

[2] أي أنه يتشكل من 3 مجموعات من الدول هي المجموعة العربية وإيران وتركيا فضلاً عن إسرائيل التي تتميز بالجوار الجغرافي وبوتيرة كثيفة من التفاعلات البينية.

(*) الجزء الأول: زمن التحولات الكبرى.. إستقطابات ما بعد الحرب الأوكرانية 

(*) الجزء الثاني: زمن التحولات الكبرى .. القلعة الأميركية – الأوروبية تتصدع 

Print Friendly, PDF & Email
ميشال نوفل

كاتب وصحافي لبناني

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  "هآرتس": ما هي شروط التطبيع بين السعودية وإسرائيل؟