فلسطين حالة قصوى، إذ اغتصبت إسرائيل الصهيونية الأرض، وطردت منها أو من معظمها سكانها العرب الذين كانوا أكثرية ساحقة عند تشكيل دولة الصهاينة عام 1948.. والاعتراف بها نوع من المساهمة فيما فيها، وفي نزع الاستقلال عن فلسطين وعن البلد العربي المعترف به.
لكن بلداناً عربية أخرى فقدت السيادة والاستقلال لمّا عاملت شعبها كما الفلسطينيين، واقتلعت الناس من أراضيهم ودفعتهم إلى خارج قراهم ومدنهم، أو إلى خارج الحدود. ولا تنتصر حكومة على شعبها دون دعم خارجي، أو في الغالب يكون الأمر كذلك.
نرى الآن ازدياد القواعد العسكرية والميليشيات التي تأسست بدعم وتمويل من الخارج. وهي لا تختلف عن القواعد الأجنبية إلا في أن هذه مكانية وتلك ديموغرافية. ولا تمتنع القواعد الأجنبية عن القتال فيما بينها إذا احتاج الأمر، كأن يعتبر أحد المحتلين الآخرين محتلين بينما هو مدافع عن حق الشعب في تقرير المصير. ليس ذلك فقط بل يحتكر هذا الحق ويدين غيره بكثير من كلامولوجيا الشعارات. تعودنا أن نرى الاستعمار غير ما نراه في بلادنا العربية، ما يتطلّب أسساً جديدة لقواعد الخطاب.
كلهم يجاهدون ضد الاستعمار لكنهم يُميّزون بين واحد وآخر. يرون في هذا ما يرفضون وفي ذلك ما يتبعون له ويقبلون منه الدعم، وهذا لا يكون إلا للتشريد
بلادنا على العموم مستعمرة واستعمارها نوع جديد تُساهم فيه سلطاتنا، وما لفلسطين هذه الحالة في وجداننا لولا أنها تمثل واقعاً عربياً نشعر به وندرك بعض ملامحه، ولا نرى ملامحه القصوى إلا بعد فوات الأوان.
نحن شعوب مهاجرة، نازحة، لاجئة، في بلادها. سواء بقيت داخل الحدود أو أزيحت خارجها. كثر أمراء الحرب وصار منهم أهل حكم رسمي. ما يبعث على الإزدراء مشاهدة الأخبار، ومحطاتها كثيرة، ثم سماع التحليلات الجيوستراتيجية بعد ذلك لأفواه لم يغادر أصحابها مدنهم أو قراهم. جميعهم تقريبا يتحدثون بما يجري على الكرة الأرضية. ويُحلّلون أفعال سادتها “بمعرفة” دقيقة كما يزعمون، ولا يبدي أيٌ منهم انزعاجاً أو حتى تساؤلاً حول الكيفية التي صارت بها بلادنا قاعدة لاستعمار من نوع جديد. لائحة جديدة من العارفين بل “المثقفين” الذين لا تغلي رؤوسهم، ولا حتى أقفيتهم، من الحال التي وصلنا إليها، والتي صُرنا بفضلها أكثر شعوب العالم إقتلاعاً من أماكن الولادة. لا تحيد أبصارهم عن حكام يستقبلون ويودعون موفدين يأتون من أجل حلول، لا نرى منها شيئاً. ومؤتمرات لا يختلف فيها الكلام عمّا سبقها. الاجترار سيد الموقف.
سادتنا يستعملون الخطاب السائد في العالم ببيان عربي، ذي كثرة من الأخطاء النحوية، لكنه واضح الدلالة، وهي أن شعوب هذه الأرض لا قيمة لها لديهم وللعالم، وأن المصير المقرر لها يسير نحو الأسوأ، الذي لا نرى له قراراً أو مستقراً.
بلاد كثيرة الموارد والجوع، ينقصها كل شيء يشبع بطون أهلها ويقيها عوارض الطقس؛ ويفيض عنها كل ما يودعه السادة في مصارف أجنبية، وينهبه المحتلون وأمراء الحرب بالإكراه والتشليح.
كلهم يجاهدون ضد الاستعمار لكنهم يُميّزون بين واحد وآخر. يرون في هذا ما يرفضون وفي ذلك ما يتبعون له ويقبلون منه الدعم، وهذا لا يكون إلا للتشريد.
ما سبق في هذه السطور عنوان يحتاج إلى كثير من القول والتشريح علّنا نفهم، لكن الفهم أصبح عصياً لكثرة الضجيج.