تأتي عودة سعد الحريري، بعد مرور أكثر من ست سنوات على “فيتو” سعودي غير معلن رسمياً ضده وسنتين على قراره القاضي بتعليق عمله السياسي وعمل “تيار المستقبل”، وهي الخطوة التي أحدثت خللاً كبيراً في التركيبة السياسية الطائفية للنظام السياسي الطائفي في لبنان، لا سيما أن الطائفة السنية التي يُمثلها الحريري تُشكل غالبية سكانية، وبالتالي، كان لا بد من أن يؤدي هذا الإنسحاب إلى إحداث فراغ لم ينجح أحد في أن يملأه بشكل جدي حتى الآن، خاصة مع غياب المظلة السياسية العربية التي كانت تغطي الحريري كما كانت تغطي تقليدياً زعامة الطائفة السنية في لبنان.
غير أن قرار الحريري لم يأت من فراغ، بل هو نتاج علاقة سياسية مركبة ومعقدة مع المملكة العربية السعودية، بدأت تظهر الخلافات بينهما إلى العلن مع الإعلان الملتبس لاستقالته من رئاسة الحكومة وهو في زيارة الى الرياض في خريف العام 2017 وتفاقمت غداة إستقالته من رئاسة الحكومة في خريف العام 2019، الأمر الذي أفقد الحريري الحصانة والغطاء السعوديين.
وعلى مدى عامين من تعليق العمل السياسي الحريري، صحيح ان الطائفة السنية خسرت مظلتها التقليدية العربية لكنها، في المقابل، لم تخسر أياً من مواقعها الأساسية في التركيبة اللبنانية، إذ لا يزال تمثيل هذه الطائفة مكتملاً في السلطتين التشريعية والتنفيذية، عبر نوابها الـ27 في البرلمان وعبر رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وحصة السنة نفسها في السلطة التنفيذية الحالية. ومع ذلك، فإن جمهور “تيار المستقبل” عاش خلال العامين المنصرمين حالة عميقة من الإحباط، وهو يرى أن شخصيات سياسية مناهضة له وأخرى مستقلة انتزعت منه ما يعتبره حقاً حصرياً له كممثل للطائفة السنية في السلطتين التنفيذية والتشريعية كما في الإدارات والوظائف العامة.
إن قرّر الحريري خوض هذا التحدي فإنه يكون هذه المرة كمن يُغامر بادخال لبنان في مواجهة سياسية وشخصية قاسية ومفتوحة مع محمد بن سلمان، لأنه بذلك لا يكون قد تخلى فقط عن “السكسوكة” السعودية بل أيضاً عن خيار سياسي إقليمي كبير أرساه والده الراحل منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي حتى الأمس القريب
لم ينسحب الحريري بشكل تقليدي. فقد وفّر له الشيخ محمد بن زايد، أمير دولة الامارات، مقراً مؤقتاً للسكن وإدارة أعماله بعد أن أخرجه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من جنة التعهدات الملكية ذات المدخول الهائل في المملكة العربية السعودية ووضع يده على كل الأعمال التي كان يديرها آل الحريري هناك واكبرها شركة “سعودي أوجيه” التي جرى بيع أصولها وتصفيتها ومن ثم دفع تعويضات لمعظم موظفيها ممن رفعوا دعاوى قضائية ضد الشركة.
ومن يُراقب إطلالة الحريري (اللوك) هذه السنة، يتبين له أنها نقيض “اللوك” الذي حافظ عليه منذ دخوله المعترك السياسي بعد اغتيال والده عام 2005 ودأب عليه حتى فترة قصيرة قبل عودته هذا العام، حيث كان يحرص على طول شعره وعلى ذقنه المشذبة (يسمونها “سكسوكة” باللهجة العامية اللبنانية)، وهو “لوك” لطالما كان يرتبط ـ أقله في ذهن اللبنانيين ـ بالأمراء السعوديين بصورة خاصة، فهل من علاقة بين “اللوك” والخيار السياسي الذي سيعتمده الحريري في القادم من الأيام؟
قد يبدو الأمر سخيفاً أن يحاول المرء الاستدلال بـ”اللوك” الشخصي لتحليل معطى سياسي بمستوى طائفة وازنة أو إعادة تشكيل المؤسسات الدستورية اللبنانية بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية؛ غير أن الحملة الإعلامية التي سبقت ورافقت عودة الحريري هذا العام تؤكد أننا لسنا أمام حركة شعبية عفوية بل ثمة هندسة سياسية وإعلامية دقيقة بدأت بسلسلة من المقالات الصحفية استبقت عودة الحريري بأيام وأسابيع قليلة وراحت تتحدث عن “الفراغ” و”الاحباط” في الشارع السني وتطرح أسئلة العودة واللاعودة الحريرية!.
كما كانت لافتة للإنتباه تظاهرات السيّارات والدراجات النارية التي عاشتها العاصمة بيروت، عشية عودة الحريري، بالإضافة إلى رفع لافتات وصور ضخمة في شوارعها الرئيسية. ويجب الا نُغفل برنامج الإستقبالات السياسية الذي شهده “بيت الوسط” وشمل سفراء أجانب (أبرزهم سفيرا روسيا والولايات المتحدة) وعرب (أبرزهم سفير مصر)، فضلاً عن معظم ألوان الطيف السياسي في لبنان.. كُلُ ذلك يُمكن وضعه في خانة محاولة خلق مناخ سياسي وشعبي ضاغط يُؤسّس لرفع “الفيتو السعودي”.
ويقول قياديون في تيار المستقبل إن قرار دعوة الحريري وعمته بهية والأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري إلى العيد الوطني السعودي في أيلول/سبتمبر الماضي، كان أول إشعار سعودي بانتهاء مرحلة محاربة الحريري، وبالتالي نحن أمام مرحلة جديدة عبّرت عنها مُجدداً مبادرةُ قناتي “العربية” و”الحدث” باجراء مقابلة صحافية على الهواء مباشرة مع سعد الحريري من دارته في وسط العاصمة، ضمّنها مواقف حادة ضد حزب الله، فضلاً عن إعلان موقف حاسم باستمرار تعليق العمل السياسي في هذه المرحلة. وفي الوقت نفسه، لوحظ أن السفير السعودي وليد البخاري لم يزر ضريح رفيق الحريري ولا دارة سعد الحريري ولم يكلف أحدا بهذه المهمة أو تلك بالنيابة عنه!
هذا الموقف السعودي الملتبس يحيلنا إلى فرضية مختلفة، فالحريري القادم من أبو ظبي، وبعد أن ثبّت أقدامه وأعماله هناك، في ظل تنافس غير خفي بين الإمارات والسعودية على صعيد منطقة الخليج، وفي ظل تمايز إماراتي عن السياسة السعودية يبدأ من اليمن والصومال ولا ينتهي في تغطية الحرب “الإسرائيلية” على قطاع غزة، بعد كل ذلك، وفي ظل شهر عسل إماراتي أميركي مستمر مقابل جفاء سعودي أمريكي، يصبح السؤال المشروع هل يُقرّر الحريري في المرحلة المقبلة تحدي الإرادة السعودية والعودة إلى العمل السياسي تحت مظلة دولة الإمارات؟ والأصح هل قرّرت الإمارات أن تُسجل هدفاً ثميناً في المرمى السعودي في لبنان عبر رعايتها عودة الحريري بالإتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية؟
من المبكر الاجابة على هذا السؤال، فالأمر ليس بهذه السهولة، وخطوة بهذا الحجم من الأهمية والخطورة تقتضي توفير ضمانات سياسية وأمنية أمريكية، ناهيك بضرورة الحصول على الغطاء المصري وهو الأمر المتعذر في ظل الأوضاع الإقتصادية الراهنة لمصر التي تحتاج فيها لكل مساعدة ممكنة من السعودية. وعلى أي حال، إن قرّر الحريري خوض هذا التحدي فإنه يكون هذه المرة كمن يُغامر بادخال لبنان في مواجهة سياسية وشخصية قاسية ومفتوحة مع محمد بن سلمان، لأنه بذلك لا يكون قد تخلى فقط عن “السكسوكة” السعودية بل أيضاً عن خيار سياسي إقليمي كبير أرساه والده الراحل منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي حتى الأمس القريب.