الجبهات الأوكرانية العطشى إلى الذخائر وسائر الامدادات الغربية، والأميركية منها تحديداً، هي اليوم في موقف دفاعي، وتحت ضغط روسي متواصل لإحداث اختراقات تعيد ترجيح كفة موسكو على الأرض، بما يقنع واشنطن أن هزيمة روسيا في أوكرانيا متعذرة، وبأنه لا بد للجلوس إلى طاولة الحوار. هذه كانت خلاصة مقابلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع المذيع الأميركي المحافظ تاكر كارلسون.
التأخير الحاصل في المساعدات العسكرية الأميركية، بسبب إصرار الجمهوريين على أن الحدود الجنوبية للولايات المتحدة مع المكسيك هي أهم بكثير من الحدود الأوكرانية مع روسيا، انعكس انسحاباً أوكرانياً من مدينة أفدييفكا في منطقة دونيتسك قبل أيام، برغم أهمية هذه المدينة استراتيجياً ورمزياً. نصح القادة العسكريون الأميركيون الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأن لا يُكرّر الخطأ الذي ارتكبه في باخموت قبل عام عندما أصر على التشبث بالمدينة في مواجهة هجمات شركة “فاغنر” التي أفقدت الجيش الأوكراني نخبة مقاتليه، مما كان سبباً رئيسياً في الهجوم الأوكراني المضاد في الصيف.
يُقرّ رئيس الأركان الأوكراني الجديد الجنرال أولكسندر سيرسكي بأن الوضع على الجبهات “معقد جداً”. هذا رأي لا يختلف كثيراً عما قاله سلفه الجنرال المعزول فاليري زالوجني من أن الحرب وصلت إلى “طريق مسدود” عقب فشل الهجوم المضاد. وفي الأيام الأخيرة، بدأ زيلينسكي، بناء على تقارير سيرسكي، يعترف بأن “الوضع بالغ الصعوبة”، ويناشد الكونغرس الأميركي التغلب على الصعوبات التي تعترض اقرار المساعدة العسكرية لأوكرانيا البالغة 61 مليار دولار، تحت طائلة التعرض لخسارة المزيد من الأراضي. أما الإتحاد الأوروبي الذي وعد أوكرانيا بمليون قذيفة مدفعية بحلول آذار/مارس المقبل، فلن يكون قادراً على الوفاء إلا بنصف الكمية.
عامان انصرما على حرب تُعيد تشكيل العالم أو على الأقل وضعته في طور إعادة التشكيل.. والهزيمة الاستراتيجية التي توخت أميركا الحاقها بروسيا لم تتحقق حتى الآن، برغم الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا وبرغم فرض 16500 عقوبة على الكرملين
وفي المقابل، يتمتع الجيش الروسي الآن بتفوق عددي وتسليحي، وتمكن من تعويض الكثير من النقص في الذخائر من طريق الاستعانة بقذائف وصواريخ من كوريا الشمالية. كما اعتمد خلال العام الماضي على مسيّرات “شاهد-136” الإيرانية لإرهاق الدفاعات الجوية الأوكرانية. وهناك قلق أميركي جدي من احتمال تزويد طهران لموسكو بصواريخ “فاتح-110″ و”ذو الفقار”.
التعقيدات على الجبهة، انعكست تراجعاً في شعبية زيلينسكي، الذي تنتهي ولايته الرئاسية في أيار/مايو المقبل. لكن بموجب القوانين العرفية المفروضة في البلاد، ستُرجأ الانتخابات الرئاسية إلى أجل غير مسمى. وهذه خطوة لا تصب في مصلحة زيلينسكي الذي بدأ يظهر له منافسون جدّيون من زالوجني إلى رئيس بلدية كييف فيتالي كليتشكو إلى الرئيس السابق بيترو بوروشنكو.
ولا حاجة إلى كبير عناء لتلمس تآكل الدعم الأوروبي أيضاً. عند الحدود مع أوكرانيا، يقف مزارعون بولنديون غاضبون ليقفلوا الطريق أمام شحنات القمح الأوكراني. هذه الحدود نفسها كانت قبل عامين بالضبط رمزاً للتأييد العارم الذي حظيت به كييف في أوروبا. ملايين من اللاجئين الأوكرانيين عبروا الحدود البولندية من دون أوراق ثبوتية إلى بقية أنحاء أوروبا والعالم، واستقر نحو مليون منهم على الأراضي البولندية مع تمتعهم بكل الامتيازات التي يستفيد منها المواطنون البولنديون.
لحظة التضامن هذه ضاعت عندما شعر المزارعون البولنديون أن محاصيلهم الزراعية ليست قادرة على منافسة القمح الآتي من أوكرانيا، ليتمردوا على توصية الاتحاد الأوروبي بالاستمرار في فتح الأسواق أمام المنتجات الأوكرانية، كوسيلة من وسائل دعم أوكرانيا في الحرب ضد روسيا. ما يجري في بولندا يسري أيضاً على بلغاريا ورومانيا.
الأدهى من ذلك، أظهر آخر استطلاع للرأي نشرته مجلة “الإيكونوميست” البريطانية، الأسبوع الماضي، أن 10 في المئة فقط من المواطنين الأوروبيين يعتقدون أن في امكان أوكرانيا استعادة أراضيها بالقوة.
الحرب الروسية-الأوكرانية، تُمعن في تغيير وجه أوروبا. الاستغناء عن الطاقة الروسية الرخيصة، والاستعانة بالطاقة الأميركية الأغلى بأربعة أضعاف، يُرهق الاقتصادات الأوروبية ويرفع التضخم. وألمانيا مثال فاقع على المعاناة. وينعكس ذلك على ميول المواطنين الذين يميلون إلى أجندات اليمين المتطرف. والبعض يُشبّه الوضع بذاك الذي كان سائداً إبّان “جمهورية فايمار” في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي عندما صعد النازيون إلى الحكم على خلفية وضع اقتصادي كارثي. اليوم، تظهر الاستطلاعات أن حزب “البديل من أجل ألمانيا” سيحل أولاً في انتخابات البرلمان الأوروبي في حزيران/يونيو المقبل، متخطياً الحزبين التقليديين: الاشتراكي الديموقراطي بزعامة المستشار أولاف شولتس والاتحاد المسيحي الديموقراطي المعارض.
نتائج اليمين المتطرف، بحسب الاستطلاعات هي الأفضل في فرنسا أيضاً ودول أوروبية أخرى، ويستعد رئيس الوزراء المجري اليميني المتطرف فيكتور أوربان لملاقاة أحزاب اليمين المتطرف لتشكيل أكبر كتلة في البرلمان الأوروبي.
على أن صعود اليمين المتطرف ليس الظاهرة الوحيدة التي تؤرق أوروبا. هناك سباق التسلح والانفاق العسكري، فالدول الأوروبية لم تعد تملك ترف الاتكال على الحماية الأميركية، عقب تهديد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الأوفر حظاً بنيل ترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية في 5 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، بتشجيع روسيا على مهاجمة دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي إذا كانت لا تدفع مستحقاتها المالية المتوجبة عليها للحلف وهي 2 في المئة من إجمالي دخلها القومي. هناك 18 دولة من أصل 31 تفي بالتزاماتها المالية.
بايدن لو نجح في البقاء في البيت الأبيض لولاية ثانية، سينشغل أكثر بالجبهة الآسيوية
هيمنت هذه التهديدات على مؤتمر ميونيخ للأمن، الأسبوع الماضي، وأعادت إحياء فكرة أن أوروبا يجب أن تعتمد على نفسها عسكرياً، من الآن فصاعداً. وهذه الحكومة البريطانية تروّج لفكرة “جيش المواطنين”، لمواجهة النقص في الإقبال على التطوع في الجيش.
أوروبا التي اعتادت منذ الحرب العالمية الثانية الاتكال على الحماية الأميركية، تستفيق الآن على واقع أن روسيا التي تنفق 7.1 في المئة من إجمالي ناتجها القومي على التسلح، ستتمكن من الآن وحتى عام 2027 من إعادة بناء قوتها العسكرية التي فقدتها في الحرب الأوكرانية، والعودة تالياً لتُشكّل تهديداً هذه المرة لدول أعضاء في الأطلسي. فكيف سيستوي الأمر في حال استمر الميل الانعزالي لدى الجمهور الأميركي بوجود ترامب أو من دونه. ويُقال إن الرئيس جو بايدن لو نجح في البقاء في البيت الأبيض لولاية ثانية، سينشغل أكثر بالجبهة الآسيوية.
أمام هذه الوقائع التي فرضتها الحرب الروسية-الأوكرانية، لن يكون متاحاً لأوكرانيا إعادة بناء قوة هجومية قبل 2025، حتى ولو أقر الكونغرس المساعدات العسكرية، وحتى ولو أبرمت كييف مزيداً من الاتفاقات الأمنية مع دول أوروبية.
عامان انصرما على حرب تُعيد تشكيل العالم أو على الأقل وضعته في طور إعادة التشكيل.. والهزيمة الاستراتيجية التي توخت أميركا الحاقها بروسيا لم تتحقق حتى الآن، برغم الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا وبرغم فرض الغرب 16500 عقوبة على الكرملين (آخرها 500 عقوبة يوم الجمعة الماضي).
أمام هذا المأزق ألا يفترض بالولايات المتحدة إعادة النظر في استراتيجيتها؟ هذا استحقاق متروك لما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية التي على ضوء نتائجها يتقرر الكثير بالنسبة لمستقبل النزاع في أوكرانيا.