لبّت الفصائل الفلسطينية دعوة روسية للقاء في إحدى ضواحي موسكو، برعاية وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وذلك بهدف تحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية وفق قواعد محددة تنهي عقدين من الإنقسامات داخل البيت الفلسطيني، تمهيداً للخوض في تعقيدات ملف ما بعد انتهاء حرب غزة الذي صار متعارفاً عليه أميركيا بـ”اليوم التالي”.
وتحافظ روسيا على قنوات اتصال دائمة مع كافة الفصائل الفلسطينية، بدليل أن 12 من أصل 14 فصيل فلسطيني لبّوا دعوتها. وخلافاً لدول أخرى، لا تصف موسكو أياً من الفصائل الفلسطينية بأنها “إرهابية”، بل وتؤمن بأن الحل لا يمكن أن يكون بتجاهل أي طرف له ثقله السياسي أو العسكري على الأرض. وتؤمن بأن حل القضية الفلسطينية بتبني حل الدولتين على أساس قرارات الشرعية الدولية وأنه من دون حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية لن تنعم منطقة الشرق الأوسط باستقرار دائم.
الفصائل الفلسطينية المتمسكة بمواقفها، والتي تدرك بأن ما تريده موسكو أمر بعيد المنال (توافقهم الداخلي أولاً وتفاوضهم مع إسرائيل كطرف واحد ثانياً)، لا يُمكن أن ترفض الدعوة الروسية، وهي في اللاوعي توقن بأن روسيا ليست قادرة على تغيير الوضع، بل لا بد من شراكة مع الولايات المتحدة (المُموّل الرئيس للسلطة الفلسطينية) والاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى بعض الدول العربية الوازنة.
كما أن أوزان الفصائل الفلسطينية سياسياً ودورها على الأرض كما في حياة المجتمع الفلسطيني متفاوتة للغاية، والمسافة التي تفصل هذا الفصيل أو ذاك عن هموم المواطن الفلسطيني وواقعه متفاوتة أيضاً، وكذلك هي مواقف هذه الفصائل متباينة للغاية.
ثمة من يقول من الفصائل المشاركة أن مدة صلاحية فكرة “حكومة الوحدة الوطنية” قد انتهت، وبالتالي أصبحت أولوية الظرف الراهن تتمثل في وقف المجازر التي ترتكب بحق الفلسطينيين، أما أدوات التأثير الحقيقي على إسرائيل فموجودة فقط لدى الولايات المتحدة! هذه حقيقة لا جدال فيها، فواشنطن أكثر قدرة على التأثير على تل أبيب من أي طرف آخر
هذا التفاوت يُدركه جيداً الداعي لهذه الاجتماعات، أي معهد الاستشراق الروسي التابع لأكاديمية العلوم الروسية (مؤسسة أكاديمية يديرها فيتالي ناومكين)، وبرغم عدم احراز تقدم جدي في ملف التوافق منذ أعوام خلت، يُكرّر القائم على المعهد فيتالي ناومكين المحاولة، فيبادر إلى جمع الفصائل الفلسطينية في مبنى تابع لوزارة الخارجية الروسية، ويلتقي بها وزير الخارجية مجدداً ويدعوها للحوار والاتفاق ويعرب عن موقف موسكو الداعم لحقوق الشعب الفلسطيني وينسحب ليترك الفصائل تتفاوض برعاية معهد الإستشراق، ولكن النتيجة كانت أقل مما يشتهي الداعون، بدليل الإكتفاء ببيان إدانة لا يُغني ولا يُسمن من جوع ربطاً بمجزرة شارع الرشيد التي ذهب ضحيتها أكثر من مائة شهيد وحوالي الألف جريح فلسطيني.
وكان لافتاً للإنتباه قول المتحدث الرسمي باسم الكرملين إن جدول أعمال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “لا يتضمن لقاء ممثلي حركة فتح وحركة حماس” الموجودين حالياً في العاصمة الروسية، في إشارة مبطنة إلى امتعاض موسكو من الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي لم يتجاوب مع دعوته شخصياً إلى اللقاء (وعدت سلطة رام الله بتلبية الدعوة بشكل مستقل لاحقاً)، حاله كحال رئيس المكتب السياسي في حركة “حماس” إسماعيل هنية، فكان قرار عقد الإجتماع بحضور ممثلين عن الفصائل وليس بحضور قادتها.
وتريد موسكو من خلال هذه الاجتماعات أن تُذكّر بوجودها – وقد انحسر دورها في الملف الفلسطيني بعد أن أزاحتها الخماسية التي باتت تملك مفاتيح الأمور (الولايات المتحدة وقطر والإمارات ومصر والأردن). وبات دور الوساطة الروسية مرفوضاً إسرائيلياً اثر فتور العلاقات بين الطرفين منذ بداية الحرب في أوكرانيا ومواقف إسرائيل منها.
وجاءت الحرب في غزة لكي تُدعّم الموقف الروسي في الكثير من النواحي، اذ فضحت ازدواجية المعايير لدى الغرب، الذي فرض آلاف العقوبات على روسيا ولم يفرض أياً منها على إسرائيل. إعلامياً، جذبت غزة الانتباه الاعلامي عن أوكرانيا، كما أن تدفق الدعم العسكري إلى إسرائيل حرم أوكرانيا من بعضه (أوقف الكونغرس الأميركي الدفعة الأخيرة من المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا بقيمة 61 مليار ولم يوقف الدعم العسكري لإسرائيل). ولكن كل هذا لا يعني أن روسيا تدعم أياً من الأطراف في هذه الحرب. وبرغم الشوائب التي سادت العلاقات الروسية الإسرائيلية في الآونة الأخيرة، إلا أنها تبقى علاقات قوية وما زالت موسكو تراهن على دور الوسيط في حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، علماً أن خُمس سكان إسرائيل من الناطقين باللغة الروسية!
وبرغم الاختلاف بين الواقع والمأمول، وإن فرضنا جدلاً ومجازاً أن لقاء موسكو حقّق مبتغاه ونجح في تكوين حكومة وحدة وطنية، فلن تقبل بها لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة ولا الإتحاد الأوروبي، حيث أن هذه الأطراف ترى في حركة “حماس” مجرد تنظيم “إرهابي” يجب شطبه نهائياً!
وثمة من يقول من الفصائل المشاركة إن مدة صلاحية فكرة “حكومة الوحدة الوطنية” قد انتهت، وبالتالي أصبحت أولوية الظرف الراهن تتمثل في وقف المجازر التي تُرتكب بحق الفلسطينيين، أما أدوات التأثير الحقيقي على إسرائيل فموجودة فقط لدى الولايات المتحدة! هذه حقيقة لا جدال فيها، فواشنطن أكثر قدرة على التأثير على تل أبيب من أي طرف آخر.
اذاً، أبرز ما في لقاء موسكو، هو اللقاء بحد ذاته، وربما التركيز الإعلامي العربي عليه (في وسائل الإعلام الروسية لم يرد في العناوين، حتى في تلك الناطقة بالعربية منها). صحيح أن لقاء الفصائل أعاد بعض الاهتمام الإعلامي للعاصمة الروسية. ولكنه لم ولن يمنح موسكو فرصة تحقيق اختراق ما، كاختراق الصين عندما أعلنت عن توقيع الاتفاق التاريخي بين الرياض وطهران على أرض بكين.. زدْ على ذلك، أن القاصي والداني يُقّر بأن موسكو صاحبة مصلحة موضوعية في إطالة أمد الحرب في غزة، من أجل استنزاف القدرات الأميركية في دعم اسرائيل نظراً لأهمية موقعها ودورها بالمعنى الإستراتيجي في صلب الإستراتيجية الأميركية والغربية في منطقة الشرق الأوسط، وهذا ما يُخفف عن كاهل موسكو في مواجهتها المفتوحة مع الغرب على الأرض الأوكرانية.
هذا وقد أصدرت الفصائل الفلسطينية، في نهاية الاجتماع، بياناً أعلنت فيه عن اتفاقها على مواصلة اجتماعاتها للوصول إلى وحدة وطنية شاملة تضم القوى والفصائل الفلسطينية كافة في اطار منظمة التحرير الفلسطينية. كما أكدت الفصائل على توافقها على المهمات الملحة أمام الشعب الفلسطيني ووحدة عملها من أجل تحقيقها وفي مقدمتها: التصدي للعدوان الإسرائيلي، مقاومة ووقف وافشال محاولات التهجير، العمل على فك الحصار وايصال المساعدات الإنسانية والحيوية والطبية دون قيود أو شروط، اجبار جيش الاحتلال على الانسحاب من غزة، رفض أي محاولات لفصل القطاع عن الضفة الغربية بما فيها القدس، والتصدي لمؤامرات الاحتلال وانتهاكاته المستمرة ضد المسجد الأقصى والتأكيد على حماية وكالة الغوث الدولية ودورها الحيوي.