لقد سقط قناع شعار “الدفاع عن حقوق الإنسان” بالنسبة لسلطات دولٍ استخدمت حقّ النقض في مجلس الأمن ضدّ قرارٍ يطالب بوقف الإبادة الجماعيّة في فلسطين، كما لسلطاتٍ أخرى اختبأت وراء الـ”فيتو” الأمريكي، والأمر نفسه بالنسبة لسلطاتٍ تكيل بمكيالين حسب مصالحها.
لقد سقط أيضاً قناع “معاداة السامية” على خلفيّة الاستخدام الموارب لتلك المقولة وإخراجها من سياقها التاريخي الأوروبي.. وأنّ ما حدث في 7 تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي يماثل “المحرقة اليهوديّة” التي ارتكبها النازيّون الألمان، وأنّ أيّ انتقاد أو احتجاج حيال الإبادة الجماعيّة في غزّة يشكّلان معاداةً للساميّة. كما سقط قناع “حريّة الرأي والتظاهر” كأساس “للديموقراطيّة الغربيّة” عبر قمع الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الغربيّة المطالبة بوقف العدوان والقتل.
وسقط قناع أنّ مقولة “حضارة غربيّة” تقوم على قيم إنسانيّة وعبر إقرار الكونغرس الأمريكي منح 26 ملياراً من الأسلحة والذخائر إلى إسرائيل في الوقت ذاته الذي يُهدّد به جيشها باجتياح رفح، بينما يتبجّح بنيامين نتنياهو أنّ سياساته تتموضع في صلب الدفاع عن هذه “الحضارة الغربيّة”. وأيضاً سقط قناع “احترام سيادة الدول” مع صمت نفس الدول التي تدّعي التمسّك بمبادئ الأمم المتحدة عن الانتهاكات اليومية لسيادة لبنان وسوريا وغيرها ومع الفيتو” الأمريكي على قبول دولة فلسطين عضواً كاملاً في هيئة الأمم، بينما تدّعي الولايات المتحدة أنّها تدعم حلّ الدولتين.
أوّل المصدومين جدّاً من هذا السقوط الفاضح للقيم والمفاهيم هم أساتذة وطلاب الجامعات الغربيّة، قبل غيرهم. لقد ظهر جليّاً أنّ أسس ما يعلّمونه وما يتلقّونه من تعليم، ليس سوى مفاهيم لا يلتزم بها حكّام دولهم وقوّات الأمن عندهم، حيالهم في الداخل كما حيال الدول الأخرى الأكثر ضعفاً. هكذا بات المشهد يشبه سنين القرن التاسع عشر حين تمّ إطلاق إعلان حقوق الإنسان والمواطنة في فرنسا بالتلازم مع أكبر هجمة استعماريّة في تاريخ البشريّة منذ اجتياحات جحافل السهوب المغولية. وللتذكير من النادر أنّ قادة الفكر والرأي في الغرب قد تجرّؤوا على مواجهة هذه الصلافة في إطلاق مبادئ إنسانيّة بالتزامن مع دعم الوحشيّة بكامل بشاعتها كما يحصل اليوم على أرض فلسطين.
ليس غريباً في هذه الأجواء ظهور إعلانات في بعض شوارع باريس عن عروضٍ لشركات لإقامة مأوى نوويّ. ما لا معنى له سوى فشل سياسات الحكّام في الغرب والهروب إلى الأمام. وكأنّ الأمر تحضيراً لوصول اليمين المتطرِّف في أقرب انتخابات قادمة، كما هو متوقعّ بالنسبة لعودة دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة
ليس واضحاً أين ستُأخذ الاحتجاجات الطلابيّة والجامعيّة، وما مدى صدمة الوعي التي أطلقتها؟ بخاصّةً أنّ الحكومات التي أبرزت هذه الصلافة والتلاعب بالقيم، ليست حكومات اليمين المتطرّف، بل تلك التي تدّعي أنّها تقوم على أسسٍ “ديموقراطيّة” و”ليبرالية”. وربّما يُمكِن هنا العودة إلى أن أكثر الحكومات الغربيّة شراسةً وإيغالاً في منطق الاستعمار، كانت تلك التي تقوم على أحزابٍ تدّعي “الاشتراكيّة”، على غرار الحكومة الاشتراكيّة الفرنسيّة التي دفعت بحروب فيتنام والجزائر والعدوان الثلاثي على مصر، دون أيّ رادع قيمي “اشتراكي”. كما يُمكِن مقارنة سقوط قيم “الديموقراطيّة” و”الليبرالية” اليوم بسقوط قيم “الاشتراكيّة” و”الشيوعيّة”، حين قمع الاتحاد السوفياتي السابق، توجّهات الشعوب، حتّى “الاشتراكيّة” منها، في هنغاريا-المجر ثمّ في تشيكوسلوفاكيا.
باختصار تسقط اليوم مقولة “الحضارة الغربيّة” كأساس للحريّات الفرديّة والجماعيّة كما سقطت قبلها “الشيوعيّة السوفياتيّة” كأساس لتحرّر الطبقات العاملة المضطهدة والشعوب. وبالمقابل، لم يبقَ سوى صلافة أولويّة المصالح. وليس تحديداً مصالح الدول ككيانات مؤسسيّة تخدم مواطنيها، بل مصالح متنّفذين ومجموعات ضغط وشركات سلاح وغيرها، تقوم بتمويل العمليّات الانتخابيّة وتوجّه النوّاب تبعاً لمصالحها.
مقابل هذا الانقسام المجتمعي في “الغرب”، يلجأ الحكّام إلى نشر الخوف لدى مواطنيهم. الخوف من الإسلام على أنّه عنيف وهمجيّ، متناسين أنّهم هم من شجّع واستخدَم وسلّح المتطرّفين الإسلاميين لمناهضة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، قبل أن ينقلب هؤلاء عليهم. وهم من دعموهم لكسر رياح الحريّات التي انطلقت مع “الربيع العربي”. وهم من أرسلوا المقاتلين الجهاديين دون رادع من كلّ بقاع الدنيا للقتال في سوريا “أرض الجهاد”، قبل أن يرسلوا قوّاتهم العسكريّة لمحاربتهم. وهاهم منظّرو الحكّام في فرنسا “العلمانيّة” يقومون بتهييج العامّة فقط ضد امرأة ارتدت حجاباً، دون المظاهر الدينية الأخرى، والسياسيّون يحذّرون من خطر نزعة “الانفصال” لدى المسلمين في البلاد، وكأنّهم ليسوا جزءاً من مجتمعهم.
يضاف إلى ذلك التخويف من إيران وروسيا والصين. والقول إنّ هذه الدول تستخدم التجسّس الالكتروني، وكأنّهم لا يفعلون أنفسهم ذلك. والقول أيضاً إنّ روسيا لن تكتفي بأوكرانيا بل هي قادمة لتغزو برلين وباريس، وبالتالي ينغمسون في صراعٍ كانوا هم أصلاً طرفاً في إطلاقه، ولا نهاية عقلانيّة له سوى التوافق بينهم وبين روسيا على حلٍّ سلميّ. وأنّ عليهم إقامة أنظمة دفاع صاروخي كتلك التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي، وكأنّ وسائل ردعهم النوويّة لم يعُد لها معنى. والتخويف أنّ “عظمة أمريكا” ستزول أو أن “أوروبا ستموت”، حسب تعبير الرئيس الفرنسي مؤخّراً.
وليس غريباً في هذه الأجواء ظهور إعلانات في بعض شوارع باريس عن عروضٍ لشركات لإقامة مأوى نوويّ. ما لا معنى له سوى فشل سياسات الحكّام في الغرب والهروب إلى الأمام. وكأنّ الأمر تحضيراً لوصول اليمين المتطرِّف في أقرب انتخابات قادمة، كما هو متوقعّ بالنسبة لعودة دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة أو في الانتخابات الأوروبية القادمة. لكنّ هناك قناعة شعبيّة تنتشر اليوم أنّ سياسات هذا اليمين المتطرّف لن تكون أسوأ من سياساتهم.
تداعيات هذا المشهد الغربي كبيرة اليوم في العالم الآخر غير “الغربي”، الذي لم يعُد “عالماً ثالثاً” كما كانوا يسمّونه. بل أضحت هناك قوى اقتصاديّة ناهضة ضمنه. كما في بعض الدول “الغربيّة” كإسبانيا وبلجيكا وإيرلندا. جرأة هذه البلدان في مواجهة سقوط القيم “الغربيّة” وسياسات حكومات إسرائيل والولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى هي ذات حضور أقوى من حضور دول عربيّة، بما في ذلك تلك التي لها مكانتها على الساحة العالميّة.
إنّ الدول العربيّة إمّا مكبّلة منغمسة بخلافاتها أو غير معنيّة (!) أو تلعب دور الوسيط.. مع الجنون القائم (!). ولا احتجاجات طلابيّة إلاّ ما ندر أمام سقوط القيم والمفاهيم.
قال الرئيس الفرنسي مؤخّراً إنّ “أوروبا قد تموت”. لكن عن أيّ أوروبا يتحدّث حقّاً؟ إنّ “القارة العجوز” ليست بلداً كالولايات المتحدة وروسيا أو الصين. بل مجموعة من الدول توافقت على العمل سويّةً والتعاون الوثيق على أساس بعض القيم الأساسيّة. وبالطبع يمكن لأوروبا أن تموت. هذا مع سقوط القيم التي قامت عليها وبالتأكيد ليس من خلال الحروب العسكريّة.
(*) بالتزامن مع “الشروق“