“بنيامين نتنياهو، “رجل الأمن”، و”الاستراتيجي”، أوصلنا إلى هذا المستنقع العميق، وإلى أخطر أزمة أمنية في تاريخ الدولة. ومجموعة التهديدات الناجمة عن ذلك قد تكون وجودية، لذلك، المطلوب معالجة فورية. هذه الأزمة ليست قدراً. لقد قادنا نتنياهو من تقصير أمني وطني إلى آخر، وصولاً إلى 7 أكتوبر. فعل ذلك بغطرسة لا متناهية، وانفصال متزايد عن الواقع، مع مستشارين فاشلين، وجنون عظمة لا نهاية له، وقبل كل شيء، زعامة شخصية تعتمد على الشرذمة والكذب.
نتنياهو يسيطر على دولة إسرائيل طوال 90% من الوقت منذ وصوله إلى الحكم في سنة 2009. وقائمة الإخفاقات، التي يتحمل هو المسؤولية عنها، في هذه الفترة، لا يمكن حصرها:
أولاً؛ نتنياهو هو الذي أقنع ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، الأمر الذي سمح لإيران، في رأي كثيرين من الخبراء، بالتحول إلى دولة على عتبة النووي، وقريبة جداً من القنبلة.
ثانياً؛ طوال أعوام، غازل نتنياهو “حماس” من أجل المحافظة عليها كطرف استراتيجي ضد قيام دولة فلسطينية. هو الذي نفّذ صفقة الـ1027 أسيراً في مقابل أسير واحد، والمعروفة بصفقة “شاليط”، وحرّر يحيى السنوار في هذه الصفقة، وخاض 3 عمليات عسكرية فاشلة ضد “حماس”، واضطر إلى إيقاف واحدة منها (عمود سحاب) بسبب سوء التخطيط، والعمليتان الباقيتان انجرّ إليهما من دون تخطيط (“الجرف الصامد” و”حارس الأسوار”). وفي نهايتهما، تباهى بتحقيق إنجازات باهرة وتغيير الواقع في مواجهة “حماس”. وعلى ما يبدو، بدأت تتجذّر هنا النظرية الكاذبة التي يحبها نتنياهو ورؤساء المؤسسة الأمنية، أن “حماس مرتدعة”. وأكثر ما يثير الاستغراب أن نتنياهو نفسه هو الذي شجّع تدفُّق الأموال من قطر لشراء الهدوء. لقد رأينا في 7 أكتوبر إلى أين ذهب هذا المال.
ثالثاً؛ تحت أنظار نتنياهو، تمركزت قوة الرضوان التابعة لحزب الله على طول السياج الحدودي في الشمال، وقامت بتحدّي إسرائيل، المرة تلو المرة، وحفرت الأنفاق نحو أراضينا، وصرّحت بأنها تخطط لاحتلال الجليل.
رابعاً؛ خلال فترة حُكم نتنياهو، تحولت حدودنا مع جارتنا الشرقية الأردن إلى حدود مخترَقة أمام تهريب السلاح والمخدرات. وتدفقت كميات كبيرة من هذا السلاح إلى البنى “الإرهابية” في الضفة الغربية، وإلى منظمات الجريمة في داخل إسرائيل.
خامساً؛ المنطقة الفاصلة بين الضفة الغربية وبين الخط الأخضر أصبحت مخترَقة بالكامل في الأعوام الأخيرة، وتتدفق عبرها كميات السلاح غير القانوني، الموجود في داخل دولة إسرائيل، ويشكل تهديداً للأمن القومي للدولة.
سادساً؛ خلال ولاية نتنياهو، وصلت الحوكمة في داخل دولة إسرائيل إلى أدنى مستوياتها، وباتت تشكل خطراً على الأمن القومي. والوضع يصبح أخطر فأخطر، مناطق كثيرة في النقب والجليل ووادي عارة، والمثلث، وفي المدن المختلطة، أصبحت خارج السيطرة. لقد سيطرت عائلات المافيا، وفرضت خوّات للحماية، كما سيطرت على السلطات المحلية، وعلى المناقصات في شتى أنحاء الدولة، وفي بعض الحالات، على مناقصات في وزارة الدفاع.
سابعاً؛ في ظل قيادة نتنياهو، خرج الوضع الأمني في مناطق الضفة الغربية والقدس عن السيطرة، وتحديداً في المنطقة التي نستطيع الوصول إليها، عسكرياً، منذ عملية “الجدار الواقي”؛ خلال ولاية نتنياهو، تكررت موجات الهجمات الصعبة في الضفة الغربية، وفي منطقة القدس، وفقدنا السيطرة الأمنية على شمال الضفة بالكامل. وأصبح الوضع سيئاً لدرجة أن إسرائيل اضطرت إلى القيام بتوغلات عسكرية واغتيالات مركزة من الجو في شمال الضفة.
ثامناً؛ إلى جانب هذا كله، ازداد فقدان السيطرة على المتطرفين والمسيانيين اليهود في الضفة الغربية. وماذا فعل نتنياهو حيال ذلك؟ شكّل مع المتطرفين المسيانيين ائتلافاً بقيادته، حاول من خلاله قيادة انقلاب دستوري في دولة إسرائيل. ونتيجة ذلك، ازدادت الاحتكاكات بالفلسطينيين من طرف هؤلاء المتطرفين اليهود الذين يحظون بتأييد علني من أطراف في حكومة نتنياهو الفاشلة.
تاسعاً؛ نتنياهو منح المتطرفين المسيانيين المتعصبين القوميين 3 وزارات استراتيجية: أعطى وزارة الأمن القومي لبن غفير، مشعل الحرائق، والأضرار التي تسبب بها لأمن الدولة دراماتيكية. وأعطى سموتريتش، المسياني المنقطع عن الواقع، وزارة المال ووزارة ثانية في وزارة الدفاع تُعنى بشؤون الاستيطان في الضفة الغربية. والضرر الذي لحِق بالشرطة وبميزانية الدولة، منذ ذلك الحين، كبير، بالإضافة إلى عدم السيطرة على المستوطنات، وعلى العناصر المتطرفة وسط المستوطنين.
عاشراً؛ من دون أي تخطيط، نشأ في فترة نتنياهو واقع مستحيل لدولة واحدة فيها 4 كانتونات، علاقاتها ببعضها البعض إشكالية: واحد لليهود والأقلية العربية، والثاني لليهود في الضفة الغربية، والثالث للفلسطينيين في الضفة الغربية، ورابع لـ”حماس” في قطاع غزة. وهذا واقع مستحيل، يؤدي إلى انفجارات أمنية متكررة، في غياب حل معقول.
حادي عشر؛ من أجل خدمة أهدافه السياسية والقضائية، واصل نتنياهو مهمته بتدمير وحدة المجتمع الإسرائيلي. لقد عمل طوال سنوات على تحريض اليمين ضد اليسار والوسط، واليهود ضد العرب، والمتدينين ضد العلمانيين، وأيقظ الشيطان الطائفي. وبواسطة قاعدته، يردد رسائل الكراهية السامة، صبحاً ومساءً، في شبكات التواصل الاجتماعي، وفي وسائل الإعلام.
ثاني عشر؛ الأخطر من هذا كله، استمرار نتنياهو في الكذب على الناس في إسرائيل. وعملياً، أصبحت ثقافة الكذب رمزاً لحكمه، وسيطرت على الحيز العام بالكامل، وعلى السردية الإسرائيلية، وعلى تحركات الحكومة. والمشكلة أن ثقافة الكذب والتبجح والعجرفة تسللت سريعاً إلى المنظومات المهنية التي قدست نظريات باطلة يروّجها زعيم الكذب. هذه الثقافة هي ثقافة مدمرة.
هل نحن على طريق النصر المطلق؟
يُظهر فحص النتائج في نهاية 5 أشهر من القتال أنه على الرغم من الإنجازات المهمة للجيش والشاباك، فإننا ما زلنا بعيدين عن تحقيق “النصر المطلق”، وفق نتنياهو، وسأفسّر الأسباب:
- مع وضع هدف الحرب، القضاء على “حماس” وحرمانها من قدراتها العسكرية، فإن تأجيل معالجة موضوع جنوب القطاع إلى نهاية الحرب يدل على سوء تقدير في التخطيط للمعركة. فجنوب القطاع، وتحديداً رفح والحدود بين قطاع غزة ومصر، كانا دائماً منطقة استراتيجية مهمة، بالنسبة إلى “حماس”، ومن خلال هذه المنطقة، تجري كل عمليات تهريب السلاح إلى القطاع، التي يُدار اقتصاد “حماس” بواسطتها منذ أعوام طويلة.
- كان يجب أن تدلنا تجارب العمليات السابقة على أن الشرعية الأميركية والدولية تتبدد بعد أسابيع من بداية الحرب. هذه المرة، أضيفت إلى ذلك الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، ومداولات محكمة العدل الدولية في لاهاي، التي تعقّد الوضع كثيراً، ويمكن أن تمنع، أو تقيّد كثيراً تنفيذ المرحلة الأكثر أهمية من مراحل القضاء على “حماس”. وفي هذه الأثناء، هناك الأزمة الإنسانية التي تزداد اتساعاً.
- توجد مناطق واسعة جداً من القطاع غير خاضعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي، أو خاضعة له جزئياً. على سبيل المثال، مخيمات اللاجئين في وسط غزة (البريج والنصيرات والمغازي) ودير البلح، وأجزاء من منطقة خانيونس، ومدينة رفح والحدود بين القطاع ومصر. شمال القطاع، يمكن الوصول إليه بصورة كاملة، عملانياً، بالنسبة إلى القوات الإسرائيلية، لكنه لا يزال بعيداً عن السيطرة الأمنية الكاملة، وبعيداً جداً عن “تطهيره من الإرهابيين”، ومن البنى العسكرية التحتية لـ”حماس”.
- في هذه المرحلة، لا يبدو أننا اقتربنا من استعادة المخطوفين بالوسائل العسكرية. وما دامت إعادة المخطوفين تجري بواسطة صفقة سياسية، فمن المحتمل جداً أن يكون لذلك تداعيات مهمة على استمرار القتال، وعلى تحقيق الأهداف العسكرية المعلنة.
- العدد القليل للقوات التي يحتفظ بها الجيش الإسرائيلي في القطاع، يدل على أن الجيش ليس مستعداً لاستكمال مهمة حرمان “حماس” من قدراتها العسكرية.
- الوضع على الجبهة الشمالية لا يتحسن، ويتعين على الجيش نقل جزء من القوات إلى هناك من أجل تحسين جاهزيته في حال حدوث تدهور إضافي في المواجهة مع حزب الله.
- بالاستناد إلى معلومات علنية، هناك “مصالح تجارية” لعدد كبير من الأشخاص في الجانب المصري (مثل رجل الأعمال البدوي إبراهيم العرجاني، ومسؤولين كبار في السلطة في مصر، وشركات تابعة لـ”حماس”) هؤلاء متورطون بصورة كبيرة في اقتصاد التهريب إلى القطاع، وفي مسائل السيطرة على الحدود بين مصر والقطاع، وعلى معبر رفح. ولا يمكن التوصل إلى حل عملي لأعمال التهريب على الحدود من دون اتفاق دولي تشارك فيه إسرائيل ومصر والولايات المتحدة والجهة التي ستكون مسؤولة عن القطاع في “اليوم التالي”.
- من أجل تعزيز إنجازات الحرب التي لا تزال جزئية حتى الآن، الجيش مضطر إلى تخصيص عدد كبير من القوات النوعية للمستنقع الغزي. وسيجد الجيش نفسه يعمل انطلاقاً من منطقة أمنية يقيمها على طول الحدود مع القطاع، ويقوم بشنّ غارات دورية،على أمل الحفاظ على هذه الإنجازات.
- على الرغم من إنجازات الجيش، فإن أي طرف لن يستطيع السيطرة على القطاع عسكرياً، ما دامت “حماس” لم تُهزم كجيش يخوض حرب عصابات بصورة كاملة. وفي تقديري، هذا يتطلب جهداً استخباراتياً وعسكرياً مكثفاً، مدة عامين على الأقل.
- من المستحيل الحديث عن النصر المطلق من دون معالجة “اليوم التالي”. وفي ظل غياب طرف قادر على ضبط القطاع، مدنياً وعسكرياً، ويحافظ على إنجازات الحرب، فإن هذه الإنجازات ستتلاشى، وسترهقنا “حماس” بحرب عصابات، وستزداد الفوضى في القطاع، وستذهب كل جهود جنودنا وتضحياتهم المؤلمة سدى. ليس لدى نتنياهو وحكومته الفاشلة أي خطة واقعية لـ”اليوم التالي”. (المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية).