لاحظ الصحافيون شيئًا جديدًا بخصوص مجريات حملة دونالد ترامب الإنتخابية هذه المرة. هي في الغالب مُشبعة بالرمزيات الدينية. صحيفة “نيويورك تايمز” تشير إلى أنه في الوقت الذي كانت حملاته الإنتخابية في السابق “مرتجلة ومتقلبة”، فإنها تبدو الآن مخططاً لها بشكل أفضل وأكثر رسمية. حتى أنها مشبعة بتلميحات دينية أكثر من السابق. الدقائق الـ15 الختامية “تثير نداء للمذبح الإنجيلي” مليء بالإشارات عن الله.
ترامب يقرأ مؤيديه بحرفية، وقد رأى بوضوح ما تظهره استطلاعات الرأي. الإنجيليون البيض، الذين يشكلون حوالي 14 بالمائة من عدد السكان، شكّلوا حوالي ربع الناخبين في انتخابات 2020، وحوالي ثلاثة أرباعهم صوتوا لمصلحة ترامب. أما الأمر المثير للدهشة فهو أن 71 بالمائة من الناخبين البيض الذين يؤدون واجباتهم الدينية مرة في الشهر أو أكثر، صوتوا لترامب في انتخابات عام 2020. المفتاح لفهم تكتل ترامب يتمثل في فهم الدعم الشديد الذي يتلقاه من البيض الذين يزعمون أنهم مسيحيون متدينون مخلصون.
يجب أن يُنظر إلى هذه الظاهرة في ضوء واحد من أهم التحولات في الحياة الأميركية خلال العقدين الماضيين. هذا التحول يتمثل بالعلمنة الدراماتيكية والسريعة لأميركا؛ التي كانت ولفترة طويلة تشذ عن الدول الصناعية المتقدمة لأنها كانت تحافظ على تدينها. ولكن في التسعينيات الماضية بدأ ذلك التغيُر، إذ تراجعت أرقام المتدينيين بشدة بعد عام 2007. وكما أظهر الباحث رونالد إنجلهارت في دراسة له، فإن إنخفاض التدين في أميركا منذ ذلك العام كان الأعلى على صعيد 49 دولة شملتها الدراسة. ووفقاً لأحد المعايير، فإن الولايات المتحدة تُعدُ اليوم الدولة الثانية عشرة الأقل تدينًا عالميًا. في العام 1990، ووفقاً للمسح الاجتماعي العام (GSS)، تبين أن أقل من 10 بالمائة من الأميركيين ليس لديهم أي انتماء ديني. واليوم تبلغ هذه النسبة حوالي 30 بالمائة.
يقول الباحث ديفيد كامبل من جامعة نوتردام لوكالة “أسوشييتد برس”، إن الأميركيين يربطون الدين بالحزب الجمهوري بشكل كبير
لا مفر من العلمنة
ليس من السهل فهم سبب أو أسباب هذه الظاهرة، لكن من المحتمل أن يكون التقدم العلمي، (المنطق، العقل والتشكيك) من أبرز الأسباب التي ساهمت بتغذية العلمانية في معظم البلدان الغنية. قد يكون السبب أيضًا متعلقًا بخيارات معينة قامت بها المسيحية الأميركية على مدى العقود القليلة الماضية.
في مؤلفه المهم “الإنجيلية الأميركية: الدين المحافظ ومأزق الحداثة” يشير جيمس دافسون هنتر إلى أن أعداد الإنجيليين إزدادت من خلال التكيف مع أميركا أصبحت أقل التزاماً وإخلاصاً دينياً. ولطالما حذرت الأصولية البروتستانتية القديمة من الخطيئة، الإلحاد، الكاثوليكية، الزنا، الطلاق، المادية وأي انحراف عن القيم المسيحية المتشددة. لكن دعاة مثل جيري فالويل جعلوا التعامل مع الدين أكثر سهولةً والعقائدية أقل تطلباً. وكانت السياسة هي التي شغلت مكان العقيدة الدينية.
وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، توسعت هذه العملية إلى حد بعيد، حيث قام أولئك الذين يعتبرون أنفسهم مسيحيين متدينين بحصر إيمانهم الديني بالكامل تقريبًا بقضايا مثل معارضة الإجهاض وزواج المثليين وحقوق المتحولين جنسياً. وقد أدى هذا بدوره إلى ترك أعداد كبيرة من الأميركيين للكنيسة الديموقراطية. وبحسب مؤشر مؤسسة “غالوب” لاستطلاعات الرأي، فإن نسبة عضوية الكنيسة الديموقراطية إنخفضت إلى 46 بالمائة عام 2020 بعد أن كانت تبلع 71 بالمائة قبل عقدين. وفي هذا السياق، يقول الباحث ديفيد كامبل من جامعة نوتردام لوكالة “أسوشييتد برس”، إن الأميركيين يربطون الدين بالحزب الجمهوري بشكل كبير. لذا، يبتعد غير الجمهوريين عن الدين. هذه الظاهرة ليست بجديدة بالنسبة لأميركا أو المسيحية. حيث يمكن رصد هذه الظاهرة في العديد من الدول الأخرى مثل البرازيل، السلفادور، إيطاليا، إسرائيل، تركيا والهند.
يبدو أن العلمنة أمر حتمي لا مفر منه، ولكن يبدو أيضا أنها تترافق مع شعور بالخسارة والفقد لدى الكثيرين. يتمثل هذا بتراجع الإيمان والمجتمع ولعله السبب المباشر للشعور المتزايد بالوحدة والعزلة الذي يعاني منه كثيرون في هذه الأيام. وفي وسط هذا الفراغ الكبير، وجدت التيارات الشعبوية، القومية، والسلطوية موطىء قدم لها.
هذه التيارات السياسية الحديثة تمنح الشعب إيماناً جديداً. إيماناً بقضية جديدة عظيمة يمكنهم تكريس أنفسهم لها. وهذا من أكبر التحديات السياسية في عصرنا، وذلك برغم أن المجتمع الحديث يُقدّم لنا الثروة، التكنولوجيا والاستقلالية إلا أن هذه الأشياء بالنسبة لكثيرين لن تتمكن من ملء الفراغ القلبي الذي كان يشغله الله والإيمان ذات يوم. إن ملء هذا الفراغ بالسياسة أمر خطير ولكن يبدو أن هذا هو الإتجاه الذي تسلكه الأمور.
(*) ترجمة بتصرف عن “واشنطن بوست“