وزّعتُ المواضيع التي على طلاب السنة الثالثة، في اختصاص الإشراف الصحي الإجتماعي، وهو أحد الإختصاصات التي تُدرّس في كلية الصحة العامة، تحضيرها وأدرجت موضوع هوية لبنان من ضمنها.
وعندما حان موعد عرض ذلك الموضوع في الصف، طلبتُ من الطلاب عدم الاعتراض على زملائهم أو مناقشتهم، بل تدوين ملاحظاتهم التي ستتم مناقشتها بعد الانتهاء من عرض زملائهم لمواضيعهم.
وبالفعل، عرض فريق العمل بحثه الذي أعده بشقين: الأول، يدعم كون المجتمع اللبناني عربياً، فيما تضمن الشق الثاني بعض الأمور الذي تدعم برأيهم اعتباره فينيقياً، ثم أبدى الطلاب الأربعة الذين شاركوا في البحث آراءهم الشخصية.
بعدها فتحتُ باب النقاش أمام باقي الطلاب الذين هم بالمناسبة، لا يُشكّلون تنوعاً دينياً بل ينتمون إلى ديانة واحدة، وهو ما أصبح حال أغلب فروع الجامعة اللبنانية، وبرغم ذلك، تباينت الآراء وانقسم الطلاب مبدئياً بين ثلاث وجهات نظر:
الأولى، تعتبر أن مجتمعنا هو مجتمعٌ عربيٌ، فاللغة المعتمدة رسمياً هي اللغة العربية ولبنان من الدول المؤسسة لجامعة الدول العربية، ونعيشُ وسط عالم عربي لا يمكننا إلا التعاون معه، لكن لبنان مجتمعٌ متعدد الأديان بخلاف معظم الدول العربية التي لا تعرف هذا التنوع والتي تنص دساتيرها على أن الإسلام هو دين الدولة.. والشريعة الإسلامية أحد مراجعها الأساسية.
الثانية، تعتبر أن مصطلح المجتمع اللبناني “ذو وجهٌ عربيٌ”، كما كان ينص دستور ما قبل اتفاق الطائف، هو الأقرب إلى الواقع اللبناني، فالعالم العربي هو مجال عيش وعمل لقسم لا بأس به من اللبنانيين، ولا يُمكننا بالتالي أن نكون في قطيعة معه، إضافة إلى أن لبنان كان وما يزال مقصداً سياحياً لقسم من العرب نظراً لطبيعته: فهو البلد الوحيد الذي لا صحراء فيه ويتمتع بتنوع الفصول وقرب ساحله من جبله. لكن للمجتمع اللبناني طبيعته الخاصة ونمط عيشه المختلف عن أغلب الدول العربية الأخرى. وقد استشهدت إحدى الطالبات بما تمناه حاكم دبي ([1] ) في صغره عندما كان يزور لبنان من أن تستطيع بلاده مجاراة نمط العيش في لبنان الذي كان يتمناه قسمٌ كبيرٌ من العرب.
الثالثة، تعتبر أن المجتمع اللبناني لا يمكن اعتباره مجتمعاً عربياً، فجذوره فينيقية ووجود الفينيقيين فيه سابق على “الغزو العربي له”! واستشهد أصحاب هذا الرأي بكثرة الآثار الفينيقية في لبنان، وباختلاف نمط عيش اللبنانيين لا سيما المسيحيين منهم عن محيطهم العربي، إضافة إلى بعض الدراسات التي تشير إلى الأصول الفينيقية في جينات اللبنانيين ([2]).
إلا أن ما لفت انتباهي في أنصار الرأي الأخير هو قول إحداهن، إن اعتزازنا بالإنتماء إلى الفينيقيين أرباب الحضارة والتجارة والأبجدية، لا ينفي سلبياتهم التي أورثونا إياها، فهم لم يتمكنوا من انشاء دولة وجل ما فعلوه هو الاكتفاء بانشاء ممالك كل منها عبارة عن مدينة: فلكل من صور وجبيل وصيدا ملك يحكمها ويرعاها، وقد تحالف أولئك الملوك أحياناً وتنازعوا أحياناً أخرى، وكان لكل منهم جهة أو جهات خارجية يعتمد عليها ويستقوي بها على غيره من الممالك، ونحن أحفادهم وقد ورثنا ذلك عنهم ولم نستطع تشكيل دولة وما زلنا نتنازع وكل منا يرتبط بخارج ما.
انتهى الوقت المخصص للمادة بحوارات ثنائية وثلاثية، وأحياناً بأصوات كانت نبرتها عالية وحادة. لكن كلام تلك الطالبة استوقفني، ومع أنني لست من رأيها بأننا ننتمي إلى مجتمع فينيقي إلا أن استنتاجها قد يكون في محله، فهل التنازع الذي يعيشه المجتمع اللبناني والحروب والأزمات التي يمر بها باستمرار وعدم التمكن من انشاء دولة، بكل ما للكلمة من معنى، هي علة توارثها اللبنانيون أو بعضهم في جيناتهم لتطفو على السطح من وقت لآخر وبأشكال مختلفة؟
لا أملك جواباً على سؤالي الأخير، لكن سؤال الهوية والانتماء، كان وسيبقى مطروحاً، وحسناً أن نُبادر إلى تشجيع الجيل الجديد على خوض غمار التفكير وتبادل الرأي.. لعل ذلك يكون خطوة أولى في رحلة الألف ميل من أجل تكبير المساحات المشتركة بين اللبنانيين، برغم الأزمنة الصعبة التي عاشوها.. أو تلك التي يُمكن أن تعترض أحلامهم وطموحاتهم مستقبلاً.
[1] في كتابه “قصتي.. 50 قصة في خمسين عامًا”، قال حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عن بيروت : “ذكرياتي الأولى مع بيروت كانت من بدايات حياتي وأنا صغير، وأنا القادم من صحراء دبي، من بيوتها الطينية، من شوارعها الترابية، من أسواقها المبنية من سعف النخيل”، “كانت شوارعها النظيفة، وحاراتها الجميلة، وأسواقها الحديثة في بداية الستينيات مصدر إلهام لي. وحلم تردد في ذهني أن تكون دبي كبيروت يومًا ما”.
[2] يبدو أن هذا الاستنتاج تم اجتزاءه بشكل غير دقيق من دراسة أعدّتها مجلّة “ناشيونال جيوغرافيك ماغازين” (عدد تشرين الأول/أكتوبر 2004) تثبت من خلال فحص ميداني لحامض الـ”دي.إن.إي” (DNA) أنّ اللبنانيين جميعاً مسلمين ومسيحيين يتحدّرون من أصول فينيقية، وأنّ الفينيقيين أسلافهم يتحدّرون من أصول كنعانية، وأنّ الكنعانيين هم عرب هاجروا مبكراً من الجزيرة العربية (1200 عام قبل المسيح). وقد اشترك في إعداد الدراسة الجينية البروفسور سبنسر ولز (أميركي) والبروفسور بيار زلّوعة (لبناني).
(*) اللوحة للفنان اللبناني رامي بقاعي