في موسكو، بدأت عملية استخلاص المعلومات (حول خطف الدبلوماسيين السوفيات). من بين أمور عديدة، تقرر إرسال سفير جديد إلى لبنان ليحل محل السفير الخيّر، والميّال إلى التأملات التاريخية والفلسفية، ألكسندر الكسيفيتش سولداتوف. في تعاطف إنساني بحت: في ذلك الوقت كان عمره 72 عاماً، وكانت زوجته مريضة بشدة. هو بحدّ ذاته “سفارة” في بيروت منذ عام 1974. تبعا لذلك كان الكسندر سولداتوف وزوجته يزوران موسكو كل سنة، بينما كان يدير السفارة في بيروت قائم بأعمال مؤقت. لكن أي قائم بأعمال، ومهما علا شأنه، سيُنظر إليه دائماً على أنه مؤقت …
تقرر إيجاد ترشيح لمنصب السفير السوفياتي الجديد في لبنان في مديرية الشرق الأوسط في وزارة الخارجية. كانت المسألة هكذا: يجب أن يكون السفير الجديد شاباً، ولكن ليس كثيراً، وعلى معرفة بالوضع الإقليمي، وذي قدرة على التعامل مع التوجهات السياسية في لبنان، بالإضافة إلى امتلاك خبرة العمل في المناطق الساخنة.
تم تقييم الكثير من الأشخاص، إلى أن قال فالوديا غوديوف، صديقي وزميلي: “لماذا نحن في حيرة؟ فلنقترح ترشيح فاسيا كولوتوشا! إنه يعرف الشؤون الإقليمية، وعمل في لبنان، وفي بغداد، اكتسب خبرة في إدارة عمل السفارة خلال الحرب العراقية – الإيرانية!”.
رئيس قسم التوجيه آنذاك ، ف. بولياكوف، الذي تربطني به علاقات جيدة منذ الستينيات، عندما عملنا سوياً في سفارة الاتحاد السوفياتي في القاهرة، أيّد هذا الاقتراح على الفور، وأعرب عن الرأي ذاته فيكتور بوسوفاليوك، نائب ف. بولياكوف، صديقي ورفيقي. باختصار، قدّم المكتب إلى وزارة الخارجية ترشيح سفير جديد في لبنان للنظر فيه بسرعة، مشفوعاً بالعديد من الحجج المقبولة.
وفي 15 نيسان من العام 1986، وصلت برقية عاجلة إلى بغداد، حيث كنت أعمل في ذلك الوقت كمبعوث مستشار، وعُرِض عليّ فيها تعييناً جديداً وغير متوقع لي. بالطبع، وافقت، وفي 27 نيسان سافرت إلى موسكو. لن أخفي أنني طرت فرحاً! ليس فقط لأن التعيين في منصب سفير في سن 45 عاماً أمر مثير للاهتمام، فالشيء الرئيسي هو أنهم سيعيّنونني مرّة أخرى في لبنان! البلد الذي أتيت إليه لأول مرة في تشرين الثاني العام 1963 كمتدرب. وفيه تعرفت إلى إيرينا الكسيفنا متريوشينا، الموظفة في البعثة التجارية، وفي بيروت تزوجت منها في نيسان من العام 1964. هو البلد الذي وصلت إليه مرة أخرى في تشرين الأول من العام 1972 للعمل كسكرتير ثانٍ للسفارة، وقبل مغادرتي في آب 1977، كان أ. سولداتوف قد اقترح عليّ، وكنت حينها السكرتير الأول، أن أبقى لمدة عامين آخرين نائبه ومستشاره.
وهكذا حدث ، كما يقول المثل، “الله يحب الثالوث”.
… كل الإجراءات الرسمية في موسكو مرت بسرعة كبيرة، بالرغم من عطلاتنا الطويلة في شهر أيار.
في 16 أيار عام 1986، سافرت إلى دمشق، إذ لم تكن هناك رحلات مباشرة بين موسكو وبيروت في ذلك الوقت. على الحدود السورية اللبنانية، قابلني كبار المسؤولين في السفارة، فضلاً عن مجموعة مرافقة – حرس الحدود والمسلحين الذين كلفهم وليد جنبلاط حماية السفارة السوفيتية. استغرق الأمر ساعتين أو ثلاث، حيث سلكوا طريقاً دائري عبر مناطق يسيطر عليها الدروز.
وفقًا للتقاليد المتبعة، بحلول الوقت الذي وصل فيه السفير الجديد إلى السفارة، اجتمع كل موظّفوها في القاعة. قلت شيئاً ترحيبياً وأمسكت بكأس الشمبانيا في يدي، ثم بدأت أجول بين جميع الحاضرين واتعرّف إليهم.
من بين الحاضرين أولئك الذين سمحت لي الفرصة العمل معهم في السنوات السابقة. عملنا معاً في مديرية الشرق الأوسط في الفترة الممتدة بين سنتي 1970-1971:
المستشار المبعوث يوري فاسيلييفيتش سوسليكوف: كان يشغل منصب مستشار، ورئيس قطاع سوريا ولبنان، وكنت أعمل في نفس القطاع في منصب سكرتير ثان. بعد خمسة عشر عاماً، تغيرت أدوارنا: من مرؤوس أصبحتُ رئيسَه. أعتقد أنه لهذا السبب، وإلى حد كبير، لم تنجح علاقتنا. كانت أية محادثة أجريها معه تبدو عتاباً صامتاً – خلال خمسة عشر عاماً “قفزت” إلى مستوى سفير، لكنه انتقل خطوة واحدة فقط. وبعد مرور عام، تم استبداله بإيغور إيفاشينكو، وهو من جيلي، وقد صار العمل معه أكثر راحة.
أعتقد أن تعييني فاجأ ضابط أمن السفارة أناتولي ليونيفيتش دينيسينكو كثيراً. في الستينيات، عملنا في سفارة الاتحاد السوفياتي في القاهرة، وكان يشغل منصب نائب القنصل، فيما كنت السكرتير الثالث. ومرة أخرى صرنا في نفس السفارة. لكن دينيسنكو، بصفته مساعد السفير، كان عاملاً قوياً حقاً، وقد شعرتُ بالأسف الشديد عندما اضطر إلى المغادرة إلى الاتحاد السوفياتي لأسباب صحية.
كان خليفته، كمحترف، أضعف بكثير. ومع ذلك ، كان أكثر لقاء مثير في ذلك اليوم هو ذاك الذي جمعني بممثل جهاز “كا جي بي”، الذي يشغل رسمياً منصب مستشار السفارة ، يوري نيكولايفيتش بيرفيلييف.
أبدأ بحقيقة أن زوجتينا درستا في نفس المجموعة في معهد اللغات الأجنبية، وفي الفترة الممتدة بين العامين 1975 و1977، شغلنا، أنا وبيرفيلييف، المناصب ذاتها التي شغلها السكرتير الأول في سفارة الاتحاد السوفياتي في بيروت. أذكر أنه في ذلك الوقت، حضر يوري نيكولاييفيتش مع شخص مثير “جداً” من بين أصدقائي.
بالإضافة إلى هؤلاء الثلاثة من موظفي السفارة الرئيسيين، رأيتُ من بين أولئك الذين التقوا بي فاليرا كورنيف وساشا أدياسوفا، صديقيّ المقربين من الأوقات السابقة.
بالمناسبة، أظهرت زوجة أدياسوف، سفيتلانا، وهي امرأة ذكية وعصبية، عندما كنت سفيراً ، نفسها بشكل جيد للغاية في الساحة العامة: كانت “تمارس” عروض الهواة افي لسفارة، وقد أعدّت أمسيات احتفالية رائعة.
… كانت بانتظاري لقاءات مدهشة مع معارفي اللبنانيين القدامى، الذين أخذني القدر إليهم في رحلتي الثانية إلى هذا البلد في السبعينيات. لقد اكتشفت انني لست فقط من تغيّر وضعه، فهم أيضاً غيّروا وضعهم الرسمي والخارجي مقارنة بسنوات الشباب.
أصبح أحد أعضاء البرلمان من “حزب الكتائب”، أمين الجميّل، الذي كنا نتجادل معه بصوت عالٍ لمدة ثلاث ساعات من دون انقطاع عن السياسة السوفياتية في لبنان عام 1967، رئيساً للبلاد. عندما علمَ بتعييني سفيراً جديداً للاتحاد السوفياتي، أخذ في إجراء التحقيقات: أليس هو نفسه هذا الوجه السياسي لسوريا في لبنان؟
كذلك تعرفت إلى عاصم قانصو الذي يعلم الله وحده كم كان يدخن ويشرب القهوة وكان أحد قياديي “حزب البعث” السوري.
أصبح الزعيم الديناميكي لقطاع الشباب في “حزب الكتائب” كريم بقرادوني، الذي أجرينا معه في السنوات الماضية محادثات معمقة وجدلية، وكانت تدور معه جدالات حصرياً حول المطعم الذي ينبغي أن نلتقي فيه في المرّة المقبلة، اليد اليمنى للشخص الأقوى بين المسيحيين، سمير جعجع.
الصحافي الشاب، الذي كتب كتاباً رائعاً في السبعينيات عن حركة المقاومة الفلسطينية، طلال سلمان، والذي كانت تجمعنا مصلحة مشتركة في الشؤون الفلسطينية، صار صاحب ورئيس تحرير صحيفة “السفير”، الصحيفة الأكثر قراءة على نطاق واسع في لبنان.
الحدث الأكثر متعة جرى عندما شاء القدر مرة أخرى أن ألتقي بيوسف، ابن أحد أعضاء البرلمان اللبناني لويس ابو شرف. من بين جميع اللبنانيين، تطوّرت علاقة وثيقة خاصة معه، ولا بد من القول إن تاريخه أصيل لدرجة أنني لا أستطيع إلا أن أخبركم أكثر عن ذلك.
من خلال أبو حسن، رئيس جهاز أمن ياسر عرفات، تمكّنت من معرفة رقم هاتف “الرجل الكبير” في المنطقة المسيحية
عندما اتخذت الحرب في لبنان طابعاً وحشياً للغاية في العام 1976، وعلى الجانبين، تم التراشق عمداً بالأسلحة ومدافع الهاون من العيار الثقيل بين المناطق السكنية. برز خطر حقيقي على سفارتنا، وكان لا بد من القيام بشيء ما.
من خلال أشهر الشخصيات، أبو حسن، رئيس جهاز أمن ياسر عرفات، تمكّنت من معرفة رقم هاتف “الرجل الكبير” في المنطقة المسيحية، الذي عُهدت إليه، في قيادة “حزب الكتائب”، مهمّة الحفاظ على اتصالات سرية مع الفلسطينيين والجماعات الإسلامية واليسارية في ذلك الوقت.
تجدر الإشارة إلى أن القصف المدفعي على المناطق السكنية في بيروت كان يحدث دائماً عندما يحل الظلام: خلال النهار، كانت الأطراف المتحاربة تطلق النار على خط تقسيم المدينة بين المناطق المسيحية والإسلامية. في ساعات المساء، عندما لا يعود العدو مرئياً، كانت الأطراف المتحاربة تصب الغضب المتبقي والذخيرة الكبيرة غير المستغَلة على السكان المدنيين.
عندما اتصلت بـ “الرجل الكبير” في بيروت الشرقية المسيحية، أصبح الوضع الأمني للسفارة أكثر راحة إلى حد ما. بمجرد أن بدأت القذائف التي أطلقت من المنطقة المسيحية في السقوط بالقرب من السفارة ، هرعت إلى الهاتف، وطلبت رقم “الورقة الرابحة” وصرخت في السماعة: “إسمعوا… أنتم تقصف السفارة السوفياتية!”.
في ساعات المساء، عندما لا يعود العدو مرئياً، كانت الأطراف المتحاربة تصب الغضب المتبقي والذخيرة الكبيرة غير المستغَلة على السكان
أجابني صوت “الرجل الكبير” الهادئ: “لا تقلق ، سأتصل بـ”الشباب”! بعد مضي خمس إلى عشر دقائق، بدأت انفجارات القذائف تبتعد. في صباح اليوم التالي، حوالي الساعة 11.00، كانت هناك مكالمة هاتفية في السفارة. التقطتُ صوتاً مألوفاً على الهاتف: “كيف نمتم؟ “شبابنا” لم يزعجوكم حقاً؟”. بالطبع، أجبت أن كل شيء كان جيّداً، كما يقولون (في لبنان)، وشكرته على الرعاية والاهتمام.
عقدتُ لقاءاً شخصياً مع “الرجل الكبير”، بعد ستة أو ثمانية أشهر، وتحديداً في أيلول من العام 1976، وصرتُ، بناءً على إصرار من “صديق الليل”، أول دبلوماسي سوفياتي يغامر بالذهاب إلى المنطقة المسيحية.
تبيَّن أن صاحب الصوت الهادئ هو من جيلي. فتىَ جميل، لكن مع ذلك كان موثوقاً بالفعل، ولديه سلطة معينة بين القادة المسيحيين.
وبعد مضي عشر سنوات، في صيف العام 1986، التقينا مرة أخرى، وأصبحنا أصدقاء حقيقيين. علاوة على ذلك ، لا أستطيع أن أتخيل وجودي الثالث في لبنان من دون التحدث إلى هذا الشخص، مثلما يصعب على زوجتي أن تتخيل أربع سنوات قضتها في بيروت من دون صداقة مع نهال، زوجة يوسف.
بالمناسبة، في العام 2012 اتصلنا به هاتفياً للمرة الأولى منذ أن غادرت بيروت عام 1990!