قبيل توجه بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، تلقت حكومته صفعتين كبيرتين خلال أقل من يومين، الأولى؛ عندما تمكنت مُسيّرة “يافا” التي أطلقتها حركة “أنصار الله” اليمنية من اختراق كل الدفاعات الجوية “الإسرائيلية” لتنفجر في قلب تل أبيب على بعد مسافة قصيرة من القنصلية الأمريكية. الثانية؛ جاءت من مدينة لاهاي الهولندية عندما أصدرت محكمة العدل الدولية قرارها الاستشاري بعدم مشروعية الاحتلال “الإسرائيلي” للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967 وبتحميل سلطات الاحتلال مسؤولية كل أعمال الاستيطان في القدس والضفة الغربية والتي وصفتها المحكمة بـ”غير الشرعية”.
ولأن الحكومة “الإسرائيلية” هي من أعتى الحكومات تطرفاً، منذ العام 1948، كان لا بد لها أن ترد على الأمرين بأقصى ما تستطيع معتمدة على الصورة بشكل رئيسي، فجاءت مشهدية الغارة “الإسرائيلية” على ميناء الحديدة اليمني التي استهدفت خزانات النفط، وفيها بحسب تقارير يمنية 150 ألف طن من النفط، والمهم في هذا الهجوم هو الصورة التي حاولت القيادة “الإسرائيلية” إيصالها إلى جمهورها الذي أرعبته مُسيّرة “يافا” وبالتالي محاولة رفع معنويات هذا الجمهور عبر الإيحاء أن مؤسسته العسكرية قوية وقادرة على ضرب هدف يبعد عن حدودها حوالي الألفي كيلومتر، فضلاً عن تحذير “أنصار الله” من عواقب مواصلة دعمهم الناري للمقاومة في غزة. أما ردّها على محكمة العدل الدولية فجاء عبر أمرين، الاول، هو تصويت الكنيست بأغلبية 68 صوتاً من أصل 120 على رفض الاعتراف بأي دولة فلسطينية مستقبلاً، والثاني، عبر مواقف أطلقها نتنياهو ووزراء حكومته اتهموا فيه المحكمة بمعاداة السامية، وهي التهمة التي يوصم بها كل من ينتقد أو يدين السياسات “الإسرائيلية”.
إن التخبط الذي يعيشه نتنياهو سيدفعه إما إلى انهاء الحرب وفق الصفقة المطروحة من بايدن وإما الذهاب إلى ما يشبه “خيار شمشون” (“عليّ وعلى أعدائي يا رب”)، أي تنفيذ مغامرة عسكرية واسعة بلا ضوء أخضر أمريكي بأمل أن ينجح في استدراج واشنطن إليها
لكن هل حقّّقت القيادة “الإسرائيلية” هدفها من الرد على مُسيّرة “يافا” وقرار محكمة العدل الدولية؟
لا بد من الاشارة إلى أن “إسرائيل” لم تكن لتستطيع تنفيذ الغارة على الحديدة لولا المساعدة اللوجستية المباشرة التي قدمتها لها إيطاليا عبر تزويد الطائرات المغيرة بالوقود في الجو، وعبر تأمين القوات الأمريكية في منطقة الخليج كل احداثيات ومستلزمات غارة الحديدة، ما يعني أن “إسرائيل” لولا هذه المساعدة لكانت عاجزة عن الرد.
وفي معرض الإجابة على السؤال أعلاه، فقد جاء الرد من الداخل “الإسرائيلي” عندما قال رئيس بلدية إيلات تعليقاً على الغارة الإسرائيلية أن الحكومة “الإسرائيلية” تعتبر دماء أهل تل أبيب أغلى من دماء أهل إيلات، في إشارة إلى أن الجيش لم يتخذ قراراً بالرد على هجمات “أنصار الله” المتواصلة منذ عدة أشهر على مدينة إيلات الساحلية، ولكنه سارع للرد فوراً على هجوم واحد على مدينة تل أبيب. كما أعلنت سلطات ميناء إيلات عن إغلاق الميناء وتسريح 500 عامل فيه إلى أجل غير مسمى بسبب عدم امكانية وصول السفن إليه من جهة وعدم امكانية تأمين سلامة العمال من جهة أخرى. وفي مقابل ذلك، أعلنت حركة “أنصار الله” عودة ميناء الحديدة إلى العمل بكل طاقته بعد أربع وعشرين ساعة من الهجوم “الإسرائيلي” عليه.
أما تصويت الكنيست ضد إنشاء دولة فلسطينية، وهو الثاني من نوعه هذه السنة، فلن يؤدي إلا إلى المزيد من العزلة الدولية لـ”إسرائيل” وإلى المزيد من اعتراف الدول بالدولة الفلسطينية.
في ظل هذه الأجواء، استقبلت واشنطن نتنياهو بفتور وذلك في زيارة بدأ التحضير لها منذ عدة أشهر، وكان لافتاً للانتباه أن نتنياهو اصطحب معه بعض الأسرى الذين أطلقت حركة “حماس” سراحهم في صفقتي التبادل اللتين جرتا قبل نهاية العام الماضي وبعض أسر الأسرى الذين ما يزالون في قبضة “حماس” من أجل استخدامهم في حفلة ابتزاز عاطفي للضغط على الادارة الأمريكية لمساعدته على تحقيق الهدفين الرئيسيين اللذين وضعهما لحربه على قطاع غزة: القضاء على حماس وتحرير الأسرى الإسرائيليين (من دون صفقة تبادل)، وقد عجز بعد أكثر من تسعة أشهر عن تحقيق كلاهما. لكن ما حصل عشية بدء زيارته ولم يكن في حسبانه هو تنحي الرئيس جو بايدن عن خوض معركة الرئاسة الأمريكية وبطبيعة الحال فان هذا الأمر لم يكن في حسبان ولا في مصلحة نتنياهو، فبايدن قد تحرر الآن من حاجته إلى نتنياهو لخوض المعركة الرئاسية وها هم الديموقراطيون الأعضاء في الكونغرس يُقرّرون بأغلبيتهم مقاطعة استقبال نتيناهو في الكونغرس؛ زدْ على ذلك الاستقبال الفاتر وتعامل الإعلام الأمريكي مع الزيارة بنوع من اللامبالاة بعكس الإحتفالية التي كان نتنياهو ينتظرها.
أمام هذا المشهد، سيكون نتنياهو أمام أحد خيارين، إما الموافقة على الصفقة المقترحة أو تمديد حالة الحرب القائمة على ما هي عليه حتى نهاية العام في رهان منه على وصول صديقه دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأمريكية. ويشكل الأمران إحراجاً لنتنياهو، فإن وافق على الصفقة سيكون كأنه يعطي الحزب الديموقراطي الأمريكي ورقة قوية في الانتخابات على حساب صديقه دونالد ترامب، بالاضافة إلى أن ذلك سيفتح الباب على مصراعيه لصراع داخلي يطيح به وبحكومته، وإن أبقى على الحرب على ما هي عليه ولم يتمكن ترامب من الفوز في الانتخابات، وهو احتمال غير مستبعد، يكون نتنياهو قد أضاع ستة أشهر يخلق الله فيها ما لا تعلمون، ناهيك عما يمكن أن يحصل في أية عملية سوء حسابات أو سوء تقدير قد تشعل المنطقة.
بانتظار ما سيختار نتنياهو أن يفعله في زيارته إلى واشنطن وبعدها، لا شك أن الجبهات ستزداد اشتعالاً، لا سيما جبهتي لبنان واليمن، فمن يعرف اليمن و”أنصار الله” يُدرك أن الهجمات الأمريكية والبريطانية المتواصلة على اليمن منذ بضعة أشهر لم تثنِ الحركة عن مواصلة إسنادها لغزة، وكان لافتاً للإنتباه مسارعة السعودية إلى نفي التسريبات “الإسرائيلية” عن شراكتها في قصف الحديدة، فضلاً عن تأكيدها أنها لن تسمح لأحد بخرق سيادتها، فالسعودية تعرف جيداً أن تورطها في هجمات “إسرائيلية” على اليمن، من شأنه أن يرتد سلباً عليها.
أما جبهة لبنان، فتشكل صداعاً لا شفاء منه للقيادتين العسكرية والسياسية في “إسرائيل”، ولا يزال نتنياهو أسير خوفه من توسيع الحرب من جهة لما يخبىء له حزب الله من مفاجآت، وأسير القرار الأمريكي بعدم السماح له بتوسيع الحرب من جهة ثانية، وذلك خشية اشتعال منطقة الشرق الأوسط برمتها.
ولم يكتف حزب الله باعلانه أنه سيرد على الإعتداءات “الإسرائيلية” على المدنيين في لبنان باضافة مستوطنات جديدة إلى عمق أهداف نيرانه، بل سارع إلى ترجمة تهديداته إلى أفعال عندما أضاف حتى الآن أقل من عشر مستوطنات إلى بنك الأهداف اليومية لديه.
إن التخبط الذي يعيشه نتنياهو وحكومته يزيد في خسائره العسكرية والاقتصادية ناهيك عن خسائره البعيدة المدى لجهة ارتفاع نسبة الهجرة اليهودية المضادة، كل هذا التخبط سيدفع نتنياهو إما إلى انهاء الحرب وفق الصفقة المطروحة من بايدن وإما الذهاب إلى ما يشبه “خيار شمشون” (“عليّ وعلى أعدائي يا رب”)، أي تنفيذ مغامرة عسكرية واسعة بلا ضوء أخضر أمريكي بأمل أن ينجح في استدراج واشنطن إليها.. وهكذا فإن وضع المنطقة كلها سيكون معلقاً على أي من الخيارين سيعتمد نتنياهو.