لم تتأخر حكومة الحرب الإسرائيلية في الرد علی المُسيّرة اليمنية التي بلغت عمق الكيان، في توقيت قاتل، بينما كان نتنياهو يستعد لشد رحاله إلى واشنطن. جَمَعَ نتنياهو أركان حربه على وجه السرعة، وأراد وضع الجميع أمام الأمر الواقع خصوصاً أنّه وجّه الاتهام لإيران بالوقوف وراء المُسيّرة التي مسّت الأمن الاستراتيجي الإسرائيلي، وهو الاتهام الذي أعاد اطلاقه أمام الكونغرس الأمريكي، في خطابه، ليل أمس (الأربعاء)، مُحمّلاً إيران مسؤولية قيادة ما أسماه “محور الإرهاب” الذي يستهدف إسرائيل والولايات المتحدة معاً!
وبطبيعة الحال، كان اللوبي اليهودي في انتظار نتنياهو الذي يُجيد لعبة ابتزاز الإدارات الأمريكية المتعاقبة ولا سيما هذه الإدارة التي تمرُ بأصعب أوقاتها وظروفها السياسية، في ضوء قرار الرئيس بايدن بالتنحي لمصلحة نائبته كامالا هاريس. وبالفعل، قدّم نتنياهو نفسه بوصفه “زعيماً عالمياً”، في ظل تقديرات أنه مهما فعل لن يكون بمقدوره الضغط على إدارة بايدن التي تحرّرت من ضغوط اللوبيات بسبب قرار رئيس الولايات المتحدة بالاكتفاء بإكمال ولايته الحالية، تاركاً لنائبته وحزبه مسؤولية إدارة المعركة الرئاسية في مواجهة الرصاصة التي أصابت اذن الرئيس دونالد ترامب اليمنى ولكنها أصابت بالسياسة بايدن إلى حد أنها ألزمته بالتنحي..
وعلى جاري عادته، يريد نتنياهو الكثير من الإدارة الأمريكية. يريد تنفيذ صفقات السلاح المتعثرة. يريد الدعم المالي. يريد المواجهة مع ايران. يريد التطبيع مع الدول العربية. يريد قطاع غزة منطقة منزوعة السلاح. يريد من الولايات المتحدة ألا تمارس ضغوطاً من أي نوع كانت لوقف الحرب علی القطاع وذلك حتى يُحقّق هدفيه؛ أولهما سحق حركة حماس، وثانيهما الإفراج عن الأسری الإسرائيليين.. ويريد ما هو أبعد من ذلك كله أن تبقی “إسرائيل أولاً” في صلب منظومة المصالح الأميركية في الشرق الأوسط.
تلقّت طهران عبر جهات إقليمية ودولية ووسطاء محددين رسالة أمريكية تطالب فيها واشنطن كعادتها بضبط النفس والعمل علی عدم توسيع نطاق الحرب؛ لكن الجانب الإيراني أجاب الوسطاء والأصدقاء بشكل واضح أن الكيان لم يكن بامكانه ضرب هدف مدني في ميناء الحديدة اليمني ما لم تتوفر له مساعدة أمريكية
وإذا كانت عدم حماسة الديموقراطيين قد تجلت في مقاطعة العشرات منهم جلسة الكونغرس، فإن الجمهوريين تعمدوا استقبال نتنياهو استقبال “الفاتحين”!
وإذا كانت إحدى أبرز وظائف زيارة نتنياهو للولايات المتحدة هي التحشيد ضد إيران، فإن طهران “تراقب الوضع والتطورات بدقة”، على حد تعبير مصادر مطلعة في العاصمة الإيرانية، وتضيف أن طهران أجرت مشاورات واتصالات غداة الهجوم الإسرائيلي الغربي علی ميناء الحديدة شملت معظم فصائل محور المقاومة، وتمحورت حول تقييم ما حصل وسبل الرد بعد تقييم ظروف الميدان في ساحات المواجهة. وقد سمع الإيرانيون من “أهل الدار” في اليمن أنهم باتوا أكثر عزماً وإصراراً علی الرد، غير أن رد اليمنيين “سيكون نوعياً ويُوازي أو يُقابل الهجوم الإسرائيلي علی هدف مدني في اليمن”، علماً أنّه الاستهداف الإسرائيلي الأول من نوعه.
في هذه الاثناء – تضيف المصادر – تلقّت طهران عبر جهات إقليمية ودولية ووسطاء محددين رسالة أمريكية تطالب فيها واشنطن كعادتها بضبط النفس والعمل علی عدم توسيع نطاق الحرب، وهو الموقف الذي لطالما عبّرت عنه منذ السابع من تشرين الأول/اكتوبر الماضي؛ لكن الجانب الإيراني أجاب الوسطاء والأصدقاء بشكل واضح أن الكيان لم يكن بامكانه ضرب هدف مدني في ميناء الحديدة اليمني ما لم تتوفر له مساعدة أمريكية خصوصاً وأن الكيان شريكٌ في القيادة الأمريكية الوسطی كما أن ضباطاً بأمرة هذه القيادة يقودون المعارك التي يخوضها الجيش الإسرائيلي من قلب غرفة العمليات العسكرية في تل أبيب. وأشارت المصادر ذاتها إلى أن طهران رأت في ردها علی الرسالة الأمريكية أن المواقف الأمريكية تُشكّل عائقاً أمام التوصل لوقف اطلاق النار في غزة.
في السياق نفسه، ثمة أوساط متابعة رأت أن هجوم ميناء الحديدة رسالة متعددة الأبعاد لطهران وحلفائها خصوصاً أن الطائرات الإسرائيلية استغرقت في طيرانها أكثر من 3 آلاف كيلومتر حتی وصلت ميناء الحديدة اليمني ومثل هذه المسافة تستطيع أن تجعلها قريبة من أهداف داخل الاراضي الايرانية؛ في حين اعتبرت أوساط أخری أن الهجوم “رسالة نارية” موجهة لـ”حزب الله” من حيث الأهداف والدلالات!.
وتستبعد الأوساط نفسها أن يُقامر نتنياهو بمثل هذه الاحتمالات لأن تداعياتها ونتائجها ستكون خطيرة لا بل وخيمة استراتيجياً علی الكيان، فالقوة الإيرانية ليست محصورة داخل الأراضي الإيرانية، بل هي موزعة ومنتشرة في معظم الإقليم ويمكن لنتنياهو المغامرة في حالة واحدة وهي شعوره بالهزيمة، غير أن هناك من “يضبط” إيقاعه عندما يُمكّن أن يُشكّل الأمر (المغامرة) تهديداً للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط..
ويُخطىء من يعتقد أن إيران منشغلة بتشكيل حكومتها بعد الانتخابات الرئاسية وأن اهتمامها بالتطورات الإقليمية ليس بالزخم الذي كان في عهد الرئيس السابق ابراهيم رئيسي.. وكل من يعرف ببواطن الأمور في إيران يعلم أن هذا الاهتمام لا علاقة له بمسار تشكيل حكومي أو نيابي بل يرتبط بالسقف الذي وضعته طهران لأمنها القومي وللأمن الاقليمي الذي يمتد من سلسلة جبال البُرز وضفاف بحر قزوين حتى شواطىء البحر الأبيض المتوسط، كما تُردّد طهران.