سوريا أسيرة إرث اللامركزية الثقيل.. من أين يبدأ التعافي؟  

أُرهقت محاولات التحول إلى اللامركزية عبر تاريخ سوريا بإرث ثقيل من المخاوف والهواجس والتنميط السلبي الذي وصل حد الاتهام ومقاومة أي طرح دون التعمق في فهم اللامركزية، شكلاً ومضموناً وممارسة.

تبدو المشكلة للوهلة الأولى في المصطلح بحد ذاته وتقديم اللامركزية على أنها (لا – مركزية)، هذه “اللا” كانت واحدة من التهم التي سيق على إثرها عدد من شهداء السادس من أيار/مايو 1916 إلى حبل المشنقة؛ كانت التهمة هي الانتماء إلى حزب اللامركزية، هذا الحزب الذي دعا حينها إلى التأكيد على أهمية اللامركزية في الحكم، وتشجيع الرأي العام العربي من أجل دعم اللامركزية، حيث تم ربط هذه المطالب بمؤتمر باريس عام 1913 الذي عقد بحضور سياسيين من سوريا والعراق ولبنان برئاسة عبد الحميد الزهراوي، وطالبوا خلاله بتوسيع صلاحيات الأقضية العربية وتقوية التمثيل العربي في مفاصل الحكم العثماني، لكن السلطة العثمانية لم ترَ فيه إلا استقواءً بقوى خارجية لإضعافها وتقويض سلطتها.

وأبعد من المصطلح نجد الفهم الملتبس للامركزية وعلاقتها مع المركزية كما لو أنها “معادلة صفرية”، بمعنى أن تعزيز اللامركزية يفترض حكماً تقويضاً للمركزية واضعافاً لها، ويبدو أننا وبرغم مرور أكثر من قرن من تاريخ سوريا ما زلنا نقف عند حدود هذه “اللا” والفهم الملتبس لها.

***

مع وقوع سوريا تحت الانتداب الفرنسي، أصبحت اللامركزية عنواناً للتقسيم، وارتبطت بالدويلات التي حاولت فرنسا تكريس تقسيمها بما يضمن بسط نفوذها وتفريغ النخب الوطنية المناهضة للاحتلال من حضورها، من خلال ارغامها على الانكفاء ضمن حدود دويلاتها، الأمر الذي تأرجح بين رفض هذا الواقع وقبوله، قياساً على أن الأعيان المحليين كانوا الأكثر استفادة من هذا التقسيم، مقابل النخب الوطنية التي أصرت على وحدة البلاد، وفاوضت على أساسها وصولاً إلى اتفاقية عام 1936، التي كرّست المركزية عنواناً لوحدة البلاد ووحدة الهوية السورية.

***

في مرحلة الاستقلال (1946 تاريخ عيد الجلاء)، كان التوجه إلى اللامركزية ضرورة للتوجه نحو بناء دولة ضمن فضاء إقليمي مضطرب أثّر بشكل كبير في البنية السياسية والاجتماعية للدولة السورية، وتضمن دستور عام 1950 جملة من المبادئ التي تدفع باتجاه المزيد من توسيع الصلاحيات المحلية وتخفيف مركزة السلطة في دمشق، من دون أن يتضمن الدستور أي نص صريح للامركزية التي بقيت أشد وطأة من أن تخرج من القمقم الذي حُبست فيه.

عادت اللامركزية إلى موقع الصدارة كأحد أهم العناوين المطروحة للنقاش كمدخل للحل السياسي في سوريا، مدفوعة بمطالبات داخلية وخارجية حول ضرورة تبني اللامركزية كمنهجية تفكير وعمل لصوغ عقد اجتماعي جديد يحترم الخصوصيات المكانية والهوياتية لكل المجتمعات المحلية السورية ويضمن مساحة متكافئة من التمثيل والمشاركة في الحكم وإدارة موارد البلاد

مبادئ دستور عام 1950 ضمن هذا السياق تمت ترجمتها من خلال قانوني البلديات رقم 172 لعام 1956 والتنظيمات الإدارية رقم 496 لعام 1957؛ وقد أثّر الأول (البلديات) بشكل كبير في مسيرة العمل البلدي، لا سيما لجهة تنظيم وهيكلة البلديات ووضع أسس عملها، من خلال تحديد المكاتب التي تتألف منها البلديات، الأمر الذي ما يزال يُشكّل الأساس المتعارف عليه حتى الآن، أما الثاني (قانون التنظيمات الإدارية)، فقد كان نقطة انتقال جذرية من القرار رقم 5/ل.ر الذي صدر إبان الانتداب الفرنسي عام 1926، وقسّم سوريا إلى محافظات ومناطق ونواحٍ، واستفاض في شرح مهام الوحدات الإدارية التي كرّست للمحليات مجالس منتخبة تمتلك الصلاحيات والاستقلالية في إدارة مواردها ورسّمت شكل العلاقة والتنسيق بين المحافظات والمركز في دمشق.

لكن تزامن صدور هذه القوانين مع مرحلة الوحدة مع مصر (1958)، بكل ما حملته من تغيرات في بنية المجتمع والدولة، قوّضت أي فرصة لوضع هذه القوانين موضع التنفيذ.

***

في مرحلة الوحدة مع مصر (1958)، غابت اللامركزية نصاً وفكراً وتطبيقاً، من خلال النهج المركزي الشديد الذي اُفترض أنه ضرورة لتثبيت دعائم الوحدة، وتعزز هذا الغياب من خلال المصطلح الذي تم استبداله بــ”الإدارة المحلية” كمفهوم جديد ينظم العمل البلدي في سوريا، حيث نص القانون 152 لعام 1961 على تطبيق قانون الإدارة المحلية المصري على أراضي “الإقليم الشمالي” (سوريا)، من دون أن تظهر مفاعيل هذا القانون، حيث سبق الانفصال أي محاولة لذلك.

تجربة الوحدة مع مصر أورثت سوريا نظاماً شديد المركزية، ومعه نظام الإدارة المحلية الذي تمت مقاربته ضمن سياق سوري مستجد من خلال القانون 15 لعام 1970، فكان نظاماً لإدارة واحتواء الوحدات المحلية من المركز، بما يضمن قيادة هادئة وفاعلة للدولة والمجتمع كواحدة من الدروس التي تم استخلاصها من قراءة خمسين عاماً من تجربة الدولة السورية الحديثة.

***

مع بداية القرن الحالي، كانت سوريا على موعد مع مرحلة تاريخية جديدة، حملت معها آمالاً عريضة بإجراء مراجعة لتراكمات الماضي ومعالجتها للمضي خطوة إلى الأمام، وبالفعل، تبدّت مطالب تدعو إلى التغيير ومغادرة منطق التفكير المركزي الذي تكرّس كثقافة لدى الجميع، سلطة ودولة ومجتمعاً، بما ينسجم والواقع الجديد ومآلاته الواعدة في سوريا ما بعد العام 2000.

إقرأ على موقع 180  "الإنتحاري" فرنسيس وأمراض الشرق.. والشفاء البعيد

وبدأ العمل ضمن إطار توجه حقيقي لصوغ تجربة سورية حقيقية في مجال اللامركزية، تملك كل مقومات وضعها موضع التطبيق والبناء على ما سيتحقق من إنجازات، لكن ما بين المطالبة بعدم تكرار أخطاء الماضي والمضي بشكل أكثر جرأة إلى اللامركزية، وما بين توجس السلطة من اللامركزية واعتماد مبدأ الانتقال التدريجي في مواجهة ثقافة مركزية مترسخة تحاول الحفاظ على كل مكتسباتها، وما بين محليات ضعيفة لن تكون قادرة على تحمل تبعات مثل هكذا انتقال بشكل مباشر، جاء قانون الإدارة المحلية رقم 107 لعام 2011 بكل ما تضمنه من مساحات واعدة للانتقال التدريجي إلى اللامركزية على كل الأصعدة إقتصادياً وإجتماعياً وإدارياً وسياسياً، جعل هذا القانون من الإدارة المحلية عنواناً للامركزية التي حضرت كواحدة من أهدافه، وبين نصوص مواده، لكن ربما هو قدر اللامركزية في سوريا أن تبقى حبيسة النصوص في كل مرحلة من مراحل هذه البلاد. وزاد الطين بلة مع اندلاع الأزمة السورية واشتدادها وتعقد مآلات الحل، مما عزّز من المركزية كأداة للحفاظ على الاستقرار ووحدة البلاد، وزاد على إرث اللامركزية الثقيل لتعود إلى مربعها الأول “لا – مركزية”.

***

في الخلاصة، ما زلنا عند المربع الأول، وما زلنا عند كل نقاش حول اللامركزية ننطلق من هذا المربع من دون البناء على ما تمت مراكمته من تجارب ودروس مستفادة، كمدخل لهذا النقاش، أو محاولة طرح الهواجس بدل الاختباء خلفها، فكان أن خسرنا فرصة تطوير فهم أوضح للامركزية، مضموناً وممارسةً.

واليوم ومع ازدياد تعقيدات المشهد السوري، واستمرار انقسام الجغرافيا السورية إلى ثلاثة أنماط من الحوكمة المختلفة في كل من شمال غرب سوريا، وشمال شرقها، إلى جانب مناطق سيطرة الحكومة السورية، واختلاف السياقات المحلية لكل منها، شكلاً وتطبيقاً، بشكل يُعطّل أي فرص للتلاقي ووصل هذه الجغرافيات ضمن مسار حل سوري مستدام يضمن وحدة البلاد وتحقيق السلام والاستقرار فيها، عادت اللامركزية إلى موقع الصدارة كأحد أهم العناوين المطروحة للنقاش كمدخل للحل السياسي في سوريا، مدفوعة بجملة من العوامل قد يكون على رأسها المطالبات الداخلية والخارجية بتبني اللامركزية كمنهجية تفكير وعمل لصوغ عقد اجتماعي جديد يحترم الخصوصيات المكانية والهوياتية لكل المجتمعات المحلية السورية ويضمن مساحة متكافئة من التمثيل والمشاركة في الحكم وإدارة موارد البلاد.

ولكن أي لا مركزية نريد، وبعيداً عن الرغبات ما هي اللامركزية التي تحتاجها سوريا اليوم وتؤسس عليها مستقبلها غداً؟

من أين نبدأ، وكيف يمكن قيادة هذه العملية ومن يقودها؟

خطوة البدء اليوم تكون في العمل على قراءة ما تم من تجارب في كل المناطق وبكل ما راكمته من دروس والبناء عليها كمساحة يلتقي عندها السوريون على إرادة بناء سوريّتهم، وكتابة تاريخ جديد لها.

Print Friendly, PDF & Email
بشّار مبارك

كاتب وباحث سوري متخصص في مجال الإدارة المحلية والعمل مع المجتمعات المحلية

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  المرض ليس حزب الله.. إنّه النظام الطائفي!