محمود درويش.. “الزمن في غزة شيء آخر”

أستذكر اليوم محمود درويش، وأنا من الذين لا يحتاجون مناسبة لاستذكاره، مثلما هو لم يرتضِ الغيابَ يوماً: قُلْ للغيابِ نَقَصتَني وأنا حضرتُ لِأُكْمِلكْ.

محمود درويش، في حضرة الغياب، ولكن هذه المرة ليس غياباً إعتيادياً. إنّها غزة الحاضرة اليوم بقوة في المشهد الدرويشي “لأن الزمن في غـزة شيءٌ آخر.. لأن الزمن في غـزة ليس عنصراً محايداً. إنه لا يدفع الناس إلى برودة التأمل ولكنه يدفعهم إلى الانفجار والارتطام بالحقيقة.

الزمن هناك‏‏ لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة ولكنه يجعلهم رجالاً في أول لقاء مع العدو.

ليس الزمن‏‏ في غـزة استرخاء‏‏ ولكنه اقتحام الظهيرة المشتعلة.. لأن القيم في غـزة تختلف.. تختلف.. تختلف.. القيمة الوحيدة للإنسان‏‏ المحتل هي مدى مقاومته للاحتلال. هذه هي المنافسة الوحيدة هناك”.

***

لا أظنُ أن هناك شاعراً كمحمود درويش التصق بقضيته فلسطين وكانت هي عنوان عبوره وولوجه للمشهد الأدبي العالمي عموماً والعربي خصوصاً.

فلسطين هذه هي بطاقة إنتساب محمود درويش؛ هكذا أراد لنفسه أن يكون شاعر القضية.

قلّما نجد خطاباً سياسياً يخصُ فلسطين إلا ويتضمن نصاً لدرويش؛ كأن نصوص ابن قرية البروة في الجليل توثيقٌ للروح الفلسطينية.

درويش شكّل حالة فردية لا تشبه غيرها. وُلِدَ لأبوين فلاحين (13 آذار/مارس 1941) ولم يُكمل تعليمه. وصل إلى الصفوف الثانوية، ليتفرغ بعدها للشعر والعمل المبكر في الصحافة والسياسة.

طوّر شعره بموهبة فائقة تندر عند مجايليه شعرياً.. حتى أصبح في عمر مبكر أحد رموز لا بل أعمدة الثقافة الفلسطينية.

وبالإضافة إلى تميزه في اللغة والشعر والجمال، تجلى حضوره في أكثر من لون شعري، فلم يسمح بالتنميط والإعتياد على نصه الشعري، فمنذ “محاولة ٧” صنع طريقة كتابة درويشية خاصة لها روحها ورونقها وجماليتها.

علاقته بالمدن جعلت نصه يُعبّر عن روح تلك المدن التي زارها أو عاش فيها، وتتجلى هذه الروح في نصه الطويل عن بيروت “مديح الظل العالي”.

***

يمتلك محمود درويش روحاً نقدية عالية وذكية لم يُصدّرها في كتاب ولكن من يتابع حواراته، سيستخلص أنه كان ناقداً حاداً جداً.

في حياته الشخصية لا نجد له صديقاً خاصاً أو إبناً أو زوجةً. لم يستكمل حياته الزوجية سواء من زواجه الأول من السيدة رنا القباني أو من الثاني من السيدة حياة الهيني. نجده يخوض التجربة ويخرج منها بسرعة. كانت له رؤية خاصة مفادها أن الشعر لا يُمكن أن يحتمل شريكاً، فهو مخلص للحب أكثر من ولائه للفكرة. مُخلصٌ للشعر أكثر من اخلاصه للمرأة!

***

يُعدُ درويش رمز الثقافة الفلسطينية وسيجد الجيل القادم في سيرته بكل رمزياتها وأبعادها مرجعاً هاماً يجعله أكثر قرباً من فكرة فلسطين.

ترك غيابه (9 آب/أغسطس 2008، هيوستن، تكساس، الولايات المتحدة) فراغاً أدبياً من الصعب أن يملأه شاعر آخر؛ كاريزما وهوية وأرضاً وحكاية وشعراً وثقافة، بدليل أن دور النشر ما تزال حتى يومنا هذا تتسابق لأجل طباعة أعماله التي ترجمت إلى 40 لغة، وما زالت تُترجَم حتى يومنا هذا. ومن أهم ما ترك بين أيدينا أيضاً “وثيقة إعلان إستقلال دولة فلسطين” التي قام بصياغتها لتصبح وثيقة محورية مهمة في سيرة النضال الوطني الفلسطيني ولتكن النبراس الذي تسترشد منه الأجيال خلال مرحلة التحرر الوطني المستمرة.

محمود درويش.. يطول الغياب فيزداد حضوره أكثر بيننا. تحضر معه غزة والضفة. بيروت والشام والقاهرة وعمّان والجزائر وتونس وكل العواصم والمدن العربية الحبيبة.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  حذار من "ثورة الزعيم"..
نوال الحوار

شاعرة وإعلامية سورية

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  ما بعد أنصارية ومشعل.. "الشين بيت" يُحاول النهوض (92)