ما هي مُحدّدات موقف المقاومة اللبنانية من احتمال توسع معركة غزة؟

بين الخطاب الأول للأمين العام لحزب الله في 3 تشرين الثاني/نوفمبر والخطاب الثاني في 11 منه، لم يُسجَّل تغيير جوهري في موقف الحزب من التطورات العسكرية سواء على جبهة غزة أو جبهة جنوب لبنان، ما خلا التأكيد على استمرارية العمليات ضد مواقع العدو على جبهة شمالي فلسطين المحتلة مع تطويرها، كمّاً ونوعاً وعمقاً، وتشديد ضغوط قوى المقاومة على أميركا لإيقاف العدوان على غزة، باعتبار أن الأخيرة تقوده وتملك مفتاح إنهائه.

يعكس خطاب السيد حسن نصرالله مقاربة “الغموض البنّاء”، وتعني أنه لا يريد كشف كل الأوراق الآن، لا سيما في ضوء احتمال اندلاع قتال أوسع على جبهة شمالي فلسطين، مُفضّلاً في هذه المرحلة المشي على حافة الحرب في سبيل إيقاف العدوان على غزة.

لقد سبق للمقاومة اللبنانية التي يقودها حزب الله أن وقفت الى جانب الإنتفاضة الفلسطينية في مراحل عدة، ووظّفت إمكانات غير بسيطة لدعمها ونفذت عملياتٍ ضد جيش العدو على الحدود اللبنانية – الفلسطينية خلال انتفاضة الأقصى في الضفة الغربية (2000- 2005)، لكن ما نراه اليوم من عمليات لحزب الله على الحدود أكبر وأوسع بكثير. وكانت أبرز تجربة “وحدة ساحات” (وإن لم تكن معنونة بهذا الإسم) بين لبنان وفلسطين قد حصلت في 12 تموز/يوليو 2006 عندما قامت المقاومة اللبنانية بعملية أسر جنديين من جيش الإحتلال، بعد 17 يوماً على قيام المقاومة الفلسطينية (حماس وفصيلين آخرين) بأسر جندي إسرائيلي (جلعاد شاليط). ففي 25 حزيران/يونيو 2006 ولأيام متتالية، صبّ العدو جام غضبه على القطاع وأصابت إحدى الغارات القيادة العسكرية لحماس بما فيها محمد الضيف ونائبه الحالي مروان عيسى. وأوضح الأخير لاحقاً في برنامج وثائقي على قناة “الجزيرة” القطرية أن عملية المقاومة الإسلامية في لبنان في 12 تموز/يوليو خفّفت ضغط الغارات الإسرائيلية على غزة والمقاومة الفلسطينية التي كانت حديثة عهدٍ بتحرير القطاع..

أي هجوم بري من جانب المقاومة ونقل المعركة إلى “أرض العدو” سيؤدي بالتأكيد الى تضحيات أكبر بكثير وقد ينقلب الى معركة خاسرة عسكرياً إذا لم تتوفر لها عناصر إنجاح معقولة، خاصة أن العدو يعيش حالة التأهب منذ أكثر من شهر

هل يُكرّر حزب الله التجربة و”يُخاطر” بحرب واسعة مع العدو، كما يطالب بعض الجمهور العربي المفجوع بمشاهد المذابح في غزة؟

يُعرف عن السيد نصرالله أنه دقيق الحسابات وراصد ممتاز للأجواء السياسية الإسرائيلية الداخلية ويقاطع بين المعطيات المختلفة، وهو ليس ممن يُؤخذ بالحماسة الجماهيرية، مع حرصه على التفاعل مع الناس. وبالطبع، لا يميل بحنكته التي يقرّ بها العدو إلى تكرار تجربة الرئيس جمال عبدالناصر عندما استجاب للضغط الشعبي بإعلان الحرب على اسرائيل في عام 1967، حين طلب انسحاب القوات الدولية من خطوط فصل القوات، ثم فوجئ بأن العدو كان مستعداً للحرب وأخذ المبادرة العسكرية منه في 5 حزيران/يونيو. ولذلك، لم ينجرّ السيد نصرالله الى المطالبات من الجمهور المتحمّس على السوشيال ميديا لإلقاء خطاب حول الموقف من العدوان على غزة (إنتظر إلى 3 تشرين الثاني/نوفمبر)، مُفضّلاً التنسيق عن قرب مع فصائل المقاومة الفلسطينية وعدم خطف الأضواء من قياداتها والمتابعة مع رجاله في ميدان الجنوب اللبناني حيث أطلقت المقاومة سلسلة عمليات منظمة ضد مواقع العدو بمحاذاة الحدود وأبعد. وهذا يعكس نمط قيادة تنتهج المشاركة النشطة في الحرب حتى الآن، وإن لم تصل الى المشاركة الكاملة.

يُمكن أن نشير الى نقاط هامة في هذا الإطار:

  • لدى الأمين العام لحزب الله تجربة طويلة في المواجهة مع الإحتلال الإسرائيلي تزيد على ثلاثة عقود، فهو يعرف متى يُصعّد ليزيد في رصيد توازن الردع مع العدو (كما حصل مثلاً في الرد على اغتيال العدو مقاومين من حزب الله في سوريا أو في التهديد بالرد على أي مسّ بقيادات فلسطينية في لبنان)، ومتى يُقلّل المخاطرة عندما يرى أن التصعيد قد يمسّ بمعادلة التوازن التي أرستها المقاومة على مدى سنين طويلة منذ نهاية حرب تموز 2006. وهنا يدخل في الحساب تقدير دقيق لشكل الرد المطلوب على أي عدوان ومكانه وحجمه للحفاظ على معادلة حماية لبنان. ولا يفوته أن يُلمّح للعدو بين وقت وآخر الى نقاط ضعف لديه (مجمع البتروكيمياويات في ميناء حيفا ومفاعل ديمونا في النقب) أو يكشف نقاط قوة للمقاومة (حيازة صواريخ دقيقة أو التخطيط للسيطرة على الجليل في أي حرب واسعة مقبلة) بهدف ردع العدو عن التفكير في شنّ حرب على لبنان.
  • ينظر السيد نصرالله الى الحرب مع العدو الإسرائيلي على أنها حرب طويلة تتطلب صبراً إستثنائياً، ولا يمكن حسمها بجولة أو بضربة قاضية أو على طريقة الهجوم الخاطف. وتبعاً لذلك، قد يكون من الأفضل إطالة أمد الصراع العسكري للوصول الى الأهداف المشروعة بكلفة مقبولة، على محاولة تقصيره بكلفة عالية قد تؤتي نتائج معاكسة. وقد عبّر عن ذلك في خطاب 3 تشرين الثاني/نوفمبر، ليعكس ذلك بوضوح نظرته الى الصراع مع عدو يحوز إمكانات هائلة ويحظى بدعم مطلق من الغرب. وهو يعتقد أن كل جولة تخرج منها المقاومة متماسكةً إنما تزيد في تصدّع كيان الإحتلال من الداخل. وسبق له أن وجّه نصيحة علنية للمقاومين الفلسطينيين خلال انتفاضة الاقصى بترك فسحة زمنية معقولة بين العمليات الإستشهادية التي كانت تتوالى آنذاك على تل أبيب والتجمعات الإسرائيلية الكبرى، بدلاً من تركيز العمليات في فترة قصيرة والعودة الى الإنقطاع مجدداً. وبذلك، كان يرى أن الاستمرارية والإنتظام في العمليات هي عنصر أساسي ينبغي الحفاظ عليه، تاركاً للمقاومين الفلسطينيين الإستنتاج بين السطور بأن توالي العمليات خلال فترة وجيزة قد يثير جنون الإحتلال ويدفعه الى شن عمليات على غرار ما جرى لاحقاً في “عملية السور الواقي” باجتياح الضفة الغربية عام 2002.
  • إلى جانب ذلك، أدركت قيادة حزب الله مبكّراً الحاجة الى “تقنين” الصراع العسكري مع العدو عن طريق وضع قواعد اشتباك يتم تثبيتها لمصلحة المقاومة وشعبها في كل جولة قتال، وفي الوقت نفسه عدم حشر العدو في الزاوية. على سبيل المثال، في فترة تحرير المنطقة الحدودية من جنوبي لبنان (1990-2000) لاحظت المقاومة أن استخدام سلاح الكاتيوشا ضد المستوطنات على نحو منتظم قد ينطوي على مضرّة أكبر من أي منفعة مُرتجاة، ومن شأنه أن يحمل العدو على إلحاق ضرر جسيم بمناطق جنوبي لبنان، وقد استخدمته منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان قبل اجتياح العام 1982 من دون ضابطة واضحة. ولذلك حصرت المقاومة الإسلامية استخدامه بحالة الرد على ضرب المدنيين اللبنانيين، وتمكّنت بذلك بعد جولتي قتال كبيرتين في 1993 و1996 من انتزاع حق الرد ضمناً على الإنتهاكات الاسرائيلية من خلال ما أسمي “تفاهم نيسان” عام 1996، وهو تفاهم غير رسمي بمشاركة الولايات المتحدة وفرنسا وسوريا حيَّد المدنيين وأتاح عملياً للمقاومة أن تتفرغ لتنفيذ عمليات ضد قوات الاحتلال وصولاً الى تحرير الجنوب عام 2000.

لا يميل السيد نصرالله بحنكته التي يقرّ بها العدو إلى تكرار تجربة الرئيس جمال عبدالناصر عندما استجاب للضغط الشعبي بإعلان الحرب على اسرائيل في عام 1967، حين طلب انسحاب القوات الدولية من خطوط فصل القوات، ثم فوجئ بأن العدو كان مستعداً للحرب وأخذ المبادرة العسكرية منه في 5 حزيران/يونيو

بناء على ما سبق، يمكن – في تقديري – النظر إلى الحيثيات التي تدير بها المقاومة الإسلامية في لبنان المعركة مع العدو وفق التصور الآتي:

  • تدير المقاومة اللبنانية المعركة بالأهداف، ويتمثل أبرزها حالياً بممارسة الضغوط العسكرية وغير العسكرية – بالتعاون مع القوى الحليفة والحرة – لإيقاف العدوان على قطاع غزة وانتصار المقاومة الفلسطينية. وفي حال تحقَّق هذين الهدفين، تُعدّ هذه خدمة كبرى لمصلحة المقاومة وفلسطين. أما الوسائل فهي متحركة ومتغيرة. وقد يكون أداء المقاومة اللبنانية في الوقت الحالي أفضل الممكن في دعم القضية الفلسطينية، ذلك أن أي توسيع غير مدروس للحرب يمكن بطريقة أو بأخرى أن يخدم العدو الذي يخسر الكثير من رصيده الدولي حيث تكشّفت وحشيته بصورة غير مسبوقة في عصر الصورة والتواصل الإجتماعي الإلكتروني. وإضافة الى صرف الأنظار عن المذبحة التي يرتكبها في غزة، يُمكن للعدو أن يُصوّر أي هجوم واسع من حزب الله على أنه تهديد آخر لوجوده ينطبق عليه ما ينطبق على حركة حماس في غزة، ما سيستدعي مجدداً فكرة دعم “اسرائيل” وتشكيل تحالف دولي وربما عربي لمواجهة المقاومة في لبنان وفلسطين. مع ملاحظة أن التربّص الأميركي والعربي الحليف لواشنطن بحزب الله أشدّ وأوضح من التربّص بحركات المقاومة في فلسطين.
  • تلتزم المقاومة في الأساس باستراتيجية دفاعية وردعيّة، نظراً لفارق قدراتها عن قدرات العدو الهجومية، ويتم التعويض عن هذا الفارق باختيار تكتيكات وأساليب مواجهة مؤثرة في المعادلة. وتقوم هذه الإستراتيجية على استنزاف العدو وردعه عن العدوان على شعبها، وتتطلب توازناً دقيقاً بين استمرارية المقاومة وحماية البيئة الشعبية التي تحتضنها. وفي عملياتها التي تنفذها اليوم ضد مواقع العدو الحدودية، تحرص المقاومة على تحقيق هذين الهدفين معاً.
  • إذا كان بعضهم يفترض اليوم أن على المقاومة أن تهاجم وتسيطر على شمالي فلسطين للتخفيف عن غزة، فهذا الخيار – وإن كان مُربحاً على المستوى الشعبي العربي والإسلامي- لكن نتائجه غير مضمونة عسكرياً في ضوء عدم توفر عنصر المباغتة من جانب المقاومة، خلافاً لحالة ضربة 7 أكتوبر/تشرين الأول، والتفوق الناري لدى العدو المدعوم بالترسانة الأميركية. وقد يترتب على ذلك نقل الموجة الكبرى لكرة النار الى لبنان واحتمال تعرّضه لدمار قد يكون أكبر مما شهدناه عام 2006. ومن الطبيعي أن تدرس قيادة المقاومة تبعات خيارات توسيع نطاق الحرب في هذا التوقيت، لأن أي خطوة ناقصة قد تتسبّب لها بخسارة تأييد قسم من قاعدتها الشعبية العامة التي عانت مرارة التهجير مرات عدة، بمعزل عن الملتزمين مبدئياً بخياراتها وتوجهاتها. وهذه القاعدة هي رأسمال أساسي يمكن الإعتماد عليه من أجل الإستمرار. ومن جهة ثانية، لا بد من النظر إلى السياق السياسي والإقتصادي اللبناني حيث يعيش لبنان أزمة خانقة اقتصادياً وفراغاً مؤسساتياً مقلقاً يضع البلد على مفترق طرق.
  • إضافة الى ذلك، تُظهر الوقائع اليومية حجم حضور المسيّرات والطيران والمدفعية لدى العدو، ما أدى الى وقوع عدد كبير من الشهداء بين المقاومين نظراً للتطورات التكنولوجية الجديدة في سلاح الطيران لدى الجانب الآخر. وأي هجوم بري من جانب المقاومة ونقل المعركة إلى “أرض العدو” سيؤدي بالتأكيد الى تضحيات أكبر بكثير وقد ينقلب الى معركة خاسرة عسكرياً إذا لم تتوفر لها عناصر إنجاح معقولة، خاصة أن العدو يعيش حالة التأهب منذ أكثر من شهر. تجدر الإشارة هنا الى أن العدو اتخذ احتياطات عدة في مستوطناته التي أخلى العديد منها ويمكن أن يطبّق سيناريو تدميرها في حال دخول المقاومين إليها، كما حصل في مستوطنات غزة.

ثمة حاجة للنظر الى الصراع العسكري في سياق أوسع، حيث تنتشر في المنطقة حالياً أكبر قوة بحرية أميركية منذ سنوات طويلة. ويتطلب ذلك الإستعداد لمواجهة إقليمية أكبر عند البحث عن خيارات عسكرية

  • هناك خشية لدى بعض الأوساط من مخطط إستدراج للمقاومة في لبنان الى معركة عسكرية برية. وفي حال قررت المقاومة خوضها، يترتب عليها أن تفعل ذلك بعيداً عن الضوضاء الجماهيرية. ومن الأفضل لها أن تخسر بعض الشعبية لدى جمهور متعطش لأي انتصار، على أن تخسر معركة تجرُّ تداعيات استراتيجية تضعها في موقع أضعف وتؤدي إلى إفقادها الكثير من القدرات التي راكمتها طوال سنوات ما بعد حرب تموز.
  • توجد حاجة للنظر الى الصراع العسكري في سياق أوسع، حيث تنتشر في المنطقة حالياً أكبر قوة بحرية أميركية منذ سنوات طويلة. ويتطلب ذلك الإستعداد لمواجهة إقليمية أكبر عند البحث عن خيارات عسكرية.
إقرأ على موقع 180  ماكرون "لن يترك لبنان وحده".. وضغطه "لن يتوقف"

تنطبق هذه القراءة على التحديات التي تواجه خيارات توسيع الحرب، وتمثل محاولة لرؤية الظروف المحلية والإقليمية والإمكانات العسكرية المحيطة بدور الجبهة اللبنانية في إيقاف الحرب على غزة. غير أنها لا تلغي احتمال تفجّر مواجهة عسكرية أوسع، سواء على نحو شامل أو نصف شامل، لا سيما أن العدو ماضٍ في مسار يهدف لإخضاع القطاع لحكم عسكري مباشر وتهجير أهله، ما ستكون له ارتدادات أمنية إقليمية يصعب التنبؤ بها من الآن، لكن جزءاً منها يمسّ لبنان بالتأكيد.

Print Friendly, PDF & Email
علي عبادي

صحافي وكاتب لبناني

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الإحباط من "التغييريين".. حقيقي أم مُصطنع؟