يتمثل هذا التموضع بالوقوف مع القضية الفلسطينية لاعتبارات متعدّدة، أوّلها باعتبار فلسطين هي الجزء الجنوبي من سوريا، وبقاء هذا الكيان بمشروعه التوسّعي هو تهديد دائم ومستمرّ لكلّ المنطقة المحيطة به، فلذلك كان الثناء منه على المقاومين في فلسطين ولبنان واليمن والعراق واعتبارهم نموذجاً يُحتذى، وهذا التعريج على ذكر المقاومين يحمل دلالات واضحة على توجّهات السياسة السورية المستقبلية فهل تستطيع سوريا البقاء على هذا الخيار؟
كشفت الحرب في سوريا بمستوياتها الثلاثة المحلية والإقليمية والدولية بأنّ ما حصل فيها، لم ينطلق من دوافع ذاتية محلية على طريق ضرورات التغيير السياسي والاقتصادي بالرغم من صدق نوايا البعض، ولكن سرعان ما توضّحت نتائج الحراك السياسي العسكري، فهو لم يكن سوى امتداداً لتحرّك الغرب الاستباقي في منطقة جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط للسيطرة الكاملة عليه، منعاً لكلّ من روسيا والصين من تمدّد نفوذهما إليه، ثم تمدّد الجماعات المسلحة إلى البلدين، وحصار إيران وتمزيق المحور الممتد من حدود أفغانستان إلى شرق المتوسط بما يؤمّن الوجود الآمن للكيان الصهيوني.
دخلت المسألة السورية في حالة التجميد بعد اندلاع الحرب الدولية في أوكرانيا برغم كلّ المحاولات العربية لإعادة الاصطفاف الجيوسياسي السوري من بوابة العودة للنظام العربي، إلى أن حدث زلزال “طوفان الأقصى” وما تبعه من تداعيات أمنية عسكرية، فظهرت أهمية الجغرافيا السياسية المُلِحَّة لسوريا من جديد، فتكشّفت بوادر محاولة عودة السياسات السورية إلى معادلات التوازن بين الأطراف الإقليمية المتناقضة في محاولة لفكّ الخناق عن سوريا، فلجأت السياسة السورية إلى عدم التفاعل النشط مع قوى المقاومة بالتآزر المباشر عسكرياً، وأبقت أراضيها مفتوحة لدعم حزب الله وتزويده بالأسلحة الضرورية، وهو ما حرص حزب الله على تظهيره بالمشاهد المصوّرة “عماد 4” وإبراز الصواريخ السورية “302” كرسالة واضحة لعدم تغيير السياسات السورية في الحفاظ على صمامات أمانها في مواجهة المشروع الغربي لترسيخ تحطيمها واقعياً ثم قانونياً.
توضّح الأمر أكثر بعد عودة الكيان الصهيوني لاستئناف عملياته العسكرية فقام مساء الجمعة 23 آب/أغسطس الحالي بأربع غارات صاروخية على مواقع عسكرية في حماه وحمص، في رسالة تهديدية واضحة بأنّ الساحة السورية تمثّل نقطة الضعف في محور المقاومة بسبب تداعيات الحرب والسياسات الاقتصادية، وبالرغم من النأي السوري العسكري المباشر فإنّ الكيان يدرك حقيقة وطبيعة الموقف السوري، وهو لديه الفرصة لتهديد المحور عبر البوابة السورية واستنزافه فيها.
قد تكون فرصة ما بعد حرب “طوفان الأقصى” بمثابة الفرصة الذهبية لبدء التعافي السوري المتسارع، إذا ما تمّ البدء فعلياً من الآن بما طرحه الرئيس بشار الأسد من ضرورات التغيير الداخلي
من الواضح بأنّ موقع سوريا تغيّر بعد حرب “طوفان الأقصى” المستمرة حتى الآن، وقد تعزّزت أوراق دمشق بشكل كبير مع استمرار العجز “الإسرائيلي” عن تحقيق أهدافه التي وضعها لنفسه قبل بدئه الحرب الأهلية، ومسيرة تأكّل دوره الوظيفي تتسارع أكثر مع كلّ يوم من استمراره بمحاولات البحث عن وجه انتصار لا يبدو ممكناً، وخاصةً بعد الردّ الأوّلي لحزب الله على اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر، وهو ردّ لم يمنح “الإسرائيليين” فرصة استدعاء الولايات المتحدة للانخراط في حرب إقليمية لا تريدها الآن لأكثر من سبب، ولا يمنحهم الجرأة للقيام بردّ على وصول صواريخ المقاومة إلى ضاحية “تل أبيب” الشمالية.
اكتشفت دمشق من جديد أنّ الرهانات التي عملت عليها خلال العامين الماضيين لم تنعكس عليها إيجابياً حتى الآن إلا بشكل محدود، فعودة العلاقات العربية لم تُترجم حتى الآن اقتصادياً بما يخفّف الضغط عن الوسط الشعبي السوري العام الذي أثقلته الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى الدور السلبي الذي يقوده وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي باعتباره رئيس لجنة العلاقات العربية السورية، وهو دور لا يمكن اعتباره إلّا كامتداد للسياسات الداعمة لـ”إسرائيل” بشكل كامل مع استمرار تدفّق المساعدات عبر الأردن إلى الكيان.
أصبحت دمشق أمام واقع جديد لمعادلات القوة، فحسمُ اصطفافاتها من لحظة عدم الموافقة على مرور أنابيب الغاز القطرية عام 2008 قد منع من انهيارها على أعتاب باب النظام الغربي في “إسرائيل” بشراكة من اختارت البقاء معهما (إيران وروسيا)، وهي مقبلة في المرحلة المقبلة على مرحلة الحصاد بعد توقّف إطلاق النار وفقاً لشروط حركة حماس ومعها بقية قوى المقاومة في لبنان واليمن والعراق ومن ورائها إيران، وقد تحقّقت أولى نتائجها بتوقّف اللجنة الدستورية عن الاجتماع بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، ووصول النظام الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة إلى قناعة غير معلنة حتى الآن، باستحالة الوصول إلى حلّ سياسي بين طرفين متناقضين بالتموضع الجيوسياسي بين الشرق والغرب.
قد تكون فرصة ما بعد حرب “طوفان الأقصى” بمثابة الفرصة الذهبية لبدء التعافي السوري المتسارع، إذا ما تمّ البدء فعلياً من الآن بما طرحه الرئيس بشار الأسد من ضرورات التغيير الداخلي التي تعدَّت العشر مرات في كلمته الأخيرة، وهو تغيير لن يتحقّق إلا بإعادة بناء الحياة السياسية المتنوّعة من جديد وفقاً لثوابت متعلّقة بالموقف من فلسطين المحتلة، وخيارات التموضع الجيوسياسي، وإعادة بناء المنظومة الأخلاقية التي تحطّمت بشكل كبير، فخيارات الاحتذاء بقوى المقاومة لا ينفصل عن قيمها الأخلاقية الناظمة لسلوكها السياسي والاقتصادي، ويأتي الاقتصاد في مقدّمة أولويات التغيير فلا يمكن الجمع بين دورة اقتصادية طبيعية واقتصاد الظلّ الذي تجاوزها، وكلّ ذلك يحتاج إلى منظومة جديدة متناغمة مترابطة قيمياً وخبرات بمشروع التغيير الذي لا مناص من العمل عليه من الآن فسوريا طال انتظارها. (المصدر: موقع الميادين دوت نيت).