كنا قد عقدنا جلسات مطولة، على هامش إنتاج “الأعداد الصفر”، وطرحت مقترحات عدة من وحي حماستنا الفائقة وكأننا نصدر أول صحيفة في الكون… ولقد شارك في النقاش العديد من الأصدقاء بينهم محسن إبراهيم وفؤاد شبقلو وجورج حاوي إضافة إلى أركان “الأسرة” التي كانت قد تكاملت تقريباً وفيها ياسر نعمة وبلال الحسن وإبراهيم عامر وميشال حلوه وتوفيق صرداوي وعلي جمال الدين طاهر… تقافزت الخيول من حولنا وحلقت النسور واقترح البعض “الحقيبة الدبلوماسية”، متندراً، ورد آخر باقتراح “الردين غوت”، وعلقت الجلسات لتستأنف ولا جديد.
بعد ظهر الأربعاء في الواحد والعشرين من آذار/مارس، دخل علينا في مكتب رئاسة التحرير حلمي التوني. أردنا الاحتفال به فقال: لننجز أولاً ثم نحتفل.
فتح حقيبته الجلدية الرقيقة وأخرج منها صفحات مطوية فعلقها على جدار المكتب مقدماً لنا تصوره لما يفترض أن تكون عليه الصفحة الأولى من “السفير”.. ثم، وبهدوء شديد، تقدم ليلصق “الشعار” الذي ابتدعه وقال: لم أجد أفضل من الحمامة رمزاً يتناسب مع الاسم. يمكن أن تعتبروها “الحمام الزاجل” الذي كان أسرع بريد في الماضي، كذلك قد يرى فيها البعض رمزاً للتواصل بين الشعوب في مختلف البلاد، ولعلكم في لبنان تحتاجون إلى رمز مهدئ في ظل الاحتدام السياسي الذي تعيشونه هنا كانعكاس لانحرافات بعض القادة العرب وتفريطهم بدماء الشهداء في النضال الفلسطيني، بل العربي عموماً، إذا ما تذكرنا الوقائع السوداء لنهاية الإنجاز التاريخي في حرب أكتوبر!
كان الحل سحرياً. واتخذ حلمي التوني موقعه كركن من أركان “السفير”، وهو الفنان الذي يحمل خبرة عريضة في دار الهلال برعاية مثقف الصحافة العربية أحمد بهاء الدين، والذي عرف لبنان وأعطى فيه جانباً من إبداعه لمطبوعات «دار الفتى العربي» التي كانت أرقى مؤسسة اهتمت بتثقيف الفتية وتنوير الأطفال بالأفكار المشجعة على القراءة عبر الحكايات والرسوم التي شارك في إنتاجها نخبة من الرسامين الكبار بينهم محيي الدين اللباد وبهجت عثمان وأحمد حجازي، وإن ظل حلمي التوني الأكثر التصاقاً بها.
قال حلمي التوني: يمكنكم اعتباري لاجئاً سياسياً، فلقد باشر أنور السادات اضطهاد الوطنيين جميعاً، بعد الضربة التي وجهها إلى الجيش عبر تجميده إثر انتصاره في “العبور” مما مهد لقيام جيش العدو باختراق الجبهة وإحداثه ثغرة الدفرسوار التي ضيّعت دماء الشهداء، وحوّلت النصر المحتمل إلى هزيمة محققة ضربت مصر ومعها الجيش السوري الذي كان قد حقق إنجازات عظيمة على جبهة الجولان، أبرزها نجاح مظلييه في تحرير مرصد جبل الشيخ… وبديهي أن ذلك كله قد ضاع حين تفرغ جيش العدو لمواجهة سوريا بعدما أمر السادات جيش مصر بالانسحاب ثم بوقف إطلاق النار تمهيداً لأن يخرج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي.
ظلّلنا الوجوم لدقيقة، ثم هتف “كبيرنا الذي علمنا السحر” إبراهيم عامر: وإيه يعني؟! سوف ترجع مصر ذات يوم إلى الميدان، وذلك أمر مؤكد، لكننا لسنا أصحاب القرار فيه. أما مهمتنا نحن فهي إصدار جريدة “السفير” في بيروت، والسعي بكفاءاتنا لتوفير شروط نجاحها. والآن وقد أنجزنا تدريب جهاز التحرير، وأتممنا التجارب وصار للجريدة شخصيتها المميزة عبر الماكيت المتقن الذي توجّه الآن الشعار، فهيا إلى العمل…
همس لي حلمي التوني: عم إبراهيم لا يعرف المزاح ولا يطيق البطالة. إنه يعمل حتى وهو نائم. إنه من العشاق النادرين لمهنة الصحافة، ثم إنه يعرف أبوابها وفنون الكتابة جميعاً، التحليل والتعليق والريبورتاج والمقابلة، وهو ضابط إيقاع عظيم… ثم إنه “مدرب” عظيم وسيخرِّج لـ”السفير” جيلاً من الصحافيين الممتازين، فاطمئن.
عندما أنتجنا “الصفر ـ 4” قال محسن إبراهيم: إنها جريدة خطيرة.
قال إبراهيم عامر: انتظروا اللمسات الأخيرة لحلمي التوني. إنه فنان كبير.
وقال ميشال حلوه: يجب أن نعترف أن الزملاء المصريين أكثر منا مهنية. إنهم يلتزمون بأصول المهنة، أما نحن في لبنان فنهتم بالسياسة والسياسيين أكثر من الصحافة، ثم إننا في الغالب الأعم، نعتبر الشكل ثانوياً. وغالباً ما يُترك لمركب الصفحات أن “يخرجها” كما يستنسب.
سهرنا الليالي الطوال: ننتظر في المطبعة أن يحمل إلينا إيلي ربيز النسخ الأولى من التجارب، فنعكف على دراسة كل تفصيل.. نناقش كثافة الخط ومواقع الصور وأحجامها وكلامها. نعترض على بعض رسوم الكاريكاتور، ثم ننهي النقاش حولها بالقول: فلنتركها لناجي العلي، إنه قادم.
.. كان ناجي العلي في الكويت، وهو صديق قديم لياسر نعمة ولبلال الحسن ولي، وكنا تلاقينا جميعاً في مجلة “الحرية” ـ لسان حال حركة القوميين العرب أصلاً، وقبل أن تتولاها منظمة العمل الشيوعي لتنتهي عند الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين.
ولقد هاتفت ناجي العلي فقال بلهفة من تحققت أمنيته: والله إنني أنتظر مكالمتك منذ أسابيع… هياني جاي يا خوي!
أطلقنا “الحمامة” في حملة إعلانية جديدة فاستقبلها الجمهور بحماسة لافتة، وبات الكل يعرف أن ذلك الطائر الوادع والذي يسكن معنا في بيوتنا هو رمز الجريدة الجديدة التي سوف تطل على الناس صبيحة الثلاثاء الواقع فيه 26 آذار/مارس 1974.
هذا عن حلمي التوني المخرج الصحافي صاحب الأسلوب المميز.
أما حلمي التوني الرسام المبدع بلوحاته الرائعة فهو كلاسيكي مجدد حقاً، لا سيما أنه يغرف من نهر التراث التشكيلي المصري الذي يمكن القول إنه قد تكامل مع فجر التاريخ الإنساني المعروف، إذا ما استذكرنا فن النحت والرسم والبراعة في استخدام الألوان منذ الفراعنة (الأقصر، أبو الهول، الكاتب المصري، الفلاحة ومختلف الرموز التي لا تزال صامدة حتى اليوم بألوانها الأصلية).
وحلمي التوني فنان ملتزم بكل معنى الكلمة: هو المصري المعتز بعروبته، وهو المبدع الذي لم يتخل يوماً عن قضية الإنسان والوطن والأمة، وهو “أصولي” حتى في التفاصيل، لا يقبل تفريطاً أو خروجاً على الأصول مهما كانت الذرائع… بل إنه يتعامل كمخرج صحافي مع المادة كأنه يرسم لوحة، ففي تقديره أن “الصفحة” وبغض النظر عن طبيعة مادتها تخاطب عين القارئ وذوقه وإحساسه بالجمال، فلا يجوز الارتجال فيها أو التساهل في أدق التفاصيل.
ولأن حلمي التوني فنان ملتزم، ولأنه عربي في مصريته، فقد بادر إلى نجدتنا حين قررنا في “السفير” أن نصدر “ملحق فلسطين” كجهد إضافي لحماية القضية القومية المقدسة… وهكذا فقد قدم لوحات الغلاف لهذه المطبوعة التي تحاول أن تحمي الحاضر والمستقبل بحماية ذاكرة الأرض المقدسة ونضالات شعبها الذي يتآمر عليه العالم لكي يخرج من وطنه ويخرجه من ذاكرته ويترك هويته لرياح النسيان أو هوايات السلامة في الإذلال المفتوح.
لم يعد حلمي التوني يسألنا أو ينتظر هاتفنا التذكيري بل هو يبادر فيرسم فلسطين لفلسطين والأجيال الجديدة من الفلسطينيين التائهين في بلاد الله الواسعة بعيداً عن وطنهم ـ القضية.
في عيد “السفير” يستحق هذا الفنان المبدع والملتزم في نتاجه المميز تحية من الجريدة التي ساهم في بلورة شخصيتها وفي تزويدها ببعض عدة النجاح الذي حققته في إنعاش الذاكرة الفلسطينية خصوصاً والعربية عموماً حتى لا تسقط منها القضية المقدسة.
(*) المصدر: موقع طلال سلمان (على الطريق)