الصراع على فلسطين.. كيف أُدخِلت “أورشليم” إلى الرواية التوراتيّة؟ (3)

هذا المقال هو الثالث ضمن سلسلة مقالات تتناول القدس والأرض المقدسّة، أستعرض فيه تفاصيل إدخال مدينة القدس (أورشليم) في البانوراما الدينيّة؛ أوّلاً مع بني إسرائيل القدماء، ومن ثم اقتبسها اليهود والمسيحيّون والمسلمون.

هناك اعتقاد شائع عند أتباع الديانات السماويّة أنّ تاريخ القدس يضرب في عمق التاريخ، بل يتجاوزه إلى ما قبل التاريخ كمركز للأرض وفي وسطها، خلقها الله قبل أي شيء آخر ومدّ منها كامل المعمورة، وجرت فيها وحولها حوادث دينيّة تأسيسيّة عبر العصور، أهمّها أنّ الصخرة التي فيها هي مركز العالم، وهي المكان الذي أمر الله إبراهيم أن يذبح ابنه فيه (حسب التراثين اليهودي والمسيحي، وحسب الرواية المفضّلة عند المسلمين قبل القرن التاسع)، وأنّ أوّل هيكل بُنيَّ لله كان فيها، ومنها ارتفع المسيح إلى السماء بعد صلبه وقيامته، ومنها أيضاً كان معراج النبي محمّد.

هذه الأحداث – ونحن نتكلّم من جهة الإيمان وليس من جهة ما يمكن لعلم التاريخ أن يثبت أو لا يثبت – تراكمت عبر العصور، ويمكن أن نقول إنّ المتأخر منها بُنيَ على إيمان يقيني بأنّ الأحداث التي سبقت صحيحة أو تطلّب اختراعها أو نقلها إلى المدينة. بعبارة أخرى، أصبح الإيمان بكلّ حدث متعلّق بما إذا كان موقع القدس له نوع من الحصريّة في عبادة الله (ولا أعني بالضرورة حصريّة مطلقة)، ومشهود لها بذلك، مثلاً، بأنّ “التعريج” إلى السماء يكون منها لذلك أي قصّة تعريج يجب أن تمرّ بالقدس، أو أنّ الأنبياء توافدوا إليها إلخ..

لكن الملفت للانتباه في ما يخصّ هذا الدور لمدينة القدس أنّنا لا نجد أي أثر أو ذكر له في الكتب الخمسة الأولى من الكتاب المقدّس والتي تسمّى تقنيّاً بالتوراة (وهو أيضاً اسم يطلق عامّةً على العهد القديم كاملاً). هذا الأمر يجب التوقّف عنده لأنّ مدينة بهذه الأهميّة وبهذا الكمّ الهائل من القصص لا نجد أثراً له إلاّ في مرحلة متأخّرة من تاريخ إستعمار بني إسرائيل لما يُعرف بأرض الميعاد والتي أصبحت مع الوقت “الأرض المقدّسة”.

للدقّة، هناك ذكر وحيد لموقع يُسمّى “شالم” في الإصحاح الرابع عشر من سفر التكوين، والذي يروي باختصار شديد خبر خروج ملكي صادق إلى موقع اسمه “شَوَى” لاستقبال إبراهيم بعد عودته منتصراً من معركة:

18 وَمَلْكِي صَادِق، مَلِكُ شَالِيم، أَخْرَجَ خُبْزاً وَخَمْراً، وَكَانَ كَاهِناً لِلإِلهِ العَلِيّ، 19 وَبَارَكَهُ وَقَالَ: مُبَارَكٌ أَبْرَامُ مِنَ الإِلهِ العَلِيِّ مَالِكِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض”.

ليس هناك أي معلومة أخرى في سفر التكوين أو باقي التوراة عن موقع هذا المكان الذي اسمه “شالم” وإذا كان المقصود به مدينة أورشليم. وليس هناك أيضاً أيّ ذكر لدور هذا المكان أو أهميّته أو الشعب الذي كان يقيم مع ملكي صادق. والملفت للانتباه أيضاً أنّ التوراة لا تشير بتاتاً إلى أنّ إبراهيم دخل “شالم” أو زارها.

أوّل ذكر لـ”أورشليم” يأتي في الإصحاح العاشر من سفر يوشع عندما يُقدّم لنا النصّ شخصاً اسمه أدوني صادق ويُعرّفه كـ”مَلِكُ أُورُشَلِيمَ”. وفي الإصحاح الثامن عشر نجد ذكراً لمدينة “يَبُوس” يتبعها توضيح أُدخل على النصّ أنّها “هِيَ أُورُشَلِيم”. والملفت للانتباه أيضاً أنّ هدف هذا الإصحاح هو تعريف قسمة الأرض بين قبائل بني إسرائيل القدماء، لذلك يُعدّد لنا أسماء بلدات عدة من دون أي ذكر آخر لها أو لأهمّيتها، ويُدخل مدينة يبوس/أورشليم في قسمة بني بنيامين. وهذا ما يؤكّده بعد ذلك الإصحاح الأوّل من سفر القضاة حين يقول:

21 وَبَنُو بَنْيَامِين لَمْ يَطْرُدُوا اليَبُوسِيِّينَ سُكَّانَ أُورُشَلِيم، فَسَكَنَ اليَبُوسِيُّونَ مَعَ بَنِي بَنْيَامِين فِي أُورُشَلِيم إِلَى هذَا الْيَوْم”.

في هذا الإصحاح، هناك ذكرٌ يجب الإشارة إليه (في الآية 8) حيث يصف لنا قيام يهوذا ومن تبعه (وهم ليسوا من بني بنيامين) بالإستيلاء على أورشليم: “وَحَارَبَ يَهُوذَا وَاتْبَاعِه أُورُشَلِيمَ وَأَخَذُوهَا وَضَرَبُوهَا بِحَدِّ السَّيْف، وَأَشْعَلُوا المَدِينَة بِالنَّار”. لا يشير هذا المقطع بتاتاً إلى أيّ أهميّة أو قدسيّة لمدينة أورشليم، خصوصاً أنّ الإصحاح يروي لنا أيضاً أنّ الله نصّب يهوذا قائداً على بني إسرائيل بعد موت يوشع بن نون، وأمره بالإستيلاء على كامل الأرض التي وعدها لبني إسرائيل (والتي هي إجمالاً محدودة بنطاق فلسطين).

والملفت للنظر أيضاً، حسب سفر القضاة (خصوصاً الإصحاح الثامن عشر)، أنّه في تلك الفترة، كان المركز الديني لبني إسرائيل القدماء في شيلوه (موقعها اليوم إلى الشمال من القدس، بينها وبين نابلس، حسب الإعتقاد الشائع طبعاً)، كما يقول النصّ التالي:

30 وَأَقَامَ بَنُو دَان لأَنْفُسِهِمِ التِّمْثَالَ المَنْحُوت. وَكَانَ يَهُونَاثَان ابْن جَرْشُوم بن مُوسَى هُوَ وَبَنُوه كَهَنَةً لِسِبْطِ الدَّانِيِّين إِلَى يَوْمِ سَبْيِ الأَرْض. 31 وَوَضَعُوا لأَنْفُسِهِم تِمْثَال مِيخَا المَنْحُوت الَّذِي عَمِلَهُ، كُلَّ الأَيَّامِ الَّتِي كَانَ فِيهَا بَيْتُ الإِلهِ فِي شِيلُوه”.

لا أريد الخوض في الرواية القائلة بأن أولاد النبي موسى أصبحوا عبدة وكهنة للأوثان (وهو ما تتحايل عليه بعض الروايات المتأخّرة بتغيير اسم موسى إلى منسّى). لكن الملفت للانتباه في المقطع أعلاه أنّه يُشير بكل وضوح إلى أنّ بني إسرائيل، بعد استيلائهم على أورشليم، لم يعيروها أي أهميّة دينيّة، بل كان الثقل الديني لهم في بلدة شيلوه، حيث نقلوا إليها تابوت العهد وبنوا فيها بيتاً لله وكان الكهنة اللاويّين (من نسل النبي هارون) يخدمونه هناك.

***

تبدأ الأمور بالتغيّر عند قيام النبي داود بالإستيلاء على أورشليم، حسب ما يقول الإصحاح الخامس من سفر صموئيل الثاني. فبعد تتويجه ملكاً على بني إسرائيل في مدينة حبرون (والتي نعرّفها اليوم بالخليل)، هاجم داود وأتباعه أورشليم وانتزعوها من اليبوسيّين:

إقرأ على موقع 180  الأنبياء في القرآن.. أين ذهب طالوت/شاوُول؟ (6)

6 وَذَهَبَ المَلِكُ وَرِجَالُهُ إِلَى أُورُشَلِيم، إِلَى اليَبُوسِيِّين سُكَّان الأَرْض… 7 وَأَخَذَ دَاوُدُ حِصْنَ صهْيَوْنَ، وهِيَ الآن مَدِينَة دَاوُد”.

أضفى هذا الحدث أهميّة سياسيّة لأورشليم لم يكن موجوداً من قبل، فأصبحت عاصمة لمملكة بني إسرائيل. ومع الوقت أراد داود أن لا ينحصر هذا الدور بالبعد السياسي، وأن يشمل أيضاً دوراً دينيّاً، فأمر بنقل تابوت العهد إليها، كما يروي لنا سفر صموئيل الثاني، تحديداً في الإصحاح السادس: “فَذَهَبَ دَاوُدُ وَأَصْعَدَ تَابُوتَ الإِلهِ مِنْ بَيْتِ عُوبِيد أَدُوم إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ بِفَرَحٍ”.

ولم يكن نقلُ تابوت العهد إلى أورشليم عملاً رمزيّاً، بل هو تأسيس أتاح للمدينة أن تلعب دوراً دينيّاً محوريّاً عند بني إسرائيل القدماء، خصوصاً إذا ربطنا الأحداث المؤسّسة لذلك ببعضها البعض. أعني هنا ما يقوله الإصحاح الرابع والعشرون من سفر صموئيل الثاني (ويُكرّره الإصحاح الواحد والعشرون من سفر أخبار الأيّام الأوّل) أنّ الله غضب من داود لأمور كثيرة آخرها التباهي بعدد بني إسرائيل الضخم، فأرسل ملاكاً ليهلكهم ويُدمّر أورشليم. ورأى داود ملاك الربّ عند بيدر أَرُونَة اليبوسي، فجاءه النبي جاد وقال له: “اصْعَدْ وَأَقِمْ لِلرَّبِّ مَذْبَحاً فِي بَيْدَرِ أَرُونَة اليَبُوسِيّ”. ويتابع الإصحاح نفسه في سفر صموئيل (ويتكرر النص شبه حرفيّاً في سفر أخبار الأيّام الأوّل):

24.. فَاشْتَرَى دَاوُد البَيْدَرَ وَالبَقَرَ بِخَمْسِينَ شَاقِلاً مِنَ الفِضَّةِ. 25 وَبَنَى دَاوُد هُنَاكَ مَذْبَحاً لِلرَّبِّ وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ، وَاسْتَجَابَ الرَّبُّ مِنْ أَجْلِ الأَرْضِ، فَكَفَّتِ الضَّرْبَةُ عَنْ إِسْرَائِيل”.

الملفت لانتباهنا هنا أنّ المكان يتمّ تعريفه كبيدر (أي حيث تُدرَس محاصيل الحبوب، خصوصاً القمح، لفصلها عن القشّ)، والذي يقع خارج مدينة أورشليم ويملكه رجل يبوسي (اسمه أَرُونَة)، أي لم يكن من بني إسرائيل. ولا يُعطي النصّ أي أهميّة أخرى لذلك المكان، ولا حتّى يبدو أنّه واعٍ لأيّ علاقة للموقع بأحداث جرت في السابق.

وبغض النظر عمّا إذا حصل هذا الأمر تاريخيّاً، كما يروي الإصحاح (رواية استيلاء داود على أورشليم، وما حدث على البيدر، وشراء داود له، وقيامه ببناء المذبح هناك) أو أين حصلت (في فلسطين أم في مكان آخر)؛ نحن أمام سرديّة مُؤسّسة لأنّها حوّلت أورشليم من بلدة يبوسيّة لا علاقة لبني إسرائيل بها إلى بلدة أصبحت مركز الثقل السياسي والديني لهم.

ذروة هذا الجهد حصل مع النبي سليمان وبنائه للهيكل. هنا، تحوّلت أورشليم من مدينة ذات طابع سياسي وديني، إلى مركز ديني أريد منه أن يحتكر بصورة كاملة وشاملة علاقة بني إسرائيل بربّهم. (ومن جديد، لن أدخل في نقاش حول تاريخيّة هذا الأمر، لأنّني أركز على البعد الديني العقائدي، مع العلم أنّه حتى اليوم لم يُكتشف أي دليل على وجود هيكل النبي سليمان في القدس).

نرى هذه المركزيّة الحصريّة لأورشليم بكلّ وضوح في الإصحاحين السادس والثامن من سفر الملوك الأوّل والذي نصّهما كما يلي:

12 هذَا البَيْتُ الَّذِي أَنْتَ بَانِيهِ، إِنْ سَلَكْتَ فِي فَرَائِضِي وَعَمِلْتَ أَحْكَامِي وَحَفِظْتَ كُلَّ وَصَايَايَ لِلسُّلُوكِ بِهَا، فَإِنِّي أُقِيمُ مَعَكَ كَلاَمِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ إِلَى دَاوُد أَبِيكَ، 13 وَأَسْكُنُ فِي وَسَطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلاَ أَتْرُكُ شَعْبِي إِسْرَائِيلَ. 14 فَبَنَى سُلَيْمَانُ الْبَيْتَ وَأَكْمَلَهُ”.

22 وَوَقَفَ سُلَيْمَان أَمَامَ مَذْبَحِ الرَّبّ تُجَاهَ كُلِّ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيل، وَبَسَطَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء 23 وَقَالَ: أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيل،.. 29 لِتَكُونَ عَيْنَاكَ مَفْتُوحَتَيْن عَلَى هذَا البَيْتِ لَيْلاً وَنَهَاراً”.

يدخل هنا عنصران مهمّان من الأحداث المُؤسّسة التي أعطت لمدينة القدس قدسيّتها وعلّلت حصريّتها: أنّ الله سكنها، وأنّه ينظر إليها كل يوم.

***

إذاً، بناء الهيكل في أورشليم أعطى مدينة القدس أهميّة استثنائيّة أصبحت مع الوقت حصريّة، وتطلّبت إعادة تحديد وصياغة حوادث مؤسّسة سابقة، أهمّها قصة ذبح إسحاق. لذلك نجد في الإصحاح الثالث من سفر أخبار الأيّام الثاني كيف يُعيد النصّ سرد رواية بناء سليمان للهيكل، لكنّه يُضيف تفصيلاً مذهلاً:

1 وَشَرَعَ سُلَيْمَان فِي بِنَاءِ بَيْتِ الرَّبّ فِي أُورُشَلِيم، فِي جَبَلِ المُرَيَا، حَيْثُ تَرَاءَى لِدَاوُدَ أَبِيهِ، حَيْثُ هَيَّأَ دَاوُدُ مَكَاناً فِي بَيْدَرِ أُرْنَانَ الْيَبُوسِيِّ”.

إدخال هذه الإشارة إلى “جبل المريا” ليس بصدفة وليس ببريء، إذ هدفه ربط البيدر بالمكان الذي أمر الله إبراهيم أن يذبح فيه ابنه، حسب سفر التكوين (الآية 2 من الإصحاح الثاني والعشرين):

“خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ المُرَيَا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الجِبَالِ الّذِي أَقُولُ لَكَ”.

لم يكن هناك أي ذكر لهذه العلاقة بين أورشليم وجبل المُرَيا قبل سفر أخبار الأيّام الثاني. السؤال إذاً: ما الذي تغيّر لكي يجد كاتب السفر نفسه مُجبراً على إدخال هذه العلاقة في النصّ؟

الجواب هو أنّ أورشليم أصبحت بحاجة لأعمدة من التاريخ القديم يُؤسّس عليها لتوكيد أهميّتها المستحدثة. وتوالت بعد ذلك محاولات نقل أحداث أخرى إليها سنُقاربها في المقال الرابع..

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  غزّة مُجدّداً.. مُفاجآت حماس وتبدُل قواعد الإشتباك والردع