الجنوبُ السّوريّ محتلٌّ.. حيَّ على المقاومة

ليلةَ القبضِ على دمشق فجر الأحد 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، وانتزاعها من النظام السابق، كان جيش الإحتلال الإسرائيليّ يقبض على سوريا الجغرافية كلها، جوًا وبحرًا وبرّاً، وينتزع 500 كيلومتر مربع منها، مُعلناً "العودة" إلى قمة جبل الشيخ (حرمون) لينشد عليها نشيد "هاتكفاه" ويقتلع صلباناً تاريخية، ويستقدم وفوداً حاخامية، لتأدية طقوس تلمودية، في مشهد سوريالي استفزازي نقيض للتاريخ وللجغرافيا.

بدا بنيامين نتنياهو في عجلة من أمره، مستعجلاً كل شيء، كوحش مفترس يُسابق غيره على حجز حصته في الفريسة السورية التي وقعت في ليلة ملتبسة، وأفاقت على أمرٍ دُبّر بليل – و”متى وقعت البقرة كثر سلّاخوها”- فراح يُمزّق ٱتّفاقيّة فكِّ الإشتباك (1974) ويخترق المنطقة العازلة في الجنوب السّوريِّ، ويجتاح ثلاثةً من أريافه، في ثلاثٍ من محافظاته: دمشق والقنيطرة ودرعا، ليُشرف على طريق دمشق- بيروت بمسافة 15 كلم (حتى الآن) تحت مُسمّى “سهم باشان”، وهو مُسمّى الجنوب السوري في التوراة التي تزعم أن ملكه كان من العمالقة الكنعانيين ممن استوطنوا المنطقة منذ القرن (12 ق. م).

لم تمضِ ثلاثة أيام حتى جاء من طهرانَ اتجاه عكس السّير في الإقليم، بأنَّ هذه المناطقَ السّوريّة المحتلّة “سيتمّْ تحريرها بفضل الشّباب السّوريّين وسيشمَل نطاق المقاومة المنطقة بأسرِها أكثر من السّابق”، وهو ما بدا توقّعاً خارج سياق المرحلة ومسار أحداثها، أو إنذاراً مبكراً جداً في أحسن الحالات.

لكن أسبوعاً واحداً على التوقع كان مدخلاً لريف درعا يوم الجمعة 20 كانون الأول/ديسمبر 2024 الى أوّل تظاهرة ومن المنطقة العازلة نفسها، تلتها تظاهراتٌ ومواجهاتٌ في الأرياف الثلاثة، تطالب بخروج الاحتلال الإسرائيليِّ الذي واجهها بالرّصاص مُوقعًا جرحى بين المتظاهرين، لكنّ تاريخ المنطقة يشي بأنه كان يُطلق أوّل رصاصة على نفسه هو، فالدَّمُ يستحضر الدّم، والغزو يستوجب الجهاد، والإحتلال يستولد المقاومة، وتلك مشيئةٌ إلهيّةٌ، وإرادةٌ شعبيةٌ، وسُنّةٌ تاريخيةٌ، ستُسَجّلُ أوّل تظاهرة أَسّست لٱنطلاقة المقاومة السّوريّة الحديثة ضدّ الإحتلال الإسرائيليّ قديمِه وحديثِه، وتدون بأوّل نقطة دمٍ لأوّل جريح فيها برصاصِ هذا الإحتلال شرارة النّضالِ على طريق تحرير سوريا منه أرضًا وشعبًا، وعليه يُبنى الرّهان ولو بعد حين مهما طالت الفواصلُ الزمنية والخرافات التوراتية/ وما أكثرها – ففي سِفر التكوين (15 – 18:) “قطعَ الربُّ مع إبرام ميثاقاً قائلاً: لنَسلِكَ أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى الفرات”، وفي سِفر التثنية أمر الله موسى أن يقود الشعب العبراني للاستيلاء على فلسطين ولبنان وأجزاء من الأردن وسوريا ومصر، وهو ما وَرَدَ في وصف سِفر صموئيل عن “المملكة الموحدة” على أن الأكثر تحديداً كان سفر أخبار الأيام الأولى (13 – 5:) إذ “خاطب الربُّ شعبه زمن داود قائلاً: وجمع داود كل إسرائيل من شيحور مصر إلى مدخل حماة..”.

هذه الاختراعات التوراتية في الموروث الديني، ترجمتها السرديات السياسية ومنها دراسة الحاخام “إيزاكس” عن الدولة اليهودية “إسرائيل الكبرى” مرفقة بخريطة عُرفت بـ”خريطة إيزاكس” وتشمل فلسطين والأردن وجنوبي لبنان بدءاً من صيدا، والجنوب السوري بدءاً من جنوبي دمشق بما في ذلك جبل الشيخ وسهل حوران..”.

أما منشور حركة “نحالا” الاستيطانية، فحدّد الاستيطان “في غزة، ولبنان، وكامل هضبة الجولان بما في ذلك الجانب السوري، وفي كامل جبل الشيخ”، مرفقاً بخارطة “حدود أبراهام”، وفيها إسرائيل على كامل مساحة لبنان ومعظم سوريا والعراق.

لكن تاريخ سوريا – الذي تُفيد آثارها أنه يرجع إلى أول سكن بشري فيها قبل حوالي 700 ألف عام – يؤكد أنه قد يحمل أي شيء لكن جلدها لا يحتمل الغزاة، ولهذا فإن الرهان على نواة لاستيلاد خطواتِ مقاومةٍ تدريجيةٍ – ولو متقطعة زمنياً – نحو هذا الخيار، لكنّها في حال التكرار ستنمو لتتبلوَرَ في مقاومة، وتتفرّعُ إلى مقاومات.

تقول المعادلة: حيث يوجد احتلال توجدْ مقاومة، ولهذا هو في الجنوب اللّبنانيِّ، حيث المقاومة، عجز عن تجاوز قرية واحدة طيلة شهرين، وسيعجز عن البقاء في القرى الأمامية، لكنه في الجنوبِ السّوريّ كان خلال يومين يُكمل احتلال الجولان (1860 كلم2) وقمّة جبل الشّيخ وما حولها، ويُثبّت احتلاله في سبع نقاط من الجنوب السوري وما يزال

ربّما – وهذا الأرجح – كانت التّظاهرات والمواجهات عفويّةً لا تنظيمَ وراءَها ولا نظامَ ولا زعيمَ ولا إعلام، لكنّها تؤسّس لمرحلة جديدة معالمها: مقاومة جديدة، لاحتلالٍ جديد، في سوريا جديدة – إلا اذا كانت بلاد الشّام في العهد الجديد “لن تكون منصة أو منطلَقًا لعمليات ضدَّ إسرائيل” – فالمقاومة وجهها وهُوِيَّتُها ودمُها الذي يجري في عروقها وفي شرايينِ كلّ سوريّ وطنيّ، تِلكم هي صورتها الحقيقيّة، وليس تلك الصورَ المعدوداتِ لجنود الإحتلال مع بضعة شبّان وأطفال، أو لآخرين يجمَعون له ما في قريتهِم من سلاح التي أراد منها حفر “صورةِ نصر” في الذاكرة الجمعية اليهودية والسورية على حد سواء، وتظهير سكان تلك المنطقة بمظهر المتقبلين للإحتلال، المرحِّبين به، المتعايشين معه، أو المطالبين بالإنضمام إلى الجزء المحتل من جولانهم نحو وعدٍ وهمي بدويلةٍ درزية، وهو ما يضعهم بالتناقض مع طينتهم، وبالتّضادِّ معَ تاريخهم، العابق بالشّهداءِ، الحافل بالمقاومة، المزدحم بالثورات ضدَّ الإحتلال العثمانيِّ طيلة أربعمائة عام، منذ بدئه عام 1516 حتّى اندحاره عام 1918، وضدَّ الإحتلال الفرنسي الذي تلاه وما واجهه من مقاومات وثورات، بَدءًا بثورةِ السّاحل السوري بقيادة “صالح العلي” (1919) بالتّزامن مع ثورة حلب وريفها في العام نفسه بقيادة “إبراهيم هنانو” وثورة دمشق ومعركة ميسلون بقيادة “يوسُف العظمة” (1920)، وكلُّها كانت مخاضات لمقدّمات الثورة السّورية الكبرى عام 1925 التي أعلنها ثوّار جبل العرب في الجنوب السّوريّ بقيادة “سلطان باشا الأطرش” وانضمّ معهم مقاومونَ من سوريا ولبنان والأردن وفلسطين وما تلاها من ثورات (1939 – 1941 – 1945 – 1947 – 1948 – 1953 – 1954). ومنذ ذلك الحينِ حِيكت الدّراما السّورية حصراً على مقاوماتِ ٱحتلالَين: العثمانيِّ والفرنسيِّ، فهل تكمل بمقاومة الإحتلال الثّالث الإسرائيليّ؟ وهل تؤذنُ تظاهرات صلاة الجمعة بنداءٍ سوريٍ واحد: حَيَّ على المقاومة؟

إقرأ على موقع 180  محمد شياع السوداني في دمشق.. رسالة عراقية للأميركيين!

الجواب نماذج أولها من الجنوب السوري نفسه الذي لم يكن منخرطاً في جبهة إسناد غزة، ولم تُطلَق منه رصاصة حتى نحو الجولان المحتلّ، فلماذا يغزوه العدو ويحتل قراه؟ ولماذا يستبيح سوريا العسكرية ويُدمّر بنية جيشها من طائرات ودبابات وصواريخ وسفن وسلاح ومخازن وأنظمة دفاع جويّ ومراكز أبحاث؟ هل كان ليتقدم شبراً بالمجان لو كان هناك مقاومة؟

النموذج الثاني في غزة نفسها المحاصرة المدمرة على (365 كلم2) فقط، سوَّاها العدو بالأرض، في محرقة العصر طوال عام ونيف، لكن المقاومة الفلسطينية تنهض من بين الركام بكمائنها وصواريخها على “غلاف غزة”، لتُحقّق رؤية ذلك الباحث الاسرائيلي خلال حرب الإسناد نفسها بأن “حركات المقاومة كطائر الفينيق تعود كلّ مرّة للنّموِّ وتتغيّر من جديد”.

النموذج الثالث يأتي من الضفّة الغربية المحتلّة؛ هي الأخرى توأم غزة بالجغرافيا والهوية والجنسيّة والمقاومة، لكنّها لم تكن جبهة إسناد لها، ولا جزءاً منها، فلماذا لم يتوقّف العدوان الصِّهيونيّ عنها بالاغتيالات والتّوغّلات والٱعتقالات؟ ولماذا يتهدَّدها “سموتريتش” بالعدوان والاحتلال النّهائيِّ في العامِ 2025؟ وهو نفسه الحالم خلال فيلم وثائقي لقناة “آر.تي” الفرنسية الألمانية، بِـ”إسرائيل الكبرى التي تمتد من النيل إلى الفرات وتشمل دمشق”.

النموذج الرابع هو الجنوب اللّبنانيّ المقاوم الذي التزم ويلتزم وقف إطلاق النّار، فلماذا لم يُوقفه العدو ويُصرّ على الخروقات بالغارات والمسيّرات والاغتيالات ونسف البيوت والمساجد وجرف الطرقات ويُمعن بالتّوغل في قرى وأودية كالحجير والسلوقي وغيرها ممن عجز عن الوصول إليها خلال عدوان الشّهرين وستة أيام؟

تقول المعادلة: حيث يوجد احتلال توجدْ مقاومة، ولهذا هو في الجنوب اللّبنانيِّ، حيث المقاومة، عجز عن تجاوز قرية واحدة طيلة شهرين برغم الإطباق الجوّيِّ والبرّيِّ بخمس فرق من سبعين ألف جندي، وسيعجز عن البقاء في القرى الأمامية، لكنه في الجنوبِ السّوريّ كان خلال يومين يُكمل احتلال الجولان (1860 كلم2) وقمّة جبل الشّيخ وما حولها، ويُثبّت احتلاله في سبع نقاط من الجنوب السوري وما يزال.

والمنطقُ يتساءل: لماذا أوقف العدوّ الإسرائيليّ عدوانه على لبنان وانتقل الى سوريا قبل أنْ يُحقّق هدفه المعلن بالقضاء على المقاومة لو استطاع ذلك؟ ولو كان في جنوبها مقاومة؟

والجواب يُؤكد حتمية المقاومة لحماية الأرض أولاً، وتحريرها في حال وقوعها تحت براثن الإحتلال ثانياً، فكلفة المقاومة أياً بلغت تبقى أقل من فاتورة نِير الإحتلال إذا ما ربض واغتصب الأرض وما فيها وعليها، في لحظة خطأ تاريخيٍّ عابر.

فيا “أيها المارون بين الكلمات العابرة 

إحملوا أسماءكم وانصرفوا

وخذوا ما شئتم من صورٍ، كي تعرفوا

أنكم لن تعرفوا

وانصرفوا.. آن أن تنصرفوا

وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا

ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا

فاخرجوا من أرضنا

من برنا.. من بحرنا

من كل شيء، واخرجوا

من مفردات الذاكرة

أيها المارون بين الكلمات العابرة”! (محمود درويش)

Print Friendly, PDF & Email
غالب سرحان

كاتب لبناني

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  "أيام لبنانية حاسمة".. حكومة دياب إلى الإنتخابات دُرْ!