“غرف الصدى” في اللعبة السياسية.. مجرد سجون!

في كل لحظة سياسية لبنانية تاريخية أو فارقة، تتبدى سردية من هنا أو من هناك. يتلقف الجمهور الطائفي السردية التي تناسبه ويرفض كلّ سردية تُخالف قناعاته. كيف يُمكننا أن نرتقي بأفكارنا وهواجسنا وصولاً إلى كسر الحواجز بين بعضنا البعض؟

إذا تأملنا جيدًا في أنفسنا، قد نجد أحيانًا أننا عالقون في دائرة من الأفكار المُتكررة والمعتقدات المألوفة. نبحث عن معلومات تؤكد ما نؤمن به، عبر شاشة التلفاز، أو منصات التواصل الاجتماعي. مع مرور الوقت، يتكرّر هذا النمط حتى نصبح أسرى معتقداتنا؛ ندافعُ عنها بشدة من دون أن نُدرك أحيانًا سبب هذا الدفاع. عملياً نتفق مع من يشاركنا الرأي ذاته، ونُعادي من يخالفنا!

هذا الشعور يُعرف في علم النفس بـ”غرف الصدى” (Echo Chambers)؛ أي البيئة التي يشعر فيها الإنسان بأنه محاطٌ فقط بالمعلومات التي تُعزّز قناعاته وأفكاره، مما يؤدي إلى عزله عن الأفكار والآراء الأخرى.

في عالم السياسة، تُعد هذه الظاهرة أداة فعّالة لاستغلال الناس واستعمالهم كوسيلة للدفاع عن فكرة معينة؛ مشروع معين؛ زعيم معين؛ حيث تلعب التحيزات الإدراكية والمغالطات المنطقية دورًا أساسيًا في تكوين معتقداتهم وحبسها داخل “غرف الصدى”.

***

الخروج من “غرف الصدى” ليس مجرد خيار، بل ضرورة للارتقاء بفكرنا، وكسر الشرخ الكبير الذي يفصل بيننا. علينا التحرر من التكرار المريح والانطلاق نحو فهم أكثر عمقًا وتعقيدًا لواقعنا، بعيدًا عن أصوات تُعيد صدى ما أُريد لنا أن نُصدّقه، وهذا يصب في خانة العقل المستريح!

التحيزات الإدراكية: كيف يخدعنا عقلنا؟

التحيزات الإدراكية (Cognitive Biases) هي طرق تفكير مختصرة يلجأ إليها الدماغ لاتخاذ قرارات سريعة، لكنها قد تكون مضلّلة، خصوصاً في قضايا معقدة مثل السياسة. نستعرض بعضًا منها:

التحيز التأكيدي (Confirmation Bias): وهو الميل إلى تفضيل المعلومات التي تؤكد معتقداتنا السابقة. فعندما يدافع فريق سياسي عن زعيمه، يبحث عن الأدلة التي تُضخّم إنجازاته ويتجاهل الأدلة السلبية التي تُشير إلى فشله، فيصبح المدافع الأول عن هذا الفشل، ومن ثم شريكًا في نتائجه من دون أن يدري إلى أين يقوده ميله.

التحيز للوضع الراهن (Status Quo Bias): يظهر عندما تتمسك الأغلبية بالوجوه التقليدية، معتقدةً أن التغيير قد يكون أسوأ من الواقع الحالي، برغم معاناتها من فساد الطبقة الحاكمة وانهيار جميع قطاعات الدولة.

انحياز الإدراك المتأخر (Hindsight Bias): وهو استخدام أحداث الماضي للتنبؤ بالمستقبل من دون تحليل منطقي يظهر الظروف المختلفة ومدى قدرة الإنسان على التغير والتعلم من ماضيه.

تحيز التكلفة الغارقة (Sunk Cost Fallacy): وهو الإصرار على الاستمرار في مشاريع فاشلة بسبب الجهد والموارد والطاقة التي استُثمرت فيها.

***

المغالطات المنطقية: كيف يتم التلاعب بنا؟

المغالطات المنطقية (Logical Fallacies) هي أخطاء في التفكير قد تُستخدم للتلاعب بالجماهير. نراها في الخطابات والحوارات السياسية بشكل متكرر، وغالبًا ما نمارسها أو نقع ضحيتها من دون وعي. إليكم أبرز الأمثلة:

مغالطة الهجوم الشخصي (Ad Hominem): تُعد من أشهر وسائل التلاعب، حيث يتم مهاجمة الشخص بدلًا من مناقشة أفكاره. على سبيل المثال، يُوصَف منتقدو طرف معين بـ”الخونة” أو “عديمي التاريخ”، بدلًا من الرد على أفكارهم التي يجب أن تكون مشروعة.

مغالطة رجل القش (Straw Man): تحريف النقاش، مثل اتهام شخص يريد إنهاء الطائفية بأنه يسعى لإلغاء الدين أو القضاء على طائفة معينة.

مغالطة الاحتكام إلى السلطة (Appeal to Authority): اعتبار رأي شخص مؤثر دليلًا قاطعًا، برغم أنه قد يكون هو الآخر محصورًا في “غرف الصدى”.

مغالطة المعضلة الزائفة (False Dilemma): الإيحاء بوجود خيارين فقط من دون بدائل أخرى، كأن العالم يتأرجح بين الأبيض والأسود.

***

السياسة: ساحة المغالطات والتحيزات

في مختلف دول العالم، تُستغل مخاوف الناس لتحقيق مكاسب سياسية. يتم توظيف خطاب التخويف من “الآخر” لحشد الأصوات، متناسين أن هموم المواطن، مهما كان انتماؤه السياسي، تتعلق بمستقبله ومستقبل عائلته. فلا سباق التسلح النووي يعنيه، ولا صراع الأقطاب الكوني يُغير من تحدياته اليومية، ولا مخصصات زعيمه تغنيه، ولا حروب الماضي تبني مستقبله.

ومع ذلك، ينجح السياسيون وأدواتهم الإعلامية في تحويل هذه الأفكار التجريدية إلى أولويات حياتية، مما يجعلنا أسرى “غرف الصدى”.

منصات التواصل الاجتماعي تُعمّق المشكلة؛ فخوارزمياتها تُظهر محتوى يتوافق مع آرائنا، مما يُعزّز الانحياز التأكيدي والثقة الزائدة بأننا دائمًا على حق.

***

كيفية الخروج من “غرف الصدى

حدّد علماء النفس العديد من المغالطات المنطقية التي تُستخدم للتلاعب بنا، إضافة إلى التحيزات الإدراكية التي نخدع بها أنفسنا. للخروج من هذا الوضع، يجب أن نبدأ في التعمق في فهم هذه الآليات، واستيعاب أدواتها لتجنب الانزلاق في فخاخها.

للإعلام والمؤثرين دورهم الكبير في تعزيز التفكير النقدي وكشف أدوات التلاعب هذه، والمساعدة على الخروج من هذه الغرف. تخيّل أيها القارىء، مثلًا، برنامجًا أسبوعيًا متخصصًا في تحليل أدوات التلاعب الإعلامي ومدى تأثيره على نشر الوعي بين المواطنين.

إقرأ على موقع 180  الأوهام المنتفخة، الجدران المتكسرة.. والخيمة الباقية

الخروج من “غرف الصدى” ليس مجرد خيار، بل ضرورة للارتقاء بفكرنا، وكسر الشرخ الكبير الذي يفصل بيننا. علينا التحرر من التكرار المريح والانطلاق نحو فهم أكثر عمقًا وتعقيدًا لواقعنا، بعيدًا عن أصوات تُعيد صدى ما أُريد لنا أن نُصدّقه، وهذا يصب في خانة العقل المستريح!

الخروج من “غرف الصدى” خطوة نحو التحرر من هذا السجن الفكري.

Print Friendly, PDF & Email
يوسف نعيم

مهندس لبناني، ناشط في المجال الثقافي ومؤسس مجتمع "بيروت للجاز"

Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  سمعة لبنان تهتز: كأنها صفعة كارلوس خاشقجي!