كان رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، عند إعلانه الحرب على غزة، قد وضع ثلاثة أهداف استراتيجية، وهي: تحرير الأسرى الإسرائيليين بالقوة، تدمير قوة حركة “حماس” العسكرية وإنهاء سلطتها على القطاع. لكنه فشل في تحقيق أي من تلك الأهداف. وكل ما فعله هو وجيشه كان ارتكاب جريمة العصر: إبادة أكثر من 150 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح ومفقود، وتدمير ما يزيد عن 80% من مناطق القطاع.
في هذا السياق، يرى الباحث والنائب السابق في الكنيست، عوفر شيلح، أن “إسرائيل لم تقضِ على حماس، لأنها وببساطة لم تستطع أن تفعل ذلك، ولم تكن أصلاً قادرة على ذلك أبداً”. وأن ما يؤكد ذلك هو “إصرارها على استخدام القوة.. والمزيد المزيد من القوة لأسباب تتعلق بقِصَر النظر وبأهداف سياسية، وحتى شخصية بحتة”، بحسب قوله.
لا انجازات تحققت
ويضيف شليح، في مقال نشره على موقع “معهد دراسات الأمن القومي”، أنه وبسبب الحرب على غزة “جرى إنهاك الجيش الإسرائيلي بمهمات تبين أنها لم يكن لها أي دور أو حتى في تحقيق أي من أهداف الحرب، ولا حتى بشروط إنهائها. وضعفت مكانة إسرائيل الدولية بصورة كبيرة. وكل هذا لم يغير من حقيقة النهاية التي وصلنا إليها.. فالقادة المستقبليون للتنظيم “الإرهابي” (حماس) سيخرجون من المعتقلات، وسيساهمون في تعافي تنظيمهم من جديد.. حتى لو تم طردهم إلى شتى أصقاع الأرض. وبالتالي لا جدوى من التلويح بتحقيق إنجازات ووصفها بالمهمة؛ بما في ذلك تلك التي يُقال إنها تحققت في سبيل منظومة أمن الشمال؛ مثل الضربات العسكرية الحاسمة ضد حزب الله، اغتيال أمينه العام السيّد حسن نصر الله، وعملية تفجير أجهزة البيجر واللاسلكي، وغير ذلك. لقد كان بالإمكان التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة في أيار/مايو الماضي”.
ويختم شيلح مقاله بالتأكيد على وجوب الالتزام بكل بنود صفقة تبادل الأسرى مهما تكن الأثمان، وبرغم كل العذاب النفسي وصرير الأسنان اللذَين سيرافقان مراحل التنفيذ الاتفاق”.
شبح المحررين الفلسطينيين
في صحيفة “يديعوت أحرنوت”، يقارب الصحافي والأستاذ الجامعي رون بن يشاي صفقة التبادل من زاوية مختلفة، منطلقاً من البند الأهم بالنسبة إليه، ألا وهو أن “إسرائيل لم تلتزم بإنهاء الحرب بعد المرحلة الأولى. وبذلك، هي تُبقي خطر تجدد القتال في أي لحظة بإبقائها السيف مسلطاً فوق رقاب مسؤولي حماس لكي يعيدوا بقية المخطوفين، الأحياء منهم والأموات”.
وبرغم تفاؤله، يقول بن يشاي إن الصفقة تشوبها سلبيات لا يمكن تجاهُلها، في إشارة منه إلى أن تحرير آلاف “الإرهابيين” الفلسطينيين يمكن أن يعيد تعزيز جماعات “الإرهاب” الإسلامي بعد أن تم القضاء على الكثير من قياداتهم وقوتهم خلال الحرب في غزة والضفة الغربية”. لكن بن يشاي يعود ويمنِّي النفس بقوله، “صحيح أن “الإرهابيين” الكبار لن يعودوا إلى الضفة الغربية، أو غزة، لكن يجب العمل على أن تكون وجهتهم تركيا أو قطر أو مصر، حيث يمكن أن يكونوا تحت الرقابة.. وهذا ما سيفعله “الموساد” و”الشاباك” والجيش كما هو معلوم. هؤلاء سيهتمون بمراقبة وملاحقة المحرَّرين عن كثب أينما كانوا، لإحباط وإفشال أي نوايا لتنفيذ عمليات إرهابية أو أعمال تآمرية”.
لكن يبدو أن بن يشاي، وغيره من الكتّاب الإسرائيليين المتفائلين والمؤيدين للصفقة، والذين يجزمون بأن إسرائيل “منتصرة”، فاتهم بأن من تبقى من مجاهدي “حماس” الذين نفذوا عملية “طوفان الأقصى” وقهروا الاحتلال، لن يُحاكموا اليوم، وسيبقون طُلقاء في غزة إذا لم يعاود العدو استهدافهم أو اعتقالهم، وهذا بالطبع دونه عقبات جمّة على الكيان العبري.
أثمان لا حدود لها
بدوره، يلوم الكاتب عومر تسنعاني رئيس الوزراء الإسرائيل لعدم انجاز الصفقة في أيار/مايو الماضي وفقاً لاقتراحه آنذاك، والذي تبناه الرئيس الأميركي السابق جو بايدن. ففي مقاله في “معاريف”، يُحمل تسنعاني نتنياهو مسؤولية الدماء التي دفعها الجيش الإسرائيي خلال الأشهر السبعة (من أيار/مايو لغاية إتمام صفقة التبادل). ويقول: “كان الثمن كبيراً جداً لدرجة يصعب عدم التفكير به. لكن الأمر الآخر الذي لا يمكن عدم التفكير فيه والذي يجب أن يطرد النوم من أعيننا هو أنه من دون إجراء تغيير دراماتيكي في سياسة الحكومة؛ التي رفضت حتى الآن بديلاً عن حماس؛ فإن الصفقة لن تشهد أي تقدم في مراحلها المقبلة، وسلطة حماس لن تزول، ومَن تبقّى من أسرانا في غزة لن يعودوا، والحرب لن تنتهي”.
ويضيف تسنعاني: “هذا فضلاً عن أن عدد القتلى الذين سقطوا لنا خلال الأيام الأخيرة في غزة يؤكد ثمن الجود العسكري الدائم في الميدان سيكون دموياً. فمناطق القطاع تعجُ بالمقاتلين المستعدين لخوض حرب عصابات إلى ما لا نهاية، مستفيدين من تحركات قواتنا في الميدان. فهؤلاء يتكيفون مع كل المستجدات والمخاطر والتحديان من أجل مهاجمة قواتنا. هذه الدينامية، بالإضافة إلى الثمن الذي نتكبده، يعرفها المواطنون الإسرائيليون جيداً، وسبق أن اختبروها لأكثر من 18 سنة، عندما كانت قواتنا غارقة في حزام أمني في لبنان. ويبدو أن الثمن الذي علينا أن ندفعه من أجل إعادة جميع أسرانا وقواتنا إلى منازلهم لن يكون وقف الحرب فقط، بل وأيضاً مصلحة إسرائيلية”.
معضلة اليوم التالي
لكن زميله في “هآرتس”، حاييم ليفنسون، يخالفه الرأي، انطلاقاً من أن نتنياهو سبق وطرح خيارين بخصوص الصفقة: “إمّا القبول طوعياً وبسعادة، وإمّا القبول بالمخطط بحزن وأسى”. والخياران برأي ليفنسون، “كانا ليقودان إلى النقطة نفسها، وهناك كثير من القوى الدولية التي تدخلت في الصفقة (تركيا وقطر ومصر والسعودية والإمارات والولايات المتحدة)، ولم يتدخلوا جميعاً في هذه المفاوضات كي يتجدد القتال بعد شهر، مع 30 مخطوفاً على الأقل. الجميع هنا من أجل الصفقة الكبيرة”.
ويرى الكاتب أن المعضلة تكمن في “اليوم التالي”، الذي لم تعالجه مختلف بنود الاتفاق بشكل وافٍ على الأقل، بحيث أنه قد “تتنازل “حماس” عن السلطة في قطاع غزة باسم الوحدة الوطنية، وهو ما يسمح لها بادعاء أنها منحت “حكومة وحدة” مفاتيح إدارة القطاع. ومن المتوقع أن تتركب هذه الحكومة من دمى مقبولة عند الغرب، كنوع من أنواع الاتفاق مع السلطة الفلسطينية وكثير من التأثير للمال السعودي والقطري والإماراتي. إن حل الوضع في غزة سيفتح الطريق للسلام مع السعودية”.
ومن جهته، يقول الكاتب إيتان غلبواع في “معاريف”، “هناك ثلاث مسائل أساسية ستشغل ترامب وإسرائيل في الأشهر المقبلة: “اليوم التالي” في غزة، وانضمام السعودية إلى “اتفاقات أبراهام”، وصياغة استراتيجية لوقف القنبلة النووية الإيرانية. وكل هذه المسائل مرتبطة ببعضها البعض، فتحقيق الاستقرار في غزة مطلوب من أجل منع تجدُد الحرب”.
خلاصة القول، يُجمع كتّاب الأعمدة في الصحافة الإسرائيلية، على أنه وبصرف النظر عمّا ينتظر إسرائيل في “اليوم التالي”، فإن ثمة أدوات الضغط على “حماس” لتنفيذ الصفقة، ما زالت بحوزة الجيش الإسرائيلي، أبرزها:
1-البقاء داخل هذه المنطقة العازلة يؤمّن غرب النقب وجنوب إسرائيل من أيّ هجوم يمكن أن تنفّذه التنظيمات الغزية. هذا ما يسمى “الدفاع المتقدم”، وتمنح الصفقة إسرائيل الشرعية الدولية والرسمية في استعمال هذه الأداة، وهو ما احتاجت إليه كثيراً يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر.
2-ستكون المساعدات الإنسانية أداة ضغط أُخرى في يد إسرائيل على “حماس”.
3- سيبقى لإسرائيل الحق في معاودة الحرب إذا تخلفت “حماس” عن الاتفاق، هذا مع استمرارها في تنفيذ عمليات أمنية وعسكرية من حين إلى آخر.