أي رابط بين عرقلة حكومة سلام.. وتأجيل الإنسحاب الإسرائيلي؟

يطوي الرئيس المُكلف تشكيل الحكومة القاضي نواف سلام بعد غدٍ الإثنين الأسبوع الثاني من عمر تكليفه ويطوي معه موجة عارمة من التفاؤل بثها التكليف غداة انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية اللبنانية قبله بأيام قليلة. وتنطوي غداً (الأحد) مهلة الستين يوماً التي نصّ عليها اتفاق وقف النار بين لبنان و"إسرائيل" من دون أن تنسحب الأخيرة من قرى الحافة الأمامية في جنوب لبنان.

صارت البلاد أسيرة مناكفات سياسية عادة ما تُرافق عملية تأليف الحكومات، بفعل الشروط والشروط المضادة للأطراف السياسية التي يُفترض أن تُعطي الثقة النيابية للحكومة بعد تشكيلها، بفارق جوهري هذه المرة يتصل بحضور ما يُسمى “المجتمع المدني” برموزه وجمعياته في قلب هذا الاستحقاق، فضلاً عن حضور “الدول” في لعبة التأليف، وإن لم تغب بوطأة حضورها عن مسار تأليف الحكومات السابقة. ترابطاً مع هذا الوضع أيضاً طوى لبنان مهلة الستين يوما التي نص عليها اتفاق وقف إطلاق النار مع “إسرائيل” من دون أن تسحب الأخيرة جيشها من الأراضي اللبنانية التي دخلها خلال الحرب وبعد وقف إطلاق النار، وأعلنت القيادة “الإسرائيلية” تمديد هذه المهلة من دون تحديد إلى متى هذا التمديد وذلك بعد نيلها موافقة الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة دونالد ترامب. أمام هذا الواقع يبرز السؤال عما إذا كان هناك من ترابط بين تعثر تشكيل الحكومة وتعثر تنفيذ الاتفاق القاضي بالانسحاب “الإسرائيلي” من الجنوب؟

لا بد أولاً من تحديد الجهة التي شكّلت القابلة القانونية التي أخرجت إلى العالم عملية انتخاب الرئيس عون وتكليف الرئيس سلام كما عن تلك التي كانت القابلة القانونية للتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار. الكل يعلم أن الولايات المتحدة هي التي كانت تلك القابلة القانونية في الحالتين، وهي بطبيعة الحال ليست طرفاً محايداً لا في الموضوع اللبناني الداخلي ولا في موضوع الصراع مع “إسرائيل”. ففي الحالتين تعتبر واشنطن أن حزب الله هو تنظيم إرهابي وبالتالي تتعامل معه وفق هذه الرؤية، كما تعتبر أن أمن “إسرائيل” هو جزءٌ من أمنها وأيضاً تتعامل معها وفق هذا المنظور الإستراتيجي.

وبما أن الولّادة القانونية للأمرين هي الإدارة الأمريكية، لا يمكن بالتالي فصل تعثر تشكيل الحكومة عن تعثر الانسحاب “الإسرائيلي” من الجنوب اللبناني. فالكل يعلم أنه عندما قرّر ترامب وقف إطلاق النار في قطاع غزة، أرسل مبعوثه ديفيد ويتكوف إلى رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو ليبلغه، بحسب الاعلام “الإسرائيلي”، وبطريقة فظة وبعيدة عن كل اللياقات الدبلوماسية قرار رئيسه من دون أن يعطيه فرصة للاعتراض بقوله له “الرئيس ترامب يريدك أن توافق اليوم على وقف إطلاق النار، وهذا أمر غير خاضع للنقاش”.

إذاً، وبعيدا عن الشكل الذي يتم فيه عرقلة عمل الرئيس المكلف نواف سلام في تشكيل الحكومة وعرقلة الانسحاب “الإسرائيلي” من الجنوب، فإن الاستنتاج المنطقي هو أن الأمرين يحصلان بقرار أمريكي، وهنا لا بد من قراءة التفاصيل في الحالتين لمعرفة الهدف من العرقلة.

البداية من الجنوب؛ فقد سجلت لجنة مراقبة وقف اطلاق النار التي يرأسها الجنرال الأمريكي جاسبر جيفرز أكثر من 600 خرق “إسرائيلي” لاتفاق وقف اطلاق النار، تضمنت هذه الخروقات ليس فقط عدم الانسحاب وفق الآلية المتفق عليها بل أيضاً عمليات توغل في عمق الجنوب وتنفيذ غارات بمسيرات على مواقع وسيارات مدنية إضافة إلى غارات بالطيران الحربي في البقاع وعمليات تفجير في الجنوب وحرق للمنازل ودور العبادة والمؤسسات الصحية والاجتماعية والرياضية وجرف الطرقات وحفرها لمنع استخدامها، فيما لم يسجل أي خرق من جانب المقاومة، وبذلك تحوّلت مهلة الستين يوماً التي يفترض أن تكون مهلة للانسحاب “الإسرائيلي” من الجنوب إلى فسحة زمنية مفتوحة للجانب “الإسرائيلي” لمواصلة تدمير كل ما تبقى من معالم الحياة في تلك المنطقة، وبالتالي فإن تمديد مهلة وقف اطلاق النار إلى أجل غير مسمى هو لاستكمال هذا النهج التدميري بغطاء من لجنة مراقبة وقف اطلاق النار ورئيسها الجنرال جيفرز.

وفي موضوع تشكيل الحكومة، وبعد أن تمكن الرئيس سلام، بحكمته وحنكته وفهمه العميق لطبيعة النظام اللبناني وتركيبته الطائفية المعقدة، من تفكيك ما تُسمى “العقدة الشيعية” وتحويل خيار عدم تسميته من “الثنائي” في مشاورات التكليف ومن ثم مقاطعة مشاورات التأليف، إلى مناسبة لخوض حوار مع حركة أمل وحزب الله، وصولاً إلى صياغة تفاهم حول حجم تمثيلهما حكومياً، سُرعان ما انهالت عليه الضغوط للتراجع عن هذا التفاهم، من خلال ضغوط تنكّرت بزي محلي عبر شرط من هذا الطرف وشرط من ذاك، ولكنها تُدار فقط من “المايسترو” الأمريكي.

وبما أنه بات واضحاً أن تعثر ملفي الانسحاب “الإسرائيلي” وتشكيل الحكومة هو بيد الإدارة الأمريكية، من المهم معرفة الهدف من هذا التعثر وإلى ما يرمي؟

الضربة العسكرية القاسية التي تعرّضت لها المقاومة في لبنان خلال حرب الـ 66 يوماً جعلت الإدارة الأمريكية ترى أن هناك فرصة للقضاء التام ليس فقط على هيكلية المقاومة في لبنان، بل أيضاً على فكرة المقاومة وجدواها، وبالتالي فإن مواصلة الضغط السياسي عليها داخلياً ترابطاً مع الضغط العسكري “الإسرائيلي” عبر تأجيل الانسحاب من الجنوب من شأنهما أن يُحقّقا هذا الهدف. وبالتأكيد يترافق ذلك مع حصار مالي للحيلولة دون تمكن المقاومة من جلب مساعدات مالية وتحديداً إيرانية لإعادة إعمار ما تهدم من منازل ومؤسسات بيئتها الحاضنة في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية وعدد من المناطق اللبنانية. وللأسف ثمة قوى سياسية محلية تجاري الموقف الأمريكي وتتماهى معه وتذهب بعيداً في محاولة تنفيذه عبر ما لديها من تمثيل نيابي مُكرّرة في ذلك تجارب سابقة أدت إلى كوارث سياسية في البلاد وجرّتها إلى حرب أهلية، وقد بدأت هذه القوى تطرح شعار تشكيل حكومة أمر واقع بلا أي تفاهم مع “الثنائي”.

إقرأ على موقع 180  اليوسفي ضامن المغرب.. ما بعد الحسن الثاني

إن هكذا مشروع يحمل في داخله بذور فشله، وينم عن جهل مطبق بالتركيبة اللبنانية المعقدة أو تجاهل لهذه التركيبة والاستعانة بالضغط العسكري “الإسرائيلي” للقفز فوقها نحو مجهول معلوم لن يخدم انطلاقة العهد الجديد برئاسة العماد جوزاف عون ولا العدالة التي يطمح إليها الرئيس نواف سلام ولا مشروع الرئيسين في إعادة بناء الدولة. ولمزيد من الإضاءة على هذا الموضوع يكفي أن نشير إلى أن لبنان يمكن أن يكون البلد الوحيد في العالم الذي توالى على حكمه خلال 27 عاماً أربعة جنرالات على التوالي ورابعهم انطلق عهده قبل أسبوعين ونيف (إميل لحود، ميشال سليمان وميشال عون، هذا من دون أن نذكر اللواء فؤاد شهاب الذي تولى الحكم بين العامين 1958 و1964) لكن لم يتمكن أحد من هؤلاء الجنرالات من إقامة ديكتاتورية عسكرية بالرغم من تلازم وصول البعض من هؤلاء الجنرالات إلى الحكم مع شعار “الجيش هو الحل”.

لذلك فإن تأجيل الانسحاب “الإسرائيلي” في الجنوب لا يعني أن المقاومة ستباشر في الدقيقة التي تلي انتهاء مهلة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار إلى إطلاق نيرانها على الجيش “الإسرائيلي”، بل هي سترمي الحجة على الدولة اللبنانية برئاسة عون وسلام وكل القوى التي تسمي نفسها سيادية بأن الراعي الأمريكي لا يُعوّل عليه وأن المقاومة هي عمل مشروع بموجب كل المواثيق الدولية، وبالتالي فإن المقاومة ستأخذ وقتها في الاعداد لخطة مواجهة مع الاحتلال، إن لم تكن قد أعدتها مسبقاً خلال الستين يوماً المنصرمين.

أما في موضوع تشكيل حكومة أمر واقع، فمن المستبعد أن يلجأ إليها الرئيسان عون وسلام كونها تُخرّب انطلاقة العهد الجديد، غير أن ذلك إن حصل فإنه لا يعني أن عزل حزب الله وحركة أمل سيؤدي إلى إطلاق نفير حرب أهلية بل فاتحة مرحلة داخلية من عدم الاستقرار لن يكون الشارع بمنأى عنها، تبعاً للتجارب السابقة، بما يُمكن أن يحمله من تداعيات من شأنها أن تطوي المشروع الإصلاحي الذي يحمله ويُجسّده الرئيسان عون وسلام قبل أن يُبصر النور.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  نتنياهو يتمسك بورقة غزو رفح.. هل ترفع واشنطن "البطاقة الحمراء"؟