لبنان بين “المُواطفة”.. والمُواطنة

قبلَ قرْنٍ ونيِّفٍ كان لبنان. إنشاؤُهُ تمَّ بتسويةٍ فرنسيةٍ-بريطانية ضمن سايكس – بيكو. وُلِدَ الكيانُ أشْوهَ. وَنَمَا مشوَّهاً.. وعندما أعلنهُ الجنرال الفرنسي غورو من بيروت أثارَ الانقسامَ فوراً.

اِنطلقتْ تظاهراتٌ مؤيدةٌ غالبيّتُها مسيحية، قابلَتْها تظاهراتٌ معارضة غالبيّتُها مسلمة في بيروت ودمشق. وهذا ما كان يريدُه الاستعمار الفرنسي. لم يكُنِ السكانُ قد صارُوا لبنانيين. ولم يبْقَ أبناءُ سوريا سوريين، بل صارُوا أربعَ دُويلاتٍ في دمشق، وحلب، وجبلِ العربِ حيث الدروز، وفي الساحلِ الشَمالي وأريافِه حيث العلويّون. تلك كانت خُطَّةَ الاِستعمارِ الأوروبي لاقتسام ِترِكةِ السلطنة العثمانية “الرجل المريض”. لقد أرادُوا إنشاءَ كياناتٍ مريضةٍ بدلاً من مريضٍ واحدٍ، فحتى الوحدة ولو في كيانٍ مريضٍ لا يُريدونها. هذا في العلنِ بالرغم من مأسَوِيّتهِ. أمَّا في الخفاءِ فكان يجري ما هو أدهى: تطبيقُ برنامج ِكامبل بنرمان الشهير وتحضيرُ الأرضيّةِ لإنشاءِ الكيانِ اليهوديِّ في فلسطين. العربُ آنذاكَ مِثلُ العربِ اليومَ غرِقـُوا في لعبةِ السلطةِ والإمارةِ والملَكيّةِ والقبيلةِ. وتجاهلـُوا بنرمان ووعدَ بلفور فكبَّدوا شعوبَهم أثماناً باهظةً سيدفعونَ أكثرَ منها راهِناً مع الاستعمار الأميركي- الصهيوني الحديث. إسرائيلُ الكبرى تلوحُ أمامَهم، وهم يتجاهلون مشروع برنارد لويس/ بنرمان الثاني من أجل أن يحتفِظـُوا بكياناتٍ أشدَّ هُزالاً وضَآلةً من كياناتِ سايكس – بيكو التي لم ترْتقِ يوماً إلى أنْ تعرفَ مفهومَ الوطنِ ومفهومَ الدولة.

لبنانُ أحدُ هذه الكياناتِ الشَوْهاءِ. عمرهُ مئةٌ وخمسةُ أعوامٍ لا ستةُ آلافِ سنةٍ، كما يقولُ قسْراً المُتَفَيْنِقُونَ، ولا خمسةُ قرونٍ كما يزعمُ مخترعو أسطورةِ الأمير فخر الدين الذي لم يَرِدْ في ذهنه تأسيسُ لبنان الذي نعرفه اليوم، بل كان همُّه توسيعَ إمارته ومقارعةَ العثمانيين. لبنانُ هذا ظلَّ كياناً ولم تنشأ فيه دولةٌ بل سلطاتُ طوائفَ، ولم تتبلورْ فيه فكرةُ الوطنِ بالرَّغم ِمن أنَّ تسويةَ الطائف (1989) وصفتْهُ بأنه “وطنٌ نهائيٌ”.

إذاً كلُّ الإسقاطاتِ لتكوينِ سردية “تاريخانِيّةٍ ما” للبنانَ كانت من ضمنِ عمليّةِ تسويغ ِالتقسيم ِفي المشرقِ والمغرب العربييْنِ، مثلَ باقي الكياناتِ التي جرى اختراعُ تاريخ ٍخاصٍ بها بعيداً عن وَحدةِ الجغرافيا. المسألة نفسُها تتكرَّرُ حاليَّا ً، فزعماءُ سُكانِ لبنانَ- الكيان لم يشاءُوا أنْ يتعلّمُوا من التاريخ ومن الدماء. وها هُمْ في غالبيتهم الآنَ يستمرِئُونَ الارتهانَ ولم يفكِّروا مرَّةً واحدةً في كيفية الانتقال من حالة “السكان” إلى حالة “اللبنانيين”، ومن حالة “الكيان” إلى حالة “الوطن”، ومن حالة “السلطة” إلى حالة “الدولة”، ومن حالة “المُواطـَفة” إلى حالةِ “المواطنة”.

لا نفهمُ كيفَ تسكتُ الحكومةُ في هذا الظرفِ العصيبِ عنِ الدعوات إلى الفدْرلة، وعن مؤتمراتٍ تُعْقَدُ في الخارجِ للبحثِ في إقامةِ الفدراليةِ في لبنان بينما مشروعُ التقسيمِ زاحفٌ على المنطقة؟ ألا تخالفُ هذه الدعوات دستور لبنان الذي يؤكدُ وحدة الدولة؟ ألا تناقض مواقف مدَّعي حماة الدستور؟

بإزاء ذلك وقعَ الالتباسانِ الكارِثيَّانِ الكبيرانِ في لبنان. الأوَّل التباس مفهوم الوحدة والثاني التباس مفهوم الوطنية. وإذا رصدْنا العهودَ والحكوماتِ إبّانَ الاستعمار الفرنسي، وما بعده في مرحلة ما يُسمَّى الاستقلال، فإننا نكادُ لا نجدُ فارقاً بين المرحلتين سوى في الشكل الدستوري الذي جرى توظيفه لمخادعة السكان، من خلال الرحِمِ اللعينةِ للمادة 95 التي أسَّستِ الخطوةَ الأولى دستورياً لتعطيلِ قيام ِدولةِ المواطنةِ في لبنان وما زالت تفعلُ فعلَها إلى اليوم منذ حكومةِ رياض الصلح حتى حكومةِ نوَّاف سلام قبل أشهر، وخلالَ كلِّ عهودِ رؤساء الجمهورية. كلُّهم تحدَّثوا عن ضرورة الوحدةِ الوطنيةِ بِجُملٍ إنشائيةٍ فارغةٍ من أيِّ خطةٍ سياسيّةٍ للبلـْورةِ والتطبيقِ، لأنهم لا يريدون أن يحسِموا مسألةَ الهوية الوطنية والقومية. وهو ما فشِلَ فيه اتفاقُ الطائفِ أيضاً فظلَّ نصاً عائماً من دون أن يدخُل في الأعماق. وما البيان الوزاري للحكومة الراهنة سوى تكرار لهذه الخطابية الوَاهِنة، بينما لا بدَّ من أن تُلاحظَ الحكومة أنَّ عملها لن يستقيمَ ما لم تتحرَّكْ في إطارِ خطةٍ سياسيةٍ دستوريةٍ لبناءِ وحدةٍ وطنيةٍ على أساس عقدٍ اجتماعي حديثٍ لا عقدٍ طائفي يُؤَبِّدُ الاستبطان الطائفي تحت الشعار الزائفِ بأنَّ لبنان هو الطوائف فحسبُ.

أمامَنا واقعٌ مريرٌ. الاحتلالُ الإسرائيلي موجودٌ على جزءٍ من أرضِ لبنان، ويُهدِّدُ أجزاءً أخرى، ويُلوِّحُ بالتقسيمُ، ويستنِدُ في كثيرٍ من هذه المشاريع على أنَّ فئاتٍ لبنانيةً لا ترى في إسرائيل عدوَّاً، ولا تنظرُ إلى أرضِ الجنوبِ المحتلةِ بأنها تعني كلَّ اللبنانيين، وتُحمِّلُ كلَّ مقاوِمٍ مسؤوليةَ ما تصفه بأنَّه استقدامُ العدوِّ لارتكابِ الجرائم، وتتجاهلُ أنَّ الاحتلالَ بدأ بالاعتداءِ على لبنان قبل أن تكونَ فيه مقاومةٌ وطنيةٌ أو إسلامية.. كيف تُواجِهُ الحكومةُ الاحتلالَ بمعركةٍ دبلوماسيةٍ – كما تقولُ – من دون تأسيس ِمفهوم ٍحقيقي للوحدةِ الوطنيةِ يبدأ بالدستور وينتهي بخُطواتٍ نحو تغيير الذهنية. وفوقَ هذا لا نفهمُ كيفَ تسكتُ الحكومةُ في هذا الظرفِ العصيبِ عنِ الدعوات إلى الفدْرلة، وعن مؤتمراتٍ تُعْقَدُ في الخارجِ للبحثِ في إقامةِ الفدراليةِ في لبنان بينما مشروعُ التقسيمِ زاحفٌ على المنطقة؟ ألا تخالفُ هذه الدعوات دستور لبنان الذي يؤكدُ وحدة الدولة؟ ألا تناقض مواقف مدَّعي حماة الدستور؟

إقرأ على موقع 180  لا هي ضربة استباقية ولا هو الرد

حقيقة الأمر أنَّ هذين الالتباسين: “الوحدةَ” و”الوطنية َ” يُلقيانِ على الحكومة والعهد مسؤوليةً دقيقة لا تكفي معها التصريحات عن وحدة “الشعب” كونها تستبطِنُ ما يُسمّى وحدة الطوائف، وهذه الأخيرة ليست محقَّقة أيضاً. إنها كارثةٌ بالفعل، لكنْ نحِبُّ أن يبقى لدينا أملٌ إذْ لم يَفُتِ الأوانُ بعدُ أمام الحكومةِ والعهدِ كي يطرحا مشروعاً يُوحِّدُ أبناءَ هذا الكيانِ كي يصيرَ وطناً، قبل أن يزحفَ التقسيمُ الآتي من كل الجهات، وقبل أن تضيعَ على أجيالنا مئةُ عامٍ جديدة مثلما حصل عام 1920 في غياهب المُواطـَفة بدلً من المُواطنة.

Print Friendly, PDF & Email
بسّام ضو

عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكُتّاب اللبنانيين

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  تقارب دمشق وأنقرة.. فرصة الدولة السورية الواحدة بمشاركة الجميع