جدلية النصر والهزيمة.. صراعٌ سياسيٌ أم غرائزيٌ

ليس ثمة نصر مطلق أو هزيمة مطلقة. ما حدث في غزة ولبنان يكفي لأن يصنع تاريخًا مُشرًفًا لصمود قلّة قليلة في مواجهة التغول والتوحش الإسرائيلي.

في لعبة شد الحبال ثمة مبارزة بسيطة في ظاهرها، عميقة في مغزاها. هناك حيّلٌ يتعلمها المشاركون من قبل المُدرّب الذي يقول لهم: “عليكم أولًا أن تعلموا أنه ليس لمغزى اللعبة أن تشدوا بالأيادي، إنما التمكن من الثبات في أماكنكم من خلال غرس أرجلكم في الأرض كمرساة السفينة بسلاسلها ومخالبها الفولاذية، فإن كنتم تنوون الربح عن طريق الشد فقط سرعان ما ستتعبون. وبينما أنتم تُمسكون بالحبل عليكم التنبه من عدم التركيز على الشد بالأكف أو لف الحبل حولها، فهذا لا محال سيؤذيكم ويعرضكم لكسر في عظام اليد أو لتسلّخ الجلد، وعليكم إبقاء الأذرع والأجسام مستقيمة قدرالإمكان والأمر ذاته في سباق القوارب الذي يجذب الجميع فيه بتناسق وثبات بما يسمح لكم بالفوز، وعلى الفريق إذا شعر بفقدان السيطرة، أن يتراجع إلى الخلف، والصدور موجهة نحو الناحية الأخرى من الحبل (الهدف) والشرط الدائم، الثبات وعدم اليأس السريع”.

فرق كبير بين حبال الحرب وحبال اللعب، لكن كما يبدو لنا أن الحيل متشابهة إلى حد كبير وخصوصًا فيما يتعلق بالمغزى الرئيس للفوز وهو غرس الأرجل في الأرض والثبات وعدم اليأس طالما أن الفريقَ متشبثٌ في الأرض ولا يميل.

ولتوضيح ذلك، تلقت المقاومة اللبنانية ضربات موجعة في أثناء الحرب على لبنان، بدءًا بتفجير “البيجرات” وأجهزة اللاسلكي وبعدها سلسلة الاغتيالات وكان أقساها اغتيال السيد حسن نصرالله ثم السيد هاشم صفي الدين وترافق ذلك مع شنّ غارات على القرى الجنوبية والبقاعية وبيروت وضواحيها، وموجة نزوح غير مسبوقة، ناهيك بتدمير عشرات القرى والبلدات والمدن الجنوبية. وحتى تاريخه، وبرغم إعلان وقف اطلاق النار، ما زال الاحتلال يُمارس أبشع أنواع الاستفزاز جنوبًا من خلال عمليات التدمير وسرقة البيوت وحرقها وجرف معالمها، حتى وصل به الأمر إلى سرقة أشجار الزيتون المعمّرة ونقلها إلى الأراضي الفلسطينية المحتلّة، فضلاً عن المماطلة بالانسحاب من القرى والتلال الأمامية في جنوب لبنان.

وتأسيسًا على ذلك، يعتبر كثيرون أن ما أصاب المقاومة في لبنان يقع في خانة “الهزيمة”؛ وتستند وجهة نظر هؤلاء على وقائع بينها تصفية عدد كبير من قادة وكوادر المقاومة فضلاً عن الإجهاز على الكثير من قدرات المقاومة ولا سيما الصاروخية منها، ناهيك بالأذى الكبير الذي لحق بالبيئة الحاضنة في حرب دمّرت البيوت والأرزاق وأودت بخيرة الشباب، من دون اغفال تداعيات أزمة النزوح الكبيرة إبّان الحرب ومؤشر عدّاد الهجرة المتصاعد، ما أودى بالعجلة الاقتصادية نحو المزيد من التدهور.

في المقابل، خرجت أصواتٌ أخرى تُصدّح بالنصر، معتبرة أن وقف النار ما كان ممكناً لولا المواجهات البرية غير المسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا ولولا استمرار زخم الصواريخ المنهمرة على مستوطنات ونقاط لم يكن ليجرأ أحد من قبل ذلك التاريخ على بلوغها ولا سيما عندما بلغت إحدى المسيرات نافذة غرفة نوم رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

كانت اندفاعة أهل الجنوب للعودة إلى قراهم لافتة للانتباه، جرأة وإقداماً وروحاً استشهادية تحدت ثقافة الموت والتدمير والهدم؛ ما أدى إلى كسر مخطط الترحيل والإبعاد، بالمقابل، وبينما كان أبناء القرى الأمامية يرتضون بالخيم، عرضت الحكومة الإسرائيلية 17 ألف شيكل، أي ما يوازي إثني عشر ألف دولار لكل من يعود إلى تلك المستوطنات في الشمال

الأصوات نفسها ترى أن لا حروب من دون تضحيات؛ إذ يكفي أن تواجه قلة قليلة من المقاومين فرقًا من جيش مجهّز بأحدث التقنيات والترسانات التي يملكها حلف “النانو” وتمنعها من تحقيق أهدافها المعلنة، ولعل مواجهات بلدة الخيام عينّة من تلك الانجازات حين واجه مئات المقاومين أعتى قوة من فرق النخبة في الجيش الإسرائيلي بعدتها وعديدها ومنعوها من غرس أقدامها في أرض الخيام.

كذلك استطاعت المقاومة صناعة معادلات جديدة إذ كان التدمير يُقابل بالتدمير، والتهجير بالتهجير، بل أكثر من ذلك؛ استطاعت المقاومة أن تُفقد العدو عنصر الأمان وتجعل المستوطنين بلا مظلة أمنية لطالما كانت تحميهم على مدار عقود من الزمن، وقد كشفت صحيفة “يسرائيل هيوم” العبرية عن مبادرة شبابية أسمتها “متّجهون إلى الشمال”، أجرت استبيانًا لفحص استعداد الشباب الذين غادروا شمال البلاد خلال الحرب مع لبنان للعودة إلى منازلهم، فكانت البيانات صادمة، بحسب النتائج التي أظهرت أن ما يقارب 85% من المستوطنين غير مستعدين للعودة إلى منازلهم، سواء بسبب تأقلمهم مع ظروف الحياة في وسط البلاد أو ايجاد عمل جديد ومنازل جديدة أو الإلتحاق بمدارس أو جامعات جديدة، وثمة شريحة تعتقد أن لا شيء جيداً يُمكن أن يحصل ويتطور في الشمال.

وعلى العكس من ذلك، كانت اندفاعة أهل الجنوب للعودة إلى قراهم لافتة للانتباه، جرأة وإقداماً وروحاً استشهادية تحدت ثقافة الموت والتدمير والهدم؛ ما أدى إلى كسر مخطط الترحيل والإبعاد، بالمقابل، وبينما كان أبناء القرى الأمامية يرتضون بالخيم، عرضت الحكومة الإسرائيلية 17 ألف شيكل، أي ما يوازي إثني عشر ألف دولار لكل من يعود إلى تلك المستوطنات في الشمال.

إقرأ على موقع 180  مصر وتركيا وخطر الصدام المباشر

وفي هذا الإطار، يُمكن القول إن مفهوم النصر هو مفهوم جدليٌّ بامتياز كأي منظور آخر يختلف حوله العلماء والمثقفون كما عامة الناس؛ فما بين مفهوم النصر أو الهزيمة خيط رفيع. وقد وجد فلاسفة من أنصار نظرية التقدم وأبرزهم هيغل، أن الواقع الإنساني الأساسي هو أمر جدلي للنفي والصراع من أجل تجاوز الواقع نحو واقع آخر، ومنهم من رأى أن جوهر الصراع هو صراعٌ وجوديٌ وإلغاءٌ للآخر؛ أما منظور ديكارت فيجد أنَ الذات في جوهرها ومضمونها هي رغبة في حالة تصادم دائم مع رغبة الآخر.

أما رائد المدرسة النفسية التحليلية سيغموند فرويد فقد عيّب على هذه التفسيرات العقلية والاجتماعية وكذلك على من أقحم الصراع المجتمعي بظهور الملكية والاستغلال الاقتصادي والتفاوت الطبقي (الماركسية)، فقد فسّر السلوك العدواني الإنساني من منظور غرائزي ذي منشأ داخلي؛ إذ يرى أن الإنسان ميّال للتفوق على أخيه الإنسان لإشباع حاجته النفسية من العدوان، كما الحال في اندفاعه لإشباع حاجاته البيولوجية الأخرى، ما يعني، أن الإنسان يختزن بالأصل العدوانية والكراهية في تكوينه النفسي والغرائزي. وهذا الميل الغرائزي في حالة ضغط مستمر دون حاجة إلى ذرائع لتفريغ عدوانيته، وقد يتغلب على الضوابط الدفاعية التي تكبحه، ويبزغ العدوان تلقائيًا عن طريق الإزاحة نحو هدف معين أو هدف بديل بسبب الموانع التي تعيق توجيه العدوان نحو المصدر الحقيقي (فالأولاد الذين يتعرضون لضرب الوالدين قد يطلقون عدوانيتهم تجاه أقرانهم في عملية إزاحة عن الهدف الأصلي بشكل لاواع).

خلاصة القول، إنه مهما اختلف المنظرون والجدليون، فقد أثبتت الحقائق التاريخية والحالية أن في باطن الذات الإنسانية جانب مظلم فيه الخير كما الشرّ، وتطغى عليه السوداوية أحيانًا، ما يوقعه في الأحكام والتصنيف تجاه الآخر، ومهما حاول أن يساير الحقائق ويقبلها أو يخفيها، يظل محكومًا لهذا الإلحاح ما يوقعه في ثنائية المشاعر وإنكار إنجازات الآخرين.

Print Friendly, PDF & Email
سلوى الحاج

أخصائية نفسية، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180   بيروت.. لن تموت