ومع أن المقال تطرق إلى “اختفاء” هذا الفن على مستوى الوطن العربي كله بعد النجاحات التي حققها الرحابنة في لبنان ودريد لحّام ومحمد الماغوط في سوريا، إلا أن تركيزه الأكبر كان على مصر فتكلم عن اختفاء ظرفاء كثيرين جدًا من أول إبراهيم المازني ومأمون الشناوي وحتى الولد الشقي محمود السعدني مرورًا بنجيب الريحاني وماري منيب ومعظم أبطال مسرحية مدرسة المشاغبين. وفي تفسير ظاهرة “اختفاء السخرية” طرح عطا الله سؤالًا تضمّن إجابته في داخله وهو “هل يكون السبب – هذا المزاج القاتم الذي خيّم على العالم العربي وانتزع منه عادة الابتسامة ورغبة الفرح؟”، وأضاف أن الحرب نشرت الأحزان، وأن السياسيين نشروا “الفشل والكمد والقلق، وغابت أغاني الحب وألحان الفرح ومتعة الحياة”.
***
الكلام المقتبَس من عطا الله ينطوي على الشيء وعكسه لأنه يفترض أن السياسة هي السبب في الأحزان، ثم يستشهد في الوقت نفسه بخفة ظل دريد لحّام وهو الذي كان يستمد مادته للسخرية من السياسة والسياسيين!. لكن بعيدًا عن هذه الملاحظة المبدئية، هل كان عطا الله محقًا حين تكلم عن اختفاء الساخرين؟
الشعب المصري ابتدع على مدار ١٨ يومًا ألوانًا من الشعارات كانت قمة في خفة الظل، فهناك من طالب حسني مبارك بالرحيل لأنه “يريد أن يستحمى”، أو “يريد أن يرى زوجته”، أو “لأن إيده وجعته من رفع لافتة ارحل”، وغير ذلك كثير جدًا
رحت أفكر ملّيًا في هذا السؤال لأنه يستحق الاهتمام، فبدون سخرية تكون الحياة مستحيلة، وها نحن نرى الأطباء يومًا بعد يوم يربطون مقاومة أشد الأمراض خبثًا بالحالة النفسية للمريض، وبذلك تكون ليلى مراد حين غنّت “اضحك كركر إوعي تفكّر إوعى تفكّر” في عام ١٩٣٨ قد تمتعت بوعي مبكر جدًا حول أهمية هذه العلاقة. في الواقع إن ما عبّر عنه عطا الله ينصرف بالأساس إلى اختفاء ما يمكن وصفه بالسخرية النخبوية، بمعنى غياب الظرفاء في عدد من مجالات الفن، وهذا أمر صحيح، وأزيد عليه بأنه لم يحدث فقط غياب الظرفاء عن الفن بل إن هناك ألوانًا من الفن الظريف اختفت، فلم يعد لدينا أمثال شكوكو وثريا حلمي وأحمد الحدّاد وسيد الملّاح واسماعيل يس ممن ارتبطت أسماؤهم بفن المونولوج الذي اندثر تمامًا من الحركة الفنية، مع أنه كان ملمحًا مهمًا جدًا في حياة المصريين حتى منتصف الثمانينيات الماضية. ومَن عاش خلال هذه الفترة يتذكر جيدًا كيف كانت الطبقة المتوسطة تحيي أفراحها بتشكيلة من الفنانين قوامها راقصة ومونولوجست، فإذا كانت الأسرة ذات طبيعة محافظة فإنها عادة ما كانت تتخلى عن الراقصة وتتعاقد إلى جانب المونولوجست مع مطربة هى على الأرجح عايدة الشاعر أو ليلي نظمي، وكان المونولوجست يقوم بإلقاء عشرات النكات بسرعة الصاروخ فنضحك عليها أحيانًا وأحيانًا أخرى نفتعل الضحك، خاصةً أنها بحكم الضرورة لم تكن تخلو من التكرار. هذا إذن صحيح، غاب الظرفاء عن الفن وغاب بعض الفن الظريف عنّا، لكن في مقابل اختفاء هذه السخرية النخبوية المرتبطة بمشاهير الفن أتيح لموجات السخرية الشعبية أو سخرية الحرافيش أن تذيع وتنتشر على نطاق واسع، وساعدها على ذلك التطور الكبير جدًا في وسائل التواصل الاجتماعي، وبشيء من التجاوز يمكن الحديث عن ديمقراطية السخرية.
***
أطلقت الصحافة العالمية على ثورة ٢٥ يناير اسم “الثورة الضاحكة” (وانتقل نفس الوصف لأشكال من الاحتجاج والحراك في دول عربية أخرى) وذلك أن الشعب المصري ابتدع على مدار ١٨ يومًا ألوانًا من الشعارات كانت قمة في خفة الظل، فهناك من طالب حسني مبارك بالرحيل لأنه “يريد أن يستحمى”، أو “يريد أن يرى زوجته”، أو “لأن إيده وجعته من رفع لافتة ارحل”، وغير ذلك كثير جدًا. جزء من هذه السخرية هو آلية دفاعية طبيعية راح ينفّس بها المتظاهرون والمعتصمون عن شحنة القلق وربما الخوف من المصير المجهول الذي كان ينتظرهم، وكلما اشتدت حالة الضبابية وعدم اليقين زادت قفشات المصريين سخرية ومرارة أيضًا. ولقد أبدع من قبل الشاعر الكبير سيد حجاب في التعبير عن انبعاث السخرية من رحم الأحزان في تتر المقدمة لمسلسل ليالي الحلمية حين قال “أقسى همومنا يفجّر السخرية”، هذا إلى أن ثنائية الضحك/ البكاء كانت لقبًا لأبرز ظرفاء العصر الحديث أمثال نجيب الريحاني وفكري أباظة وصلاح چاهين وجلال عامر الذين حملوا لقب: الضاحك الباكي، وقبلهم جميعًا كان جحا وتم تجسيد هذه الثنائية المميزة لشخصيته في عمل درامي لبناني عام ١٩٩٠ بنفس العنوان “الضاحك الباكي”.
لن يختفي الساخرون لا فى مصر ولا العالم، لن يختفوا ما بقيت نعمة النسيان كمثل قطعة الإسفنج تمتص الأحزان الكبيرة، أما الأحزان الصغيرة فأمرها سهل، وفي كل الأحوال لابد للحياة أن تستمر
لكن بالإضافة إلى ارتباط السخرية المصرية بهذا الظَرف الثوري الخاص، فإن للسخرية جذورها العميقة في حياة المصريين، وهي جذور يستحيل اقتلاعها، فالمصريون يسخرون من كل شيء بالمعني الحرفي للكلمة، حتى هزيمة ٦٧ بإهانتها وفداحتها وصدمتها الهائلة لم يتورع المصريون عن السخرية منها، فلم يتوقف سيل نكاتهم وقفشاتهم إلا بعد خطاب ينضح بالمرارة ألقاه الرئيس جمال عبد الناصر في يوليو ٦٧ ذكّرهم فيه بأن من يسخرون منهم هم أولادهم وإخوتهم. في مصر لا يحتكر الحكامُ المهرجين لحسابهم كما كان يحدث في الروايات وبعض الواقع، فالتهريج موجود في المقاهي والشوارع والحياة العامة ومتدفق بقوة عبر الفيسبوك وتويتر وواتساب، تهريج يبدأ على نتائج مباريات الأهلي والزمالك وينتهي بالتندر على كوفيد ١٩ واللقاحات المختلفة للوقاية منه، وقبل أيام انتشرت بسرعة البرق عبر وسائل التواصل الاجتماعى نكتة تقول “مشكلة لو أخدت لقاح سنوفاك الصيني وقعدت مع واحد واخد فايزر يحسسك إنه خرّيج هارفارد وأنت مكملتش تعليمك!”، فهل هذا شعب اختفى منه الساخرون؟ إن مَن تندّر على اللقاح الصيني كمثل نجيب الريحاني الذي شعر بدنو أجله فرثى نفسه قائلًا “مات الريحاني في ستين ألف سلامة”، كل الفارق أن الريحاني نجم ساطع كبير في عالم الفن أما أخونا إياه فإنه من آحاد الناس.
***
لم يختفِ الساخرون إذن لكن اختلف التوزيع الطبقي للسخرية، وبدأت الأضواء تسلّط على شخصيات لم يسمع بها أحد من قبل تطلق النكات عبر الفضاء الإلكتروني أو تصوّر ڤيديو ساخرًا قصيرًا لبضع دقائق فيحصد مئات الآلاف من المشاهدات على اليوتيوب ولايكات وقلوبًا بلا عدد. لن يختفي الساخرون لا فى مصر ولا العالم، لن يختفوا ما بقيت نعمة النسيان كمثل قطعة الإسفنج تمتص الأحزان الكبيرة، أما الأحزان الصغيرة فأمرها سهل، وفي كل الأحوال لابد للحياة أن تستمر.