

وبدلًا من تقديم نموذج ديموقراطي يعكس إرادة الشعب، غابت الكثير من الإشارات إلى مفهوم الديموقراطية، ما يثير تساؤلات جدية حول مدى التغيير الفعلي الذي يقدمه الإعلان الدستوري المزمع. المفترض أن يكون الدستور وثيقة تؤسس لنظام حكم قائم على قواعد تراعي الظروف السياسية والاجتماعية في الدولة، لكن ما حدث في الواقع هو إعادة إنتاج نفس الهيكلية السابقة مع بعض التعديلات الشكلية التي لا تُغير أوضاعاً ثار السوريون من أجل تغييرها، وهذا ما يثير مخاوف بشأن مستقبل البلاد وإمكانية استمرار النهج السلطوي الديكتاتوري الذي دشّنه حزب البعث قبل ستين سنة ونيف.
تشير آلية تشكيل مجلس الشعب إلى أنه لم يُترك للانتخابات الحرة دور كبير، بل أصبح للرئيس دور أساسي فيه. إذ يمتلك صلاحية تعيين ثلث الأعضاء، ما يعني أن المجلس، الذي يُفترض أن يُمثل الشعب، سيكون مُفرغاً من التمثيل الشعبي الحقيقي. وبدلًا من أن يكون البرلمان مؤسسة تعكس التعددية السياسية وتمثل مختلف الأطياف المجتمعية، فإنه يتحول إلى كيان شكلي بلا شرعية حقيقية، أشبه بـ”مجلس بلا شعب”. فهل سيكون الولاء للرئيس شرطًا لاختيار الأعضاء، أم أن اختيارهم سيكون وفقًا لإرادة الناخبين؟ وإذا كان المعيار الأول هو المتبع، فهذا لا يضعف فقط مبدأ التعددية السياسية، بل يقضي عليه تمامًا، إذ إنه يحرم أي قوى سياسية معارضة أو مستقلة من الوصول إلى مواقع صنع القرار.
أما فيما يخص السلطة التنفيذية، ومع اهمال موقع رئاسة مجلس الوزراء كليًا، فقد منح الدستور الجديد رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة، مما جعله الجهة التي تتحكم بكل القرارات المصيرية في الدولة، من دون أي نوع من الرقابة الفعلية على سلطته. فهو يُعيّن الوزراء ويقيلهم، وهو قائد الجيش، ويحق له إعلان حالة الطوارئ وتطبيقها دون أي إجراء يحد من صلاحياته. مما يجعله الحاكم المطلق لكل مفاصل الدولة. هذه الصلاحيات المُعزّزة تدعم الحكم الفردي وتكرّس نظامًا سلطويًا يمنع أي توزيع حقيقي للسلطة، إذ إن جميع مؤسسات الدولة تعمل وفق توجيهاته، دون أن يكون هناك أي توازن حقيقي بين السلطات.
وفيما يتعلق بالسلطة القضائية، فإن الرئيس لم يكتفِ بالتحكم بالسلطتين التشريعية والتنفيذية فقط، بل امتدت صلاحياته إلى القضاء أيضًا، مما يضرب مبدأ استقلالية القضاء في الصميم. فبدلًا من أن يكون القضاء سلطة مستقلة تفصل في النزاعات وتضمن العدالة، أصبح خاضعًا للرئيس. فقد نص الدستور الجديد على حل المحكمة الدستورية السابقة وتعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا من قبل الرئيس. وهذا يجعل القضاء أداة بيد الحاكم، وليس جهة محايدة يمكنها محاسبة المسؤولين أو الفصل في القضايا الكبرى بشكل مستقل، إذ فقد القضاء دوره كجهة محايدة وأصبح جزءًا من منظومة الحكم الفردي المطلق.
بشكل عام، يبدو أن الدستور الجديد قد تم تصميمه لتكريس حكم الشخص الواحد فقط، فالصلاحيات الواسعة التي مُنحت للرئيس في مختلف المجالات تجعل الحديث عن أي تغيير ديمقراطي مجرد وهم، إذ أن مفاصل الدولة ستبقى تحت سيطرة السلطة التنفيذية دون أي إمكانية فعلية للمحاسبة أو الرقابة. وبدلًا من أن يكون الدستور خطوة نحو بناء دولة قائمة على المؤسسات والفصل بين السلطات، جاء ليُعزّز الحكم الفردي المطلق، ما يجعل البلاد أمام واقع سياسي مغلق لا يختلف في جوهره عن مرحلة لطالما عبّر السوريون بأغلبيتهم عن رغبتهم في تغييرها.