ما نراه اليوم، إستناداً لمجريات الحرب الإسرائيلية على غزة وتداعياتها على المنطقة، يتحدى كل ما اختبرناه سابقاً: الأغلبية الساحقة من سكان القطاع هم فلسطينيون من المسلمين السُنّة، وحركة “حماس”، التي تسيطر على مشهدية المقاومة والصراع- وتدير شؤون غزة منذ العام 2007، نشأت من رحم جماعة “الإخوان المسلمين”. فكيف وجدت هذه الحركة الإسلامية السُنية أقوى حلفاء لها في الجماعات والأنظمة التي يقودها الشيعة: في إيران والعراق ولبنان وسوريا واليمن؟
تكمن الإجابة السريعة في المكانة الخاصة التي تحتلها القضية الفلسطينية في وجدان شعوب المنطقة. فرغم أن الكثير من القادة العرب تخلوا منذ وقت ليس بقصير عن اهتمامهم بالقضية الفلسطينية، والبعض منهم وقّع صفقات “التطبيع” مع إسرائيل من دون شروط، متجاهلين كل ما يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني والمظالم التي يتعرض لها منذ 75 عاماً، يظلُّ التعاطف مع فلسطين نقطة إلتقاء مشتركة بين الشعوب العربية، حتى في الأوقات التي كنَّا نشهد فيها توترات طائفية ومذهبية هنا وهناك. وهذا ما نشهده منذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة. لقد أيقظت هذه الحرب “جبهة تضامن سُنية- شيعية” عابرة للحدود والطوائف والإثنيات والجنسيات. تضم شعوباً تعرض تطبيع أنظمتها العلاقات مع إسرائيل. وفي هذه “الجبهة” تنضوي أيضاً كل قوى “محور المقاومة”. فمن يقف اليوم إلى جانب الشعب الفلسطيني، ويؤيد حقه في الكفاح المسلح، ويدعم مقاومته بالمال والعتاد وحتى في القتال، هو فقط النظام الإيراني وحلفاؤه الشيعة في لبنان والعراق واليمن. وهذا التطور يشكل تحدياً استراتيجياً كبيراً وصعباً بالنسبة لأميركا وشركائها،تتطلب مواجهته ما هو أكثر بكثير من قصف مواقع تابعة لـ”المحور” هنا أو هناك. إن حرب غزة باتت تُهدّد بتقويض النفوذ الأميركي بشكل أكبر، وقد تجعل العديد من المهام- العسكرية والدبلوماسية- الأميركية على وجه الخصوص والغربية عموماً غير قابلة للاستمرار(…).
حرب غزة تهدد بتقويض نفوذ أميركا في المنطقة وتهدد ديمومة مهامها العسكرية والدبلوماسية.. و”الجبهة السنية الشيعية” تحد كبير في وجه الغرب
بالطبع، ثمة عوامل أخرى إلى جانب حرب غزة ساهمت في هذه التحولات الإقليمية المستجدة، وكان لها أثر كبير في جعل الانقسام الطائفي والمذهبي أقل بروزاً بكثير مما كان عليه قبل سنوات، أبرزها: التقارب الإيراني-السعودي (آذار/مارس 2023)، ومحادثات السلام اليمنية- السعودية، والديناميات المتغيرة في العراق ولبنان.
“تركة” الإستعمار
بعد الحرب العالمية الأولى، سعت القوى الاستعمارية الغربية إلى تنظيم الأراضي العثمانية السابقة على أُسس عرقية وطائفية، ما جعل الهويات الدينية أكثر تشابكاً مع الدولة القومية وأكسبها أهمية سياسية كبيرة (…). كما أن دعم بريطانيا للهجرة اليهودية إلى فلسطين، وسياستها المزدوجة في حكم العرب واليهود، أدَّيا إلى تأجيج الانقسامات العرقية والدينية في المنطقة، بما في ذلك بين الفلسطينيين أنفسهم. بعبارة أخرى، إن السياسات الاستعمارية هي من أوجد الانقسامات العرقية والطائفية، وغذَّتها على مدار عقود طويلة.
لكن سياسات بناء الأمة يمكن ايضاً أن تدفع في اتجاهات متعددة. فبعد عام 1948، أدت عمليات طرد إسرائيل المتكررة للفلسطينيين إلى ظهور روابط وتحالفات جديدة. ففي لبنان، على سبيل المثال، تزامن تدفق اللاجئين الفلسطينيين (1948-1967) مع الصحوة السياسية للمجتمع الشيعي الذي كان يعاني من التهميش ويسعى إلى تحرير نفسه. وخلا ل العقود التالية، وبالإضافة إلى بناء علاقات مع الشيعة اللبنانيين، اختلط الفلسطينيون أيضاً ببعض النشطاء الإيرانيين الذين قادوا لاحقاً الثورة الإيرانية عام 1979، التي أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي، الحليف الوثيق لإسرائيل والولايات المتحدة آنذاك. وبعد عودته المُظَفَّرة إلى إيران، في شباط/فبراير 1979، سارع آية الله الإمام الخميني للترحيب بمنظمة التحرير الفلسطينية واستقبل وفدها في “قمّ”، حيث أشاد زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات بالثورة باعتبارها “نصراً كبيراً للمسلمين.. وانتصاراً قريباً لفلسطين”. وبعد يومين، تم تسليم السفارة الإسرائيلية في طهران إلى منظمة التحرير. وبالمثل، زار طهران وفدٌ من جماعة “الإخوان المسلمين”، مما سلّط الضوء على كيف كانت الجماهير والحركات السياسية السُنية تنظر إلى الثورة الإيرانية في أيامها الأولى من منظور إسلامي وليس من منظور مذهبي (شيعي).
ومع ذلك، تعامل معظم القادة في الشرق الأوسط مع جمهورية إيران الإسلامية على أنها “تهديد كبير”،. وكانوا يخشون من أن تؤدي الثورة الإيرانية، ودعمها للحركات الثورية في جميع أنحاء المنطقة، إلى تمكين المجتمعات الشيعية والحركات الإسلامية في بلدانهم. كانوا يخشون على موقعهم المركزي في العالم العربي والإسلامي وعلى علاقاتهم مع الولايات المتحدة. وهكذا، عندما شنَّ عراق صدام حسين (البعثي) الحرب ضد إيران، في عام 1980، وقفت منظمة التحرير الفلسطينية، بجميع فصائلها تقريباً، إلى جانب صدام، وخلصت إلى أن العلاقات مع العراق ودول الخليج لها الأولوية والأسبقية على طهران.
دعم المقاومة عابر للطوائف
بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر، أدَّت التدخلات الأميركية المُضلّلة إلى تفاقم الصراع الطائفي في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وساهمت في تشكيل العديد من الجماعات المسلحة (بما فيها تلم التي تتواجه معها الإدارة الأميركية اليوم). فالغزو الأميركي للعراق جلب الأحزاب الإسلامية الشيعية إلى السلطة (معظمهم كانوا في المنفى في إيران وسوريا وأوروبا)، في الوقت نفسه، ساهم الغزو في تأجيج أنشطة المتطرفين السُنة، مثل تنظيم “القاعدة” في العراق، ما أدَّى إلى اندلاع الحرب الأهلية العراقية الدموية وظهور تنظيم الدولة الإسلامية (“داعش”)، وكذلك الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران ولا سيما (مثل “الحشد الشعبي”) (…).
في الواقع، منذ ما يقرب من قرن من الزمن، كان دعم الفلسطينيين أمراً متفق عليه إلى حد كبير بين المسلمين السُنة والشيعة في جميع أنحاء العالم (…). كذلك حظي حزب الله بإشادة واسعة من قِبَل السُنّة والشيعة على حد سواء بعد انتصاره على إسرائيل، في حرب تموز/يوليو 2006، وقبل ذلك بسبب مقاومته الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان طوال 19 سنة، ودوره في التحرير وإرغام الجيش الإسرائيلي على الإنسحاب في عام 2000.
اليوم، تجتذب حركة “حماس”، ومعها فصائل فلسطينية مقاومة أخرى، مستويات مماثلة من الدعم والإشادة عابرة للطوائف بسبب مقاومتها البطولية وصمودها يوجه الآلة العسكرية الحربية الإسرائيلية منذ 4 أشهر. وهذا التضامن والتعاضد جلب ضغوطاً متزايدة على الحُكام العرب، ومنح الجماعات الشيعية الداعمة للمقاومة الفلسطينية نفوذاً جديداً في العالم السُني. فبسبب نفورهم من دعم أنظمتهم للغرب وعلاقاتهم مع إسرائيل، صارت الأغلبية العُظمى من الجماهير العربية السُنّية تنجذب وتميل إلى قوى محور المقاومة المتحالفة مع إيران (من بيروت ودمشق وبغداد إلى البحر الأحمر) لكونها الجهة الوحيدة التي تتصدى لإسرائيل وتُساند المقاومة في غزة (…).
هناك عدة عوامل لفهم القوة المتنامية لقوى محور المقاومة، منها مستويات التمويل المُستدامة، والهيكل التنظيمي المنضبط، والأيديولوجية المتماسكة، والدعم الاجتماعي الكبير الذي تلقاه هذه القوى داخل مجتمعاتها المحلية. هناك أيضاً عوامل تستمد جذورها من العواقب التي خلفتها التدخلات العسكرية- الغربية والإسرائيلية- في المنطقة، وسياسات الأنظمة العربية الموالية.
اليوم، تُعد “حماس”، وهي أقوى حركة مقاومة إسلامية سُنية فلسطينية، حليف أساسي من ضمن قوى محور المقاومة، وعلاقاتها مع إيران وحلفاء غيران باتت علنية ورسمية.. وهي نتيجة مهمة ولافتة جداً في تطور مجريات المنطقة والصراع ضد إسرائيل والهيمنة الغربية (…).
بالطبع، لم يكن بناء التحالف بين إيران و”حماس” أمراً سلساً في البداية، بل استغرق سنوات. فعندما اندلعت الحرب السورية، في عام 2011، وقفت القيادة السياسية لـ”حماس”؛ وكان مقرها دمشق في ذلك الوقت؛ إلى جانب المعارضة (أغلبها من الإسلاميين السُنة) ضد نظام بشار الأسد- حليف إيران. وبعد أن حوصرت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في دمشق في خضم القتال وقتل العديد من الفلسطينيين، انتقل قادة “حماس” إلى قطر وتركيا، اللتين كانتا تدعمان المعارضة السورية وتسعيان للإطاحة بالنظام السوري. ونتيجة لذلك، اضطرت إيران لتقليص دعمها لـ”حماس” بشكل كبير، برغم أن “التقارب” كان مكسباً لطهران، وشكل أفض رد على كل من كان يتهمها بأنها تبني جبهة طائفية مذهبية وأنها كانت تدعم الحركات الشيعية حصرياً.
وحدة الساحات
بعد سنوات قليلة عادت “حماس” بالكامل إلى الحظيرة الإيرانية، حيث وجدت “المصدر الوحيد” الراغب والمستعد والقادر على إمدادها- وبشكل مُستدام- بالسلاح والعتاد والتدريب، وبكل ما تحتاجه في المواجهات التي تخوضها مع إسرائيل. صحيح أن قطر استمرت في توفير الغطاء السياسي والتمويل المالي لـ”حماس”، لكن القسم الأكبر من هذا الدعم كان يمر عبر القنوات الإسرائيلية. أي أنه كان دعماً مقيداً، في حين أن الدعم الإيراني أثبت فعاليته وأهميته بالنسبة لمشروع لقيادة السياسية لـ”حماس” وجناحها العسكري (كتائب القسام) داخل غزة. لذلك، قرر يحيى السنوار، الذي أصبح زعيم الحركة في غزة عام 2017، الابتعاد عن مخاطر الخصومات بين القوى الإقليمية، وسرعان ما بنى علاقات مباشرة مع طهران. وعندما تصالحت “حماس” مع نظام الأسد (عام 2022) تعزز موقع “حماس” أكثر داخل “محورالمقاومة”.
السؤال الذي يثير نفسه هو ما مدى التنسيق بين قوى محور المقاومة؟ وإلى أي مدى هذه “القوى” مستعدة أن تذهب بعيداً في مساندها للمقاومة الفلسطينية في غزة؟
حتى الآن، كل التعليقات المعلنة تقول إن لا إيران ولا حزب الله، ولا حتى قادة “حماس” خارج غزة كانوا على علم مسبق بتفاصيل عملية “طوفان الأقصى” قبل أن تشنها فصائل المقاومة الفلسطينية فجر 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي (…). المراقبون عن كثب لـ”محور المقاومة” باتوا منقسمين حول ما إذا كانت عقيدة “وحدة الساحات” يتم تنفيذها كما هو متصور، وأن الحرب لا تزال في مرحلة مبكرة وبالتالي لم يحن وقت “التصعيد” بعد، أو أن القرار هو في الأساس الاكتفاء بإظهار الدعم للمقاومة الفلسطينية من دون الانجرار إلى حرب شاملة. فهذا ما أكد عليه السيد نصرالله في خطاباته الأخيرة، وهذا ما تعلنه إيران أيضاً (…). في الوقت نفسه، ثمة من يقول إن قادة “حماس” في غزة كانوا يتوقعون رداً أقوى من “المحور”، من حزب الله على وجه الخصوص (…).
الواضح هو أنه وبرغم أن “المحور” نواته إيرانية ويتحرك وفق تنسيق إيراني، فإن أعضاءه لا يتلقون بالضرورة أوامر مباشرة من طهران.. بل يتمتعون بهامش وفير من الإستقلالية ويتصرفون وفق ما يخدم مصالحهم وضمن امكانياتهم وبحسب ظروفهم (…).
الفوز لمن يدعم فلسطين
تُظهر استطلاعات الرأي ووسائل التواصل الاجتماعي أن الجماهير العربية تدعم المقاومة الفلسطينية المسلحة بشكل كبير وتعارض الانحياز أميركا والأنظمة المرتبطة بها لإسرائيل (أكثر من 90% من السعوديين يعارضون تطبيع العلاقات مع إسرائيل)، وذلك برغم الانتقادات التي تسوقها بعض الأنظمة لقوى محور المقاومة وتتهمتها بتوسيع نطاق الحرب (…).
ليس من الصعب أن نفهم موقف الجماهير العربية. فالحكومات العربية، الموالية للغرب، لم تبذل جهوداً تُذكر لوقف الحرب الإسرائيلية على غزة، فيما إيران وحلفاؤها في محور المقاومة يثبتون بالقول والفعل أنهم قادة إقليميون، وداعمون أساسيون للقضية الفلسطينية (…). وبهذا المعنى، فإن الحرب الإسرائيلية على غزة ساهمت في تعزيز الوحدة في مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي، وربما أكثر مما فعل أي صراع آخر طوال العقود الأخيرة.
ومن المفارقات هنا، أن أكبر المعارضين لـ”المحور” في هذه المرحلة هم على ما يبدو الجماعات السُنية المتطرفة، مثل “داعش” الذي أدان “حماس” مراراً وتكراراً لكونها حركة قومية أكثر مما ينبغي وليست “إسلامية” بما يكفي لمساندتها (…). والجدير بالذكر، أن “داعش”؛ الذي يبذل محاولة يائسة لاستعادة أهميته الإقليمية ويسعى لإشعال العنف الطائفي بين الشيعة والسُنّة من جديد؛ أعلن مسؤوليته عن تفجير حفل تأبين في إيران في ذكرى استشهاد قائد فيلق القدس السابق اللواء قاسم سليماني، في أوائل كانون الثاني/يناير الماضي (…).
تظهر استطلاعات الرأي ووسائل التواصل الاجتماعي العربية دعماً عربياً كبيراً لـ”حماس” وعقيدتها في المقاومة المسلحة
ومن المفارقات أيضاً أن إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب اغتالت سليماني، في عام 2020، بحجة أنه يدير هجمات ضد المصالح الأميركية في المنطقة. بينما الحقيقة هي أن سُليماني؛ وطوال فترة (2015-2017) كان يعمل على دعم وتدريب وإعداد الجماعات العراقية التي قاتلت ودحرت “داعش”. وثمة مفارقة أن مشاركة أميركا في الحرب على غزة، والدعم غير المشروط (العسكري والمالي والدبلوماسي) الذي تقدمه لإسرائيل قد يسرع من طرد قواتها من المنطقة (…).
بالنسبة لواشنطن، بات من الواضح على نحو متزايد أنه سيكون من المستحيل بالنسبة لها أن توقف التصعيد الإقليمي ما لم توقف إطلاق النار في غزة، وتبدأ العمل من أجل إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة. وغير ذلك، فإن القوى الإقليمية سوف تستمر في استخدام القضية الفلسطينية لتحقيق مكاسبها الخاصة (…). وفي غياب الحل العادل للقضية الفلسطينية، لن يشهد الشرق الأوسط السلام أبداً، ولن يتحقق التعاون السياسي والاقتصادي الذي يحلم به كثيرون. سيكون البديل دورة لا متناهية من العنف، ومعها سيتراجع النفوذ الغربي وشرعية وجوده في المنطقة، وسيتعاظم خطر نشوب حرب اقليمية. والمنطقة بأكملها سوف تصبح مُعادية بشكل أساسي للغرب عموماً ولأميركا على وجه الخصوص.
– ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“.
(*) توبي ماثيسن، محاضر أول في “الإسلام العالمي” في جامعة “بريستول”، ومؤلف كتاب: “الخليفة والإمام: صناعة السنة والشيعة“.