

فى المرتين جرى خرق خطير فى إجراءات سلامة المراسلات السرية. مرة بانتهاك القواعد الصارمة لمراسلات وزارة الخارجية باستخدام خادم خاص للبريد الإلكترونى بدلًا من الحسابات المؤمنة. ومرة ثانية بضم صحفى إلى مجموعة من كبار مسئولى البيت الأبيض بينهم نائب الرئيس جيه دى فانس، ومستشار الأمن القومى مايك والتز، ووزير الدفاع بيت هيجسيث، ومدير وكالة المخابرات المركزية جون راتكليف ومديرة المخابرات الوطنية تولسى جابارد فى قناة غير مؤمنة على تطبيق سيجنال لمتابعات عملية عسكرية توشك أن تبدأ ضد قواعد حوثية باليمن.
قيل بالتواتر إن ذلك تم بالمصادفة والسهو! بعيدًا عن نظرية الصدفة يصح السؤال التالى: لماذا جيفرى جولدبيرج رئيس تحرير مجلة ذا أتلانتيك بالذات؟!
حسب التصريحات المتواترة لكبار المسئولين الأمريكيين، بمن فيهم ترامب، فإن ضمه جرى بالصدفة دون قصد. هذه محض فرضية غير مقنعة وغير متماسكة يفندها سجل جولدبيرج. هو مزدوج الجنسية، أمريكى وإسرائيلى. عمل مطلع حياته ضابطًا بالجيش الإسرائيلى وخدم لفترة فى سجون الدولة العبرية. بدأ عمله الصحفى بصحيفة جيروزاليم بوست قبل أن يعود للولايات المتحدة صحفيًا بواشنطن بوست حتى استقر به المقام فى «ذا أتلانتيك».
وجد «جولدبيرج» أمامه سبقًا صحفيًا لم يتردد فى نشره وتحمل مسئوليته، انحاز إلى مهنته فوق أى اعتبار آخر، فى البداية وصف طبيعة المعلومات المتداولة دون الخوض فى التفاصيل الدقيقة.
عندما كذبت التصريحات الرسمية محتوى تسريبات «سيجنال» قرر إطلاع الجمهور على النصوص الكاملة ليعرف نوع المعلومات، التى تم تداولها عبر قنوات غير آمنة.
أجرى مراجعات قانونية قبل نشر النصوص لحساسيتها المفرطة. تواصل مع مختلف مؤسسات إدارة ترامب، سائلًا إذا ما كانوا يعارضون نشرها؟
لم يرد أحد باستثناء السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض، التى قالت عبر البريد الإلكترونى: «كانت هذه محادثة داخلية وخاصة نوقشت فيها معلومات حساسة.. نعم نحن نعارض النشر».
ما حدود التغيير المحتمل فى الإدارة الأمريكية؟ التغيير فى الوجوه محتمل، لكنه ليس مؤكدًا بفائض غالبية مجلسى الكونجرس حتى لا يبدو «ترامب» مهزوزًا أمام حملات الحزب الديموقراطى. «الرئيس لا يزال داعمًا لفريقه للأمن القومى». كان ذلك تصريحًا موحيًا بحدود الحركة والتغيير، الحساب والعقاب
لم تحدد ما هى الأجزاء الحساسة، أو كيف يمكن نشرها بعد مرور أكثر من أسبوع على الغارات الأمريكية؟ كان ذلك كافيًا قانونيًا ومهنيًا ليستقر عزمه على النشر. لم يدع «الخبطة الصحفية الكبرى» تفلت من يده. بانحيازه إلى مهنته تحول من صحفى شبه مجهول فى الولايات المتحدة إلى صحفى ذائع الصيت فى العالم بأسره.
بدأت التساؤلات تطرح نفسها على الرأى العام الأمريكى: من يدفع الثمن؟ طالت الانتقادات رجلين بالذات ووضعت مستقبليهما بين قوسين كبيرين. الأول، وزير الدفاع «هيجسيث»، الذى يفتقد أية خبرة عسكرية تؤهله لهذا المنصب. كل مؤهلاته أنه عمل لفترة ضابطًا فى الحرس الوطنى ويقدم برامج على شبكة «فوكس نيوز» اليمينية، التى دأبت على دعم وتأييد «ترامب». أعادت فضيحة تسريبات «سيجنال» طرح سؤال صلاحيته من جديد.
فى بداية الأزمة قال حرفيًا: «لم يرسل أحد خطط حرب عبر الرسائل النصية.. هذا كل ما لدى لأقوله». بتصاعد الحملات السياسية داخل مجلسى الكونجرس، التى قادها الحزب الديموقراطى، زادت حدة تعليقاته سبًا وشتمًا وتقليلًا من القيمة المهنية لرئيس تحرير «ذا أتلانتيك» «المضلل» و«غير الموثوق به». بدا ذلك انفلاتًا بالأعصاب وعجزًا بالوقت نفسه عن تسويغ التسريبات، التى كان من الممكن أن تفضى إلى الإضرار البالغ بالأمن القومى الأمريكى وتهديد حياة الطيارين للخطر.
فى المحادثات المسربة أعلن وزير الدفاع توقيت إقلاع الطائرات الحربية لتنفيذ ضربات محددة باليمن. قال: «إنها لم تكن خطة حرب والتفاصيل لم ترق إلى مستوى خطة حرب».. لكنها كانت كافية لتعريض العملية كلها للفشل قبل أن تصل الطائرات إلى أهدافها.
والثانى، مستشار الأمن القومى «والتز»، الذى أعلن تحمله مسئولية التسريب، مرجحًا أن يكون قد ضم «جولدبيرج» إلى مجموعة المراسلة بالخطأ. كان ذلك نصف اعتراف، نصف تحمل للمسئولية. نفى أن يكون على صلة سابقة به أو أنه يعرفه شخصيًا. أعرفه فقط من خلال سمعته، وهى مريعة.
حسب «ترامب» فإنه ربما كان هناك شخص يعمل لدى مستشار الأمن القومى أضاف الصحفى إلى مجموعة المراسلة على تطبيق سيجنال.
إنها الفوضى الضاربة فى مركز صناعة القرار. شخص ما يضيف اسمًا بعينه إلى مجموعة نقاش سرية للغاية دون مراجعة لقيادته، أو التزام بأية قواعد تضمن سلامة قناة الاتصال حتى لا يتهدد الأمن القومى لأية أزمات مع حلفاء مفترضين.
وفقًا لـ«جولدبيرج» فإن أحد المشاركين بالمحادثة السرية قال: «على الولايات المتحدة توضيح توقعاتها لمصر وأوروبا»، قاصدًا الثمن الذى يجب دفعه نظير عودة الملاحة الطبيعية إلى البحر الأحمر وقناة السويس. الكلام برسائله إنذار صريح لما قد يحدث بعد وقت أو آخر.
أوروبا انزعجت من الإشارة ومصر تحتاج إلى أن تتنبه. لم يشر المتحدث إلى إسرائيل، التى تتهددها الصواريخ الباليستية الحوثية، إنها خارج كل حساب، فأمريكا تخوض الحرب بالنيابة عن أمنها ومصالحها وتغولها على المنطقة كلها.
ما حدود التغيير المحتمل فى الإدارة الأمريكية؟ التغيير فى الوجوه محتمل، لكنه ليس مؤكدًا بفائض غالبية مجلسى الكونجرس حتى لا يبدو «ترامب» مهزوزًا أمام حملات الحزب الديموقراطى. «الرئيس لا يزال داعمًا لفريقه للأمن القومى». كان ذلك تصريحًا موحيًا بحدود الحركة والتغيير، الحساب والعقاب.
فى كل الأحوال سوف يدفع الثمن من هيبة «ترامب» والثقة العامة فى صلاحية إدارته وكفاءتها.
(*) بالتزامن مع “الشروق“