

رأت فرنسا ثورتها في الولايات المتحدة وقد عبرت المحيط، واعتبرتها بريطانيا ابنتها الاقتصادية المتمرّدة، بينما وجدت فيها ألمانيا نموذجًا ناجحًا للبرجوازية الحديثة، وباركتها إيطاليا بمهاجريها وقباطنتها وحتى عصاباتها. غير أن هذه النظرة الحنونة لم تدم طويلًا.
تحوّلت أميركا، بمرور الزمن، إلى قوة ندّية ثم إلى كيان متعالٍ، وأخيرًا إلى ما يشبه الابن العاقّ الذي انفصل عن تاريخه العائلي. هذا التحوّل لم يكن مجرد انتقال في توازنات القوى، بل كان شرخًا نفسيًا في عمق الأنا الأوروبية، التي لطالما اعتبرت نفسها مركز التاريخ ومصدر القيم والمعنى.
في الحقبة الاستعمارية، كانت أوروبا هي التي تخوض البحار؛ تكتشف المجهول، وتعيد ترسيم الجغرافيا بلغاتها ومصالحها. من كولومبوس إلى كابتن كوك، كانت الإمبراطوريات تُبنى على إيقاع المغامرة الأوروبية. لكن بعد الحربين العالميتين، تغيرت قواعد اللعبة. تقدّمت أميركا إلى الواجهة، لا بصفتها امتدادًا رمزيًا لأوروبا، بل قوة مستقلة تنحت شكل العالم بلغتها، وتدير النظام الدولي وفق إيقاعها الخاص. عندما تحدّث جورج بوش الابن عن فرنسا وألمانيا الرافضتين لغزو العراق عام 2003، لم يُخفِ احتقاره لما وصفه بـ”تأخرهم عن التاريخ”، مؤكدًا أن الولايات المتحدة تمضي قدمًا وحدها. لم يكن هذا مجرد تصريح سياسي، بل إعلان انفصال وجداني عميق: أميركا لم تعد ترى أوروبا شريكة حضارية، بل عبئًا تقليديًا، أمًا مسنّة كثيرة الشكوى. وكل ما تلا ذلك من انسحابات من اتفاقيات دولية، وتجاهل واشنطن لالتزاماتها في “الناتو”، وصولًا إلى إذلال الحلفاء الأوروبيين في العلن، لم يكن سوى التطبيق الفعلي لنظرية “قتل الأب” الفرويدية.
فرويد، في “الطوطم والتابو”، يشرح أن الفرد لا يُنتج هويته إلا من خلال تمرّد رمزي على الأب المؤسس؛ تمرّدٌ لا يخلو من الحب، لكنه ضروري لكي تتكوّن الذات. ومع لحظة القطيعة، يظهر الصراع الداخلي بين الذنب والحرية، بين الحنين والانفصال.
ما يحدث، اليوم، بين أوروبا وأميركا يُحاكي هذا الميكانيزم بوضوح لافت للانتباه. فأميركا ليست فقط دولة انفصلت عن القارة الأم، بل هي صورة أوروبا وقد تخلّت عن ماضيها. لا ذاكرة استعمارية ثقيلة؛ لا عقدة مسيحية؛ ولا توتر فكري مزمن. كما قال أومبرتو إيكو: أميركا هي “المستقبل الذي انفلت من التاريخ”، بينما تبدو أوروبا، التي رسمت خرائط الكوكب، كمن فقد خياله ويبحث عن معنى في خطب هابرماس أو توجّس ماكرون. أميركا تتصرف كذات مكتفية، وأوروبا تقف على رصيف التاريخ تتساءل إن كانت ما تزال ذاتًا أصلًا.
على أوروبا أن تعترف بأن الأبوة التاريخية لم تعد تعني شيئًا، وأن العالم لم يعد يُصاغ من باريس أو برلين أو لندن. إن أرادت أن تحيا من جديد، فعليها أن تروي قصة جديدة، لا تقوم على الذكرى بل على الجُرأة
هنا يظهر الانشقاق العميق بين الحضارة كمعنى، والقوة كأداة. أوروبا صنعت العقلانية، التنوير، الفن، الشك، والذات المفكّرة. بينما أخذت أميركا هذه الأدوات وجرّدتها من بعدها الروحي، فأنتجت حضارة ذات قشرة صلبة بلا قلب. عقلٌ بلا قلق؛ قوةٌ بلا تأمل؛ حرية بلا ذاكرة. هذا التوتر لا ينبع من الاختلاف، بل من التشابه المشوَّه. أوروبا لا تخاف من أميركا لأنها “أخرى”، بل لأنها تشبهها بشكل خطير، ولكن دون أعماقها. كما قال ميشال روكار، “أميركا تتحدث باسم القيم التي اخترعتها أوروبا، لكنها تقتل بها روح أوروبا نفسها”. إنها تتحدث باسم العقلانية، لكنها تسوّقها كسلاح. باسم الحرية، لكنها توظفها كأداة هيمنة. وهنا يكمن الجرح الرمزي: أوروبا ترى في أميركا كل ما تخلّت عنه، وتشعر أنها خلقت وحشًا لا وريثًا.
أزمة أوروبا اليوم إذًا ليست فقط مادية أو سياسية، بل هي أزمة هوية روحية -حضارية. بدل أن تسعى إلى استعادة المبادرة، تنكفئ أوروبا إلى ماضيها، تغرق في تأملاتها، وتُفرط في جلد ذاتها. كأنها تفضّل أن تراقب انهيار العالم بشاعرية نيتشوية، بدل أن تساهم في تغييره. وربما يكمن المخرج، كما لمح بيير نورا، في إعادة إحياء “ذاكرة أوروبا الحية”، لا كنوستالجيا، بل كقوة اقتراحية.
على أوروبا ألّا تُقلّد أميركا، ولا أن تنافسها على الهيمنة، بل أن تستعيد إيمانها بأن المعنى أعمق من السيطرة، وأن السردية الحضارية ما تزال ممكنة إذا ما حرّكت خيالها مرة أخرى. لن يحدث هذا ما دامت ترى في أميركا مجرد ابنة وقحة. على أوروبا أن تعترف بأن الأبوة التاريخية لم تعد تعني شيئًا، وأن العالم لم يعد يُصاغ من باريس أو برلين أو لندن. إن أرادت أن تحيا من جديد، فعليها أن تروي قصة جديدة، لا تقوم على الذكرى بل على الجرأة.
لقد اكتشفت أوروبا أميركا يومًا ما، لكنها عجزت عن تخيّل أنها ستتمرّد، بل وتحتقرها أحيانًا. إن أزمة الأنا الأوروبية اليوم لا تكمن فقط في ما أصبحت عليه، بل في ما لم تعد قادرة على أن تكونه.. ولعل الاعتراف بهذه الحقيقة هو أول الطريق نحو استعادة المعنى.