لبنان كان يُقرض كندا والهند والبنك الدولي.. هل تُصدّقون؟

يُصاب المرء بحيرة عاصفة حين ينظر إلى طريقة غالبية السياسيين اللبنانيين في إدارة بلادهم وكيف أنزلوها من رفعة العز إلى قاع الفاقة، وتضرب الحيرة ما تبقى من رصانة حين يقارن بين الإنحدار المريع للعملة الوطنية وبين موقعها الماضي في المرتبة الرابعة عالمياً، أو بين ما يشترطه صندوق النقد الدولي على لبنان لتشحيذه ثلاثة مليارات من الدولارات وبين الشروط التي كانت تفرضها المصارف اللبنانية على "البنك الدولي" الذي كان يقترض منها.

في الأدبيات السياسية السائدة، أن انهيار لبنان ليس سوى نتيجة لسحب الدور الذي أعطي له في مرحلة من المراحل، وهذه الأدبيات غير العلمية وغير العقلانية تتغافل عن قصد أو عن قصور أن الدور يؤخذ ولا يُعطى، فالبيئة العلمية والثقافية والمالية والإقتصادية التي ميّزت لبنان في مرحلة ما قبل الإستقلال وحتى عام 1975، لم يكن لها نظيرعربي إلا في مصر، ولذلك تجاذبت البيئتان اللبنانية والمصرية أنظار العالم إلى أوائل الخمسينيات الماضية.

ولكن مع حركة التأميم التي اعتمدتها مصر بعد عام 1952، غدا لبنان متفرداً ومنفرداً ببيئة جاذبة لرؤوس الأموال والوكالات والشركات والإستثمارات الإقليمية والدولية فتعزز شأنه وأضيف إلى بيئته الأصلية عناصر التميز المضاعفة التي لم يبرز لها شبيه في دولة عربية وربما في دول العالم الثالث، وبذلك تحولت الليرة اللبنانية إلى عملة دولية واستطاعت البيئة المحلية المؤهلة والكفوءة أن تجعل لبنان صندوق المال الإقليمي وأحد أهم صناديق المال الدولية.

كتب الوزير اللبناني الأسبق الياس سابا في مجلة “الرائد العربي” ـ شباط/فبراير 1961 ـ فقال “في مجال تثبيت قيمة نقده الخارجية، على لبنان أن يقوم بكل ما من شأنه أن يعزز الليرة اللبنانية كنقد مناطقي يشمل الشرق العربي بكامله”، وهذه التوصية أو الخلاصة تقترب من الدعوة إلى تحويل العملة اللبنانية إلى مثيل “اليورو” الأوروبي الذي لم يكن مسموعا به في تلك الفترة على الإطلاق، وهذه القوة التي كانت عليها الليرة اللبنانية استمرت على جادتها الصاعدة في السنوات اللاحقة ومعها تبوأت ليرة لبنان المرتبة الرابعة عالمياً مثلما جاء في تقرير نشرته صحيفة “الحياة” اللبنانية في عددها الصادر في العشرين من شباط/فبراير 1965 حيث ورد فيه:

“وصل إلى الدوائر الرسمية تقرير القسم المالي العالمي في الأمم المتحدة عن أوضاع البلدان الستة في الفئة المالية العالمية الأولى، من حيث الودائع والقوة المالية، وقد احتل لبنان بين البلدان الستة الأوائل المقام الرابع عالميا والأول في الشرق الأوسط”.

تجاوز لبنان أزمة بنك انترا بسلامة ثم تجاوز مخاطر حرب حزيران/يونيو 1967، وبحلول السبعينيات عمل “البنك الدولي” على الإقترض من المصارف اللبنانية وكذلك الأمر مع الهند وكندا

بعد شهرين من أزمة “بنك أنترا“، نقلت صحيفة “الحياة” في الثالث والعشرين من كانون الأول/ديسمبر 1966 عن “مصدر اقتصادي مطلع” أن البلاد “قد تغلبت على الأزمة بفضل وعي المواطنين والإجراءات السريعة التي وضعتها الحكومة لمجابهتها، ونود أن نلاحظ بأن الأزمة وُضعت في مستوى غير حقيقي والدليل أن التغطية الذهبية في لبنان ما تزال تبلغ 86 في المئة وهي من أعلى النسب في العالم، والبلاد تخطت الأزمة عملياً بسبب مكانة لبنان المنيعة ومركزه وموارده وقوة النقد اللبناني الناتجة عن قوة الطلب عليه”.

وعلى هذه الحال، تجاوز لبنان أزمة “بنك أنترا” بسلامة ثم تجاوز مخاطر حرب حزيران/يونيو 1967، وبحلول السبعينيات عمل “البنك الدولي” على الإقترض من المصارف اللبنانية وكذلك الأمر مع الهند وكندا، وشروحات ذلك تظهر في التالي:

ـ 1 ـ “البنك الدولي”:

في التاسع من كانون الأول/ديسمبر 1972، ذكرت صحيفة “الأنوار” البيروتية أن رئيس الجمهورية سليمان فرنجية “بحث مع رئيس جمعية المصارف السيد جوزيف جعجع الأوضاع المصرفية والقرض الذي ستمنحه المصارف إلى البنك الدولي بالليرة اللبنانية”. وفي 17 ـ 12 ـ 1972، نسبت “الأنوار” إلى مصادر مالية قولها “إن هناك قروضا بالليرات اللبنانية ينتظر الكشف عنها قريباً على غرار القرض الذي ستكتتب به المصارف لتقديمه إلى البنك الدولي”، وأعلن جعجع (“الأنوار” 28 ـ 12 ـ 1972) بعد زيارته للرئيس فرنجية أنه “تم الإتفاق مع البنك الدولي لإقراضه”.

وكانت صحيفة “النهار” اللبنانية قد كشفت في الأول من كانون الأول/ ديسمبر 1972 عن اتصالات جرت “في الفترة الأخيرة مع كبار المسؤولين في صندوق الضمان الإجتماعي حول إمكان إقراض الصندوق البنك الدولي مبلغ 30 مليون دولار بالليرات اللبنانية من أصل المبالغ المتوافرة لديه من تعويضات نهاية الخدمة، ومبلغ الثلاثين مليون دولار من صندوق الضمان هو غير مبلغ العشرين مليون دولار الذي تفاوضت جمعية مصارف لبنان بشأنه مع مسؤولي البنك الدولي”، وقالت الصحيفة (22 ـ 12 ـ 1972) ذاتها “عقد ممثلو المصارف التي أبدت رغبتها في الإكتتاب بالقرض المنوي تقديمه إلى البنك الدولي اجتماعا في فندق بريستول تدارسوا فيه نتائج الإتصالات مع مسؤولي البنك الدولي، وأبلغت جمعية المصارف أن مجموع المبالغ التي أبدت المصارف رغبتها في الإكتتاب بها وصلت إلى 89 مليون ليرة في حين أن القرض المتفق عليه مبدئيا هو في حدود الستين مليون ليرة”.

وعندما بدأت المفاوضات كان لـ”البنك الدولي” شروطه وللمصارف اللبنانية شروطها، وعرضت “النهار” في عددها المسبوق ذكر تاريخه آليات المفاوضات فأظهرت “أنه من خلال الإتصالات التي أجراها رئيس جمعية المصارف أن البنك الدولي يطلب أن تكون مدة القرض 7 سنوات وأن يدفع القسط الأول بعد خمس سنوات، في حين كان الإتفاق المبدئي على تسديد القرض في مهلة خمس سنوات، وفي حال إصرار البنك الدولي على شروطه، فإن الكثير من المصارف الوطنية ستضطر إلى سحب عروضها”.

وبعد التوصل إلى اتفاقية القرض، كتبت “النهار” في الثالث عشر من كانون الثاني/يناير 1973 “وصلت المبالغ التي اكتتبت بها المصارف العاملة في لبنان لتقديم قرض إلى البنك الدولي بالليرات اللبنانية إلى 75 مليون ليرة، وجاء هذا الإقبال على الإكتتاب بعد تذليل العقبات وموافقة البنك الدولي على جعل هذه المدة خمس سنوات بدل سبع سنوات”.

بطبيعة الحال أدت عملية الإقتراض إلى مضاعفة قوة الليرة الوطنية وارتفاع الإقبال على تداولها فتحدثت “النهار” في عددها المؤرخ في 22 ـ 1ـ 1973 عن “اشتداد الطلب على الليرة اللبنانية بسبب قرض البنك الدولي”. وفي مؤتمر صحافي عقده رئيس جمعية المصارف جوزيف جعجع (“النهار ” 24ـ 1 ـ 1973) قال:

إقرأ على موقع 180  "ميّاس" لـ"المافيا": لكم لبنانكم ولنا لبناننا!

“إن القرض هو الأول من نوعه في لبنان وتبلغ قيمته 75 مليون ليرة بفائدة 7.6 في المئة ويستحق بعد خمس سنوات، وهو يتمثل بسندات لحاملها تُرفق بها قسائم الفوائد، ويُدفع رأس المال في بيروت بالليرات اللبنانية ويُطبق عليه القانون اللبناني ويخضع للمحاكم اللبنانية”.

جوزيف شادر: “للمرة الأولى تُقرض المصارف في لبنان مؤسسة رسمية هي بنك دولة الهند وبالليرات اللبنانية، وهذا موضع فخر واعتزاز”

ـ 2 ـ الهند:

في الحادي عشر من كانون الأول/ديسمبر 1972، جرى التوقيع على اتفاقية قرض من المصارف اللبنانية إلى “بنك دولة الهند” وتطرقت صحيفة “الأنوار” إلى ذلك في اليوم التالي فقالت “تم أمس في فندق فينيسيا توقيع اتفاقية قرض بمبلغ 15 مليون ليرة لبنانية بين الدكتور رفيق الأخرس المدير العام لبنك المشرق والسيد ديولا لكار مدير القسم الدولي لدى بنك دولة الهند، ويُعتبر هذا القرض الذي اشترك بتمويله 16 مصرفاً (لبنانياً) الأول من نوعه بإعتبار أنه أعطي وسيُسترد بالعملة اللبنانية بفائدة 7.5 في المئة لمدة خمس سنوات، تُسدّد على دفعات كل منها لمدة ستة أشهر”.

وتناولت صحيفة “النهار” هذه الإتفاقية فأشارت إلى “توقيع اتفاق القرض الذي أصدره بنك المشرق لمصلحة بنك الدولة الهندي لمدة 5 سنوات بمبلغ 15 مليون ليرة لبنانية، وقال الدكتور الأخرس إن قرض الـ15 مليونا سيكون نقطة البداية، وشكر ديولا لكار مدير القسم الدولي لدى بنك دولة الهند المصارف اللبنانية وبيّن أهمية الخطوة على صعيد العلاقات بين لبنان والدول العربية والهند”، وهذا المصرف (“الأنوار” 28 ـ12 ـ1972) لديه “مئة ألف موظف في أربعة آلاف فرع يبلغ مجموع الودائع فيها ثلاثة مليارات دولار”.

صحيفة “الأنوار” كانت سألت قبل توقيع الإتفاقية (3 ـ12 ـ 1972) عدداً من الخبراء المصرفيين والإقتصاديين عن قراءتهم لإقتراض “بنك الدولة الهندي” من المصارف المحلية بالليرة اللبنانية فقال جوزيف جعجع إن هذا القرض لا يخرج عن نطاق الإنفتاح على العالم بالليرة اللبنانية، ورأى الرئيس السابق للجنة المالية البرلمانية جوزيف شادر أنه “للمرة الأولى تُقرض المصارف في لبنان مؤسسة رسمية هي بنك دولة الهند وبالليرات اللبنانية، وهذا موضع فخر واعتزاز، ويرى وزير الإقتصاد السابق رفيق نجا أن الميزة الأولى والأهم للقرض أنه يُعطى بالنقد اللبناني، واكتفى رئيس لجنة مراقبة المصارف الدكتور سليم الحص ـ رئيس الحكومة اللبنانية لمرات عدة ـ بالتعليق قائلاً إنه بادرة خير للإقتصاد اللبناني لا سيما وأنه يُعطى بالعملة اللبنانية”.

ـ 3 ـ كندا:

قالت صحيفة “النهار” في الثامن والعشرين من تشرين الأول/اكتوبر 1972 “استقبل الرئيس فرنجية، أمس، رئيس جمعية المصارف الشيخ جوزيف جعجع الذي عرض له نتائج الرحلة الإستطلاعية التي قام بها الوفد المصرفي اللبناني إلى الولايات المتحدة وكندا واستغرقت ثلاثة أسابيع، وعلمت النهار أن المسؤولين الكنديين أبدوا استعدادهم للإقتراض من لبنان وبالعملة اللبنانية، وذلك بعد أن يكون البنك الدولي خطا خطوته في هذا المجال”.

وفي تعليقها على الإقتراض الدولي بالليرة اللبنانية قالت صحيفة “القبس” الكويتية في التاسع والعشرين من آذار/مارس 1973 “ارتفعت ودائع البنوك اللبنانية في الخارج رغم الإتجاه نحو تحويل بعض الأرصدة إلى الليرة اللبنانية ودخولها الأسواق المالية كعملة دولية، وزاد إقراض البنوك اللبنانية للخارج بالليرات اللبنانية، فتمت صفقة بين بنك المشرق وبنك الهند، وفي الشهر الماضي أعلن بنك عودة عن قرض لشركة رينو الفرنسية للسيارات، وساهمت بنوك لبنانية اخرى في تقديم قرض كبير إلى البنك الدولي”.

ونشرت صحيفة “فايننشال تايمز” الإقتصادية البريطانية ملفاً مؤلفاً من خمس صفحات عام 1972 عن الإقتصاد اللبناني ساهم فيه الياس سابا، ونقلت صحيفة “الرأي” الأردنية (8ـ 12 ـ 1972) مقتطفات منه جاء فيها “قال الدكتور الياس سابا النائب السابق لرئيس الوزراء في لبنان، إن بلاده تنعم برخاء اقتصادي، وقال إن رخاء الأوضاع الإقتصادية وعودة الثقة بالإستقرار السياسي والإجتماعي والإستقرار النسبي لليرة اللبنانية، كل هذه أسهمت في نشاط الأوضاع النقدية والمصرفية”.

رؤوف أبو زكي في العام 1973: “يجتاز الدولار في سوق بيروت المالية وضعاً حرجاً. إن الأزمة لم تعد أزمة انخفاض في سعر الدولار في بيروت فحسب، بل هي كذلك أزمة ارتفاع في قيمة الليرة اللبنانية وما يتبع ذلك من مضاربة على هذه الليرة قد تفوق طاقة لبنان على تحملها”

أخيراً؛ عن الليرة والدولار في السبعينيات:

في التاسع عشر من أيار/مايو 1973 كتب رئيس “مجموعة الإقتصاد والأعمال” رؤوف أبو زكي في صحيفة “النهار” فقال:

“يجتاز الدولار في سوق بيروت المالية وضعاً حرجاً. إن الأزمة لم تعد أزمة انخفاض في سعر الدولار في بيروت فحسب، بل هي كذلك أزمة ارتفاع في قيمة الليرة اللبنانية وما يتبع ذلك من مضاربة على هذه الليرة قد تفوق طاقة لبنان على تحملها، وأمس خرج مصرف لبنان عن صمته وانتقل من مرحلة درس حركة النقد في السوق ومراقبتها إلى مرحلة التدخل في مجرى هذه الحركة، في محاولة للحد من التدهور السريع في سعر الدولار وتخفيف الضغط على الليرة”.

كانت الليرة تناطح الدولار وتغلبه.

كانت فوق وصارت أدنى من تحت.

من الذي يُنظم لنا نشيد القهقرى؟

من الذي يعزف لنا نشيداً مطلعه إلى الوراء در؟

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  أساطير أميركا.. بين ليبرالية الشمال وعبودية الجنوب