القضاء والتحولات المرحلية في العالم.. ولبنان (2)

يتكثف طرح استقلالية القضاء في لبنان منذ حراك 17 تشرين في ظل متغيرين اثنين: داخلي يتمثل بحرب داخلية بدأت منذ نصف قرن خلخلت الانتظام في البلد، ومن ضمنه القضاء، وخارجي تمثل بتحولات في النظام العالمي، اقتصاداً وسياسةً واجتماعاً، منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، تفاقمت في مطلع الألفية الثالثة وأصابت شظاياها القضاء. في الجزء الأول من هذه الدراسة تم التركيز على عدد من المفاهيم والأبعاد وفي الجزء الثاني نتناول التحولات بكل أبعادها وتأثيراتها.

أ. خصائص الأزمة

 يمكن اعتبار تسعينيات القرن العشرين هي بدء التحول المفضي إلى الأزمة الراهنة، من دون أن يكون مقطوع الصلة بما قبله ويتمثل بـ:

  • التحول في بنية النظام الاقتصادي العالمي بانتقال الإنتاج من المصنع ذي الوحدات والإدارة المساهمة إلى المصنع ذي الوحدات المتنوعة والشركة متعددة الجنسيات والعابرة للدول.
  • تفكك الكتلة السوفياتية ومعه الاقتصاد الموجه، والذي أدى الى إحكام الشركات آنفة الذكر السيطرة على الاقتصاد العالمي، إنتاجاً ومنطقاً. وتربع الدول المسيطرة فيه، وبخاصة الولايات المتحدة، على النظام السياسي العالمي الذي أصبح واحداً وعمم سياساته ومنطقه.
  • التطور التكنولوجي المتسارع، وبخاصة في وسائل الاتصالات، الذي تناغم مع النظامين، الاقتصادي والسياسي، في خرقهما للحدود والمؤسسات وحتى لخصوصيات الفرد.
  • تناغم هذه التحولات العالمية مع أزمة في لبنان غير منفصلة عن اختمارها، وتحمل نكهة عربية وقوامها اندلاع الحرب في لبنان، تلك الحرب التي حملت في مراحلها الأخيرة طابع الحرب الأهلية، وعبرت في بدايتها عن صراع الكتلتين العالميتين على مواقع في المنطقة وعنوانه المعلن القضية الفلسطينية، والمفضي – وتناول عوامله ومراحله خارج موضوع البحث- إلى تفكك الدولة وتهلهل مؤسساتها، بما فيها القضائية.

تتقاطع إذاً الأزمات النظامية المختلفة سواء بطبيعتها المحلية أو الدولية مع التحول الأساس الذي طرأ على العالم عقب سقوط الاتحاد السوفياتي، وبروز القطب الواحد في إدارة المجتمع الدولي ضمن توجه عالمي. يتميز هذا التحول بعناصر أساسية مستجدة اتسعت قدرتها على التأثير، وإن لم تكن طارئة على التفاعل المؤسساتي السابق للعولمة. وشكل التحول الرقمي مفتاحاً جديداً أدى إلى وضوح الأزمة وتعطيل كامل للنظام أو للانتظام نظراً لارتباطه بالقوى والمصالح والأدوار التي تبلورت مع العولمة؛ فأمام تعدد الأطراف وتنوع العناصر الفاعلة واختلاف المصالح ودورها على المجتمعات المحلية، لم تعد الدولة بمكوناتها التقليدية، والأنظمة بطبيعتها الديموقراطية الليبرالية، قادرة على تحقيق الانتظام والعدالة لمختلف الفئات الاجتماعية. إذ أصبحنا أمام أدوار لفاعلين ولمصالح ولقوى تبحث عن تثبيت موقعها في الإدارة الجديدة.

أصبح القضاء أمام تحدي الاستقلال عن السلطات السياسية كما كانت الحال عند انبثاق نظرية القانون الوضعي، والاستقلال عن المصالح الاقتصادية، وتجاوزه مصالحه الفردية التي تشكل التحدي الأبرز في أخلاقيات أدائه وسلوكه

ب‌. التحولات البنيوية

  • تفكك الدول في المشرق العربي:

السياسات التي طُرِحَت منذ بداية القرن الحالي، والتي أدخلت أطراً جديدة لإدارة المجتمعات، وانتهت بموجة عنف بلغت حد الإبادة بهدف إعادة تكوين هذه الأطر وإعادة فرز الكيانات. تحدثت هذه السياسات عن “الشرق الأوسط الجديد” بما يكتنفه من تهديد للدول المكوّنة في منطقتنا ومنها لبنان، و”الفوضى الخلّاقة” بما تشمله من حقوق وحريات تفلتت من الضوابط القانونية التقليدية التي كانت ثابتة. أدى هذا التحول في مقاربة السياسات الدولية للمنطقة إلى تفكك الدول في المشرق العربي تحت عناوين مختلفة والذي كانت بدايته في لبنان.

ساهمت هذه السياسات في انتاج حراك سياسي محلي تحت عناوين مختلفة أدت إلى مواجهات متعددة، لعل أبرزها الحراك القائم على مبادئ حقوق الإنسان في مواجهة بين أبعاد الحرية الفردية ومعايير العدالة الاجتماعية، وسيادة الدول مقابل الحق في المقاومة، والشرعية الدولية في مواجهة الشرعية الشعبية وحق الشعوب في تقرير مصيرها. هذه الطروحات أظهرت تناقضاً، على مستوى المنطقة والعالم، بين الحراك الشعبي أو نبضه وتوجه الحكومات. وأخذت الدراسات العلمية التي تتبنى مواجهة الاستعمار وقضايا التحرر الوطني تستعيد وهجها في العديد من مراكز الدراسات حول العالم. لم ينفِ طرح هذه الإشكاليات في الحراك السياسي من المحافظة على أدوات الحراك السياسي التقليدي المبني على الأحزاب والنقابات التي اختلطت أوراق برامجها أمام التحديات المستجدة.

  • أزمات دستورية:

وصلت هذه السياسات إلى حد ظهور أزمات سياسية نظامية دستورية حتى في الدول التي استقرت في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى ضمن ما عرف بالأنظمة الديموقراطية المبنية على الليبرالية الغربية. فأصبحت أركان الدولة عرضة للتغيير سواء في حدودها الجغرافية مع بروز المنحى التوسعي في سياسات الدول الأقوى، أو التفتيتي في الدول التي وقعت تحت أزمات كبرى، والشعب لم يعد منصهراً ضمن قيم مشتركة منبثقة عن تطور تاريخي وحضاري. فمع السياسات الجديدة نجد أن التوجهات العالمية تفترض المواطنين والمقيمين في ظل سلطة الدولة، إضافة إلى واقع العالم الرقمي وتأثيره ودور الكيانات الاقتصادية العابرة للحدود كطرف فاعل في الاجتماع والاقتصاد. وأصبحت السيادة مفتوحة على تدخلات متعددة ليس فقط بطابعها العسكري، بل دخلت كل العوامل المذكورة كمؤثر أساسي في سيادة الدول

  • الخرق الاقتصادي لسيادة الدولة أو التحول نحو النيوليبرالية:

برز بشكل خاص تحول في طبيعة الاقتصاد السياسي من الليبرالية إلى النيوليبرالية مع ما يتضمنه هذا الواقع من أدوار فاعلة للقوى الاقتصادية العالمية العابرة للحدود على السلطات السياسية المحلية. هذه السلطات التي يفترض أنها تشكل مصدراً للقوانين لم يعد أمامها سوى القبول بشروط هذه القوى لتحسين واقعها الاقتصادي والمحافظة و/أو استعادة الاستقرار والانتظام. يتجلى هذا الخضوع لشروط القوى العالمية في الدول التي تعيش أزمات اقتصادية جذرية ناتجة عن فشل مؤسساتي في إدارة المرحلة السابقة التي كان يفترض أن تشكل أساساً لبناء دولة القانون والمؤسسات.

  • تبدل جذري في وسائل انتاج السلطة:

انعكست هذه التحولات البنيوية على طبيعة العلاقة بين المجتمع والسلطات التمثيلية ودورها في حكم الدولة. إذ برز تحول في مقاربة التمثيل السياسي وبالتالي في طبيعة مكونات السلطات التمثيلية. تغيّرت إذاً نظرية التمثيل في الأنظمة الديموقراطية مع ضعف أداء وأدوار الأحزاب السياسية لمصلحة نظرية تمثيل الأطراف المعنية، أو الفئات الفاعلة التي أصبحت ركيزة للديموقراطيات في منظورها الجديد (stakholders theory – théorie des parties prenantes).

  • دخول الحوكمة كبديل عن حكم السلطات:

دخلت إذاً مفاهيم جديدة مرتبطة بطبيعة النظم الحاكمة وأدواتها منبثقة عن النظريات الاقتصادية وآلية إدارة الشركات الكبرى، عرفت بالحوكمة والشراكة بين العام (أجهزة الدولة) والخاص (المصالح الاقتصادية) والمجتمع المدني بما يعكس أدواراً جديدة فاعلة لم تكن أطرافاً معلنة في عملية اتخاذ القرار في الحقبة السابقة.

نذكر أن طرفين أساسيين “لا دولتيين”، أي غير رسميين، أصبحا فاعلَيْن في عملية اتخاذ القرار السياسي، ومن خلفه القانوني، هما المصالح الاقتصادية (الشركات الاقتصادية الخارقة للدول) من جهة، والمنظمات غير الحكومية من جهة ثانية. ونشير في هذا التحديد إلى التداخل بين المحلي والدولي والعالمي على مستوى هذين الطرفين، بينما تنحصر العلاقة محلياً بالدولة -الفاعل الرسمي- التي وجدت نفسها تحت وطأة المصالح الدولية من جهة والعالمية من جهة ثانية، تحت مظلة الشرعية الدولية. فأصبحت الدولة، بطبيعتها الكيان الافتراضي الضامن لاستقرار المجتمع، هي المتأثر وليس المؤثر في هذه التحولات، وبقي القضاء هو الطرف المفترض أنه الحامي للانتظام الاجتماعي. فارتبط دور الحماية بالسلطة القضائية التي يفترض أنها مستقلة عن مختلف تلك المصالح المؤثرة، واللاعبة الواقعية في مصالح الأفراد.

أثرت هذه التحولات على التشريعات القانونية وعلى القضاء ودوره وأدائه، وبالتالي على معنى استقلاليته وأبعادها، التي تتجلى في تفعيل دوره المستجد على وقع التغير في موازين القوى، لاستعادة التوازن في ميزان العدالة.

تمثل ذلك التحول على المستوى القانوني بنشوء أوضاع جديدة في مختلف المجالات لا تغطيها القوانين السائدة، وأبرزها:

– دخول السوق الرديفة للأسواق الوطنية والسوق الدولي، بقيام السوق العالمي الذي تتعامل الشركات الكبرى فيه مع فروعها الخارجية ومع الشركات المحلية، خارج الأطر السيادية للدولة؛ وهذا يعني نتيجتين: فراغ نصي وعملي في آليات ضبط التنازع بين الناس من جهة، وحضور احتكام خارج الدولة وقوانينها، استحدثتها الشركات من جهة ثانية. بدأ هذا الاحتكام داخل صلاحيات الشركات مستندة في ذلك على مبدأ حرية التعاقد، واتسع هذا الامر في ما يتجاوز النزاع بينها إلى كل القضايا، بطرح الحوكمة كأيديولولوجيا بديلة للقانون وبالتالي بديلة للدولة.

– جنوح هذا الخروج عن القانون والدعوة الى الحوكمة، في دول الأطراف ومنها لبنان وبلادنا العربية، إلى العودة إلى الأعراف القبلية والدينية.

-إضعاف رعاية الدولة التي حققها نضال العمال والمستخدمين على مدار قرن من الزمن لصالح تشجيع شركات التأمين الرأسمالية في دول المركز والعودة للتضامن الأهلي في الأطراف.

  • في مرحلة تتميز بالمرونة، على القضاء أن يُفعِّل دوره في استنباط الأدوات الكفيلة بحماية المجتمع، ضمن الهوامش المتاحة بموجب القوانين الوضعية. فقد أصبح هو السلطة الأبرز لتفعيل حكم القانون وضمان الديموقراطية في دولة متجهة لتصبح دولة العدالة – وفق المنطق المرجو – بدل دولة الرعاية

ت. التحولات القانونية

  • أدى هذا التحول السياسي والسياسي – الاقتصادي إلى الدخول في مرحلة قانونية جديدة تميزت بالقوانين المرتبطة بالمنافسة وحماية المستهلك والتي شكلت ركائز للنظام العام الاجتماعي بدلاً من النمط القانوني التقليدي الذي بني على حماية الفئات العاملة ودور المرافق العامة في حماية المواطنين. في مقابل هذا التوجه المرتبط بحماية السوق وضبطه برزت جرائم الفساد والتهرب الضريبي وتبييض الأموال كنموذج يعكس مخاطر مستجدة. اتخذت التوجهات العالمية أبعاداً، منها المشروعة في ملاحقة الأموال القذرة ومنها أداة دولية للضغط على المجتمعات المحلية والدول الضعيفة. واكب هذا التحول نموذج العقوبات الاقتصادية الصادرة عن قوة الدولة الأميركية في العالم، وارتباطها بالمصالح المعروفة بالدولة العميقة، التي تساهم في ضبط إيقاع المصالح السياسية الاقتصادية، الدولية والمحلية، على حساب انتظام المجتمع واستقراره وعدالة أنظمته.
  • لم تعد عناصر التشريع والردع والعقوبة محصورة بالدولة وسلطاتها الدستورية، بل أصبحت قواعد السوق والتوازن المنبثق عنها هي الحكم. وفرضت هذه القواعد مبادئ التوافق والرقابة الاجتماعية والعقوبات المتعلقة بالسمعة، سواء الاجتماعية والتجارية، كأحد أهم أدوات المجتمع، وتبلور هذا النمط في ممارسات العالم الرقمي. فقدت الدولة حصرية الأدوار التي قامت على أساسها في فرض القواعد ضمن القوانين أو في إنفاذها أو في طرق المعاقبة على مخالفتها. لذلك يشكل “حكم القانون” التحدي الأبرز لضبط هذه الأدوار المختلفة التي لم يعد ممكناً مقاربتها وفق المنطق التقليدي.
  • ارتبطت الحوكمة وقواعدها بعوامل متعددة، إذ إضافة إلى مقاربتها المعاصرة المعروفة بالحوكمة التشاركية، بنيت الحوكمة على “حكم القانون” باعتباره المحور الأساس لضمان الاستقرار. يشي هذا المفهوم بتحولين محوريين هما: أولاً خروج الحكم عن دور الدولة وارتباطه بالقانون، فتحولت الدولة من سلطة حاكمة إلى طرف في الحكم. ثانياً؛ يشكل حكم القانون مفهوماً منبثقاً عن نظرية القانون الوضعي بطبيعته الإنكليزية المرنة، التي كانت منافسة للقانون الوضعي بطبيعته الفرنسية المكتوبة، والذي تطور مع المدرسة الواقعية الأميركية. فرضت هذه الأخيرة تطوراً يعتمد على تداخل بين العلوم القانونية وغيرها من العلوم الاجتماعية والتقنية الأخرى. فمع التحولات المختلفة، أخذ حكم القانون بعداً واقعياً مرتبطاً بشكل مركزي بدور القضاء الذي يفترض أن يواكب حاجات الواقع وضروراته. وبذلك أصبح القضاء هو الجهة المحورية في ضبط التوازنات التي تطرأ بفعل التغيرات المستجدة، وركيزة أساسية لتفعيل حكم القانون، وتجاوز بذلك أدوار السلطات الدستورية الأخرى.
  • ارتبط حكم القانون بطبيعته المرنة والواقعية بعامل ثقافة القانون في المجتمع، وهنا يبرز التحدي الرئيس في الدول التي لم تُبْنَ على أساس ثقافة القانون، والتي لم تكن خلال مرحلة ثبات القانون الوضعي التقليدي علاقة ثقة بين المجتمع والقانون والقضاء. فيبرز بفعل هذا الواقع تحدٍ إضافي أمام القضاء في لعب دور الضامن والرابط المحوري لعناصر الاستقرار.
  • وفي بعد آخر، ارتبط النظام القائم على الحوكمة، ومن ضمنها حكم القانون، بأبعاد التنمية المستدامة التي ربطت دور الدولة بالمؤسسات القوية الأمنية والقضائية. وإذا كانت الدول التي عاشت حقبة الديموقراطية، بُنِيت على انبثاق القوانين عن سلطات تمثيلية وعن رقابة قضائية فاعلة، فإن هذه الحقبة ساهمت في انتاج رابط الثقة بين مكونات الدولة من شعب وسلطات على أساس القوانين، وعلاقة تناغم بين المجتمع والقانون. إلا أنّ الدول التي لم تؤسَّس ثقافة قانونية في مجتمعاتها تواجه مخاطر الانزلاق نحو الدولة الأمنية –البوليسية، بما يعنيه من تحول القضاء من سلطة ضامنة للانتظام والعدالة إلى سلطة معنية بالعقاب والملاحقة. هذا الدور سيصبّ لمصلحة الجهات الحاكمة الفعلية بطبيعتيها السياسية والاقتصادية، أسوة بما كانت عليه الحال قبل دولة الرعاية. فتعود السلطات الدستورية في خدمة الثروات الحاكمة ويخضع هذا الواقع للنقد الذي واجهته النظرية الوضعية ويسمح للمجتمع والدولة بالخضوع لحكم التكنوقراط كمديري الثروات.
  • بموجب هذه التغيرات، تحول الإنسان الفرد من مواطن في كنف الدولة المعنية بحمايته إلى مستهلك في السوق سواء مستهلك للمنتجات أو الخدمات ومن ضمنها تلك التي كانت محمية ومكفولة بموجب صلاحيات الدولة الراعية. وأصبح هذا الإنسان الفرد متنافساً مع أفراد آخرين في حقوقهم المحمية أيضاً، وهم الأشخاص المعنويون. ولم يعد ممكناً منافستهم في واجباتهم نظراً لطبيعتهم وقدرتهم على التبدل والتحور في ظل ما عُرِف بالحريات الاقتصادية.
  • يظهر حالياً منافسٌ جديدٌ للفرد في المجتمع وللفاعلين المختلفين وأدوارهم أكثر خطورة من الكيانات الافتراضية المقوننة المتمثلة بالأشخاص المعنويين أو الشركات، هو الذكاء الاصطناعي. ويشكل الذكاء الاصطناعي تحدياً أمام دور القاضي الوظيفي نظراً لما يكتنفه من إمكانية لتفعيل مرفق العدالة في تقديم الحلول للنزاعات وسرعة بتّها ويتجسد الخطر الأساسي في قدرته على التحكم بكل ما كان مرتبطاً بسيادة الدولة ومفاصل عملها، والذي أصبح متحرراً حتى عن قدرة التدخل به. هذا الذكاء الذي “يسعى” لاكتساب صفة الشخص القانوني في النظرية القانونية المستجدة بعيداً عن وصفه بالآلة بموجب التصنيف القانوني الحالي.
  • استبدلت الحوكمة بما تقوم عليه من توازن بين أصحاب المصالح المختلفة على أساس المفاوضة والمساومة، مفهوم النظام العام بما يعنيه من حماية المصالح العامة بمفهوم المصلحة المشتركة وإدارتها. فانفصلت الأسس القانونية التي قامت عليها القوانين في دولنا والمتأثرة بالنظامين الأوروبي والإسلامي عن مضمون القواعد الفاعلة المنبثقة عن مفاهيم النظام القانوني الأنكلوسكسوني. وتبنى الخطاب العام في السياسات العامة هذا المصطلح “المصلحة المشتركة” أو ما عرف بالـCommons أو les biens communs والذي يعني في القانون الأموال المشتركة دوناً عن الخير العام. وأصبحت القيم العليا المتمثلة بالعدالة Un bien commun.
  • وبحثاً عن التوازن في إطار الحوكمة، طرح الدور الاجتماعي للمصالح الخاصة ضمن ما عرف بالمسؤولية الاجتماعية للشركات. أصبحت هذه المسؤولية المنبثقة عن قواعد أخلاقية، دون القيمة القانوني، معياراً لتقدير مدى أخلاقيات الإدارة. وبموجب هذا الدور، توجه البحث في تحقيق المصلحة الجماعية كهدف أسمى من المصلحة المشتركة، بما يضمره هذا التوجه من النظر إلى المجتمع بوصفه جماعات مختلفة ترتبط بهذه المصالح. وابتعدت مقاربة المجتمع ككتلة شعبية واحدة. وهذا ما يتقاطع مع نظرية الأطراف المعنية من جهة والنظر إلى المجتمع بوصفه مصدراً لتعظيم ربح المشاريع الاقتصادية من جهة أخرى.
  • تدخل حماية النظام العام أو المصلحة العامة للمجتمع باعتباره كتلة واحدة تظللها قيم عامة ضمن دور الدولة بسلطاتها الدستورية، وضمن دور القضاء بوصفه سلطة دستورية، وناطقاً باسم الشعب وباحثاً عن العدالة.
  • كما تبلور في نظام الدول الواقعة في الأزمات العنيفة انحيازٌ واضحٌ من المؤسسات ذات الطبيعة السياسية عن قضايا المجتمعات وحقوق الإنسان، سواء على المستوى الدولي أو المحلي. وأصبح الأمل الوحيد من خلال الركون أو انتظار دور ما من القضاء كمرجعية أساسية لاستعادة التوازن في تطبيق القانون وحماية هذه المجتمعات.
  • وإذا كان علم القانون مبنياً على تطبيقه من خلال التوازن بين السلطات الدستورية الثلاث، إلا أن أحد العناصر المحورية في السياسات المعاصرة مبني على تفعيل القانون، وهي تعكس تفاعلاً وتناغماً بين الأطراف المعنية المختلفة. وتبرز التحديات بشكل خاص في الدول التي تتبنى القانون الوضعي وفقاً للنموذج الفرنسي المتميز بطبيعته المكتوبة التي تتيح هامشاً ضيقاً للقضاء في استصدار القواعد. ففي مرحلة تتميز بالمرونة، على القضاء أن يُفعِّل دوره في استنباط الأدوات الكفيلة بحماية المجتمع، ضمن الهوامش المتاحة بموجب القوانين الوضعية. فقد أصبح هو السلطة الأبرز لتفعيل حكم القانون وضمان الديموقراطية في دولة متجهة لتصبح دولة العدالة – وفق المنطق المرجو – بدل دولة الرعاية.
  • في هذا السياق، برزت أهمية دور القضاء بصفته سلطة دستورية ضامنة من جهة، ودور القضاة الأفراد في عملهم لاستعادة التوازن بين مختلف هذه المصالح التي فقدت توازنها من جهة ثانية. لذلك شكل معيار استقلالية القضاء ركيزة وتحدياً لتفعيل دوره أمام مختلف الأدوار المنوطة بالجهات والمصالح المتضاربة.

أمام التشابك والتداخل بين أصحاب الحقوق وأصحاب المصالح وأصحاب القوة، وأمام منطق المنافسة وقواعد السوق، يقف القاضي على التقاطع ليفرض دوره من خلال أداء جديد وضرورة مستجدة. فلم يعد يكفي أن يحكم القاضي بموجب نص قانوني جامد وربما ناقص، وإنما أصبح أمام ضرورة الضبط وتكييف مجموعة لامتناهية من المصالح المتنافسة، والتكيّف مع المتغيرات المتسارعة والمستجدة، ومعها الحاجات المتعلقة بالنزاعات المطروحة أمامه

تتشابه أزمات فاعلية القانون سواء على الصعيد الدولي، كما هي حال القانون الدولي الإنساني أو القانون الدولي العام، وعلى الصعيد المحلي (لبنان نموذجاً). والفاعلية لا تعني بالضرورة تطبيقاً شكلياً للقانون الذي أصبح خاضعاً لتأويلات وتفسيرات يسعى كل طرف من أطراف النزاع أو الصراع إلى إعطائه المعنى المناسب لمصلحته. وعلى وقع التجاذبات السياسية المبنية على القوة، وضعف الاحتكام الإرادي إلى القانون، يتجمد الزمن بانتظار موقف القضاء، الدولي في القضايا الدولية أو المحلي في القضايا المحلية، لبتّ الإشكاليات المفصلية العالقة أمامه. وبذلك برزت أهمية دور القضاء أمام شلل الدور السياسي – بسلطاته التمثيلية – في اتخاذ القرارات المناسبة لوضع حد للأزمات.

إقرأ على موقع 180  للنائب أن يحاسب وزيراً أو مديراً عاماً لا أن يتحول مخبراً

كل تلك العوامل دخلت أيضاً كضرورة في دور القاضي في تحقيق غايته، واستعادة التوازنات بين المصالح المختلفة المتضاربة، وبين المتغيرات في آليات عمل السلطات الدستورية الواقعية، وبين تحديات الفردية في مجتمع ما بعد الحداثة التي تدخل أيضاً في صلب أدائه. بموجب ذلك، أصبح القضاء أمام تحدي الاستقلال عن السلطات السياسية كما كانت الحال عند انبثاق نظرية القانون الوضعي، والاستقلال عن المصالح الاقتصادية، وتجاوزه مصالحه الفردية التي تشكل التحدي الأبرز في أخلاقيات أدائه وسلوكه.

من هنا تنبثق ضرورة الضمانات المقدمة في التنظيم السياسي المؤسساتي للدولة لحماية القاضي من الحاجة من جهة ومن مخاطر شخصنة القضاء في نظر المجتمع وعالم التواصل الاجتماعي في تحميله المسؤولية الفردية عن أدائه المهني.

فأمام التشابك والتداخل بين أصحاب الحقوق وأصحاب المصالح وأصحاب القوة، وأمام منطق المنافسة وقواعد السوق، يقف القاضي على التقاطع ليفرض دوره من خلال أداء جديد وضرورة مستجدة. فلم يعد يكفي أن يحكم القاضي بموجب نص قانوني جامد وربما ناقص، وإنما أصبح أمام ضرورة الضبط وتكييف مجموعة لامتناهية من المصالح المتنافسة، والتكيّف مع المتغيرات المتسارعة والمستجدة، ومعها الحاجات المتعلقة بالنزاعات المطروحة أمامه.

وبرغم كون القضاء سلطة دستورية غير سياسية، إلا أن دوره كسلطة حاكمة يخضع لطبيعة نظام الحكم ويتأثر بتغيراته وتوازناته.

 الاستنتاجات المذكورة تحت عنوان التحولات تشكل خلاصات للعديد من الدراسات الواردة في المراجع التالية:

Un droit positif un droit de progrès, Mélanges en l’honneur de Corine SAINT-ALARY-HOUIN, LGDJ-Lextenso, 2020; Actes du colloque Vive la loi, Sénat/Paris II, 2004.Colloque organisé à l’initiative du Sénat, le 5 mai 2004, Palais du Luxembourg, Paris ; Soft law et droit fondamentaux, actes de colloque de Grenoble, CRJ, 4 et 5 février 2016, sous la direction de Mihaela Anca Alincai, la Pedone, Paris 2017 ; Pascal MBONGO et Russell L. WEAVER (dir.) Le droit américain dans la pensée juridique française contemporaine. Entre américanophobie et américanophilie, éd. Institut universitaire Varenne, 2013 ; Francois OST (dir.), Le rôle du juge dans la cité, les cahiers de l’Institut d’études sur la justice, Bruylant, Bruxelles 2002 ; Le juge et le droit de l’économie, Mélanges Pierre BEZARD, Petites affiches Montchrestien, 2002 ; Justice et droit fondamentaux, Etudes offertes à J. NORMAND, Litec, 2003 ; L’ordre public à la fin du XXe sciècle, avec la coordination du Th. RIVET, éd. Dalloz, Paris, 1996 ; L’ةtat de droit,  Mélanges en l’honneur de Guy BRAIBANT, Dalloz 1996, Paris ; Le juge entre deux millénaires, mélanges offert à Pierre DRAI, Dalloz, 2000 ; GRANDJEAN Geoffrey, Pouvoir politique et audace des juges, Approche européenne et comparée, Bruylant, 2018 ; W. ABBOTT, Kenneth and SNIDAL, Duncan. “Hard and soft law in international Governance”. International Organization. 54. 3. (2000); Frédéric ROUVILLOIS, « l’efficacité des normes, Réflexions sur l’émergence d’un nouvel impératif juridique », fondation pour l’innovation politique, 2006, L’efficacité des normes (fondapol.org)

-عزة الحاج سليمان وعزة شرارة بيضون، نساء لبنان في سلك القضاء: تعزيز السائد وإهمال الهوامش، ط. 1، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2023.

-عزة الحاج سليمان، مشروع “حقوق المرأة الإنسانية: علامات مضيئة في أحكام القضاء العربي لعام 2020″، الدراسة الخاصة بدولة لبنان، منظمة المرأة العربية.

(*) راجع الجزء الأول: استقلالية القضاء في لبنان.. ضرورات وتحديات (1)

Print Friendly, PDF & Email
عزة الحاج سليمان

أستاذة في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، بيروت

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  قضاؤنا وقدرنا و.. الملكة إليزابيث!