رؤية إسرائيل لاقتراب “لحظة الحسم” مع إيران: تسوية نووية أم مواجهة عسكرية؟

Avatar18009/05/2025
نشر الباحثان في "معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي" تامير هايمن وراز تسيمت دراسة تضمنت رؤية تنطلق من مبدأ استراتيجي هو منع امتلاك إيران السلاح النووي، وبالتالي ما هي فرص الخيارات السياسية والعسكرية.. في ما يلي النص الكامل للدراسة التي نشرها معهد دراسات الأمن القومي وترجمتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية إلى العربية:

إن المحادثات التي بدأت في نيسان/أبريل 2025، بوساطة عُمانية، بين وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي والمبعوث الخاص للرئيس الأميركي ستيف ويتكوف، تُقرّب إيران والولايات المتحدة وإسرائيل من لحظة الحسم بشأن مستقبل البرنامج النووي الإيراني. ستُحدد نتائج المفاوضات، إلى حدّ كبير، ما إذا كنا نتّجه نحو تسوية سياسية في المسألة النووية، أو نحو ضربة عسكرية – إسرائيلية، أميركية، أو مشتركة – ضد المنشآت النووية. في هذه المرحلة، يتّضح أن القيادة الإيرانية، برئاسة المرشد الأعلى علي الخامنئي، والإدارة الأميركية، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، تفضّلان حلاً سياسياً دبلوماسياً للمسألة النووية على مواجهة عسكرية يصعب التنبؤ بنتائجها وتبعاتها مسبقاً. وعلى الرغم من أن الرئيس ترامب لم يستبعد إمكان شنّ هجوم على المنشآت النووية، فإنه شدّد في مناسبات عديدة على أنه يفضّل الاستمرار في النهج الدبلوماسي والتوصل إلى حلّ سياسي مع طهران لمسألة البرنامج النووي، بشرط ألاّ يُسمح لها بتطوير سلاح نووي. لكن استئناف المفاوضات بين طهران وواشنطن، والتقدّم الذي تم التبليغ بشأنه في ختام الجولات الأولى من المحادثات، يُظهران وجود استعداد مبدئي من كلا الطرفين لتليين مواقفهما.

اضطر المرشد الإيراني علي الخامنئي إلى التراجع عن المعادلة التي طرحها في الأشهر الأخيرة: “لا حرب، ولا مفاوضات”. إن هذا التغيير في موقف الخامنئي الذي أبدى، حتى الآونة الأخيرة، تحفّظه عن إجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة، وشدّد على عبثيتها، يمكن أن يعود في المقام الأول إلى التهديد العسكري الجدي الذي وُضع أمام الجمهورية الإسلامية؛ لقد أدرك الخامنئي أن إيران عُرضة لهجوم عسكري، وأن احتمال تنفيذه، والذي كان في السابق ضئيلاً جداً، ارتفع بشكل ملحوظ، وذلك بسبب صعوبة التنبؤ بسلوك الرئيس ترامب، ولأن القيود التي تفرضها الإدارة الأميركية على إسرائيل أصبحت في موضع شك.

إن ازدياد التهديدات من مسؤولين أميركيين وإسرائيليين، بمن فيهم الرئيس ترامب، باستخدام الخيار العسكري ضد إيران، والتعزيز الكبير للقوات الأميركية في الشرق الأوسط، ونقل الأسلحة الأميركية إلى إسرائيل، والمناورات العسكرية المشتركة بين إسرائيل والولايات المتحدة، والحملة العسكرية ضد الحوثيين في اليمن، وتحييد قدرات حزب الله الذي تم بناؤه كذراع ردع وردّ إيرانية ضد إسرائيل، أمور كلها زادت في مخاوف طهران من احتمال وقوع هجوم عسكري.

يأتي ذلك في وقت تواجه إيران تحديات أمنية كبيرة، على خلفية الهجوم الإسرائيلي في 26 تشرين الأول/أكتوبر 2024، والذي ألحق أضراراً جسيمة بمنظومة الدفاع الجوي وقدرات إنتاج الصواريخ الباليستية، فضلاً عن الضعف غير المسبوق للمحور الموالي لإيران في المنطقة، نتيجة الضربات التي تلقاها وكلاؤها وشركاؤها في لبنان، والساحة الفلسطينية، واليمن، وانهيار نظام الأسد في سورية.

في الوقت نفسه، تعكس تصريحات صادرة عن كبار المسؤولين الأميركيين، بمن فيهم ويتكوف، والتقدّم في المفاوضات، استعداداً من الإدارة الأميركية للاعتراف بحق إيران في الحفاظ على قدرات في مجال تخصيب اليورانيوم، والاستمرار في تخصيب اليورانيوم إلى مستوى منخفض يبلغ 3.67%، حسبما سُمح لها، بموجب الاتفاق النووي لسنة 2015، المعروف بـ(JCPOA)، والاكتفاء بفرض قيود كبيرة على البرنامج النووي تحول دون تمكّن إيران من إنتاج سلاح نووي، وإن لم تشمل هذه القيود تفكيكاً كاملاً للبنية التحتية النووية (ما يُعرف بـ”النموذج الليبي”).

علاوةً على ذلك، تتركز التصريحات الأميركية، في معظمها، على البرنامج النووي فقط، من دون التطرق إلى قضايا أُخرى تتعلق بالتحدي الإيراني، مثل دعم إيران لـ”الإرهاب” ووكلائها الإقليميين، أو حتى برنامجها الصاروخي، وهي قضايا ترفض طهران مناقشتها بشدة.

على الرغم من التفضيل الأساسي لكلٍّ من طهران وواشنطن للتسوية السياسية على الخيار العسكري، فإن المفاوضات بينهما قد تنتهي بالفشل خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً، وذلك بسبب انعدام الثقة العميق بين الطرفين، وضيق هامش الوقت المخصص للتوصل إلى تسوية، والحاجة إلى جَسر فجوات كبيرة في عدد من القضايا الخلافية، سواء فيما يتعلق بالبرنامج النووي، أو بنظام العقوبات المفروضة على إيران.

يرتبط الجدول الزمني القصير بعدد من القيود الرئيسية: أولها، المهلة النهائية البالغة 60 يوماً التي وضعها الرئيس ترامب لاستكمال المفاوضات. حتى إذا بدأ العد التنازلي لهذه المهلة في اللقاء الأول بين ممثلي إيران والولايات المتحدة في عُمان (في 12 نيسان/أبريل 2025)، وحتى إذا أجّل الرئيس ترامب موعد انتهائها، فمن المشكوك فيه أن توافق الإدارة الأميركية على إطالة أمد المفاوضات فترة طويلة، ولا سيما في ظل استمرار التقدم الملحوظ في البرنامج النووي الإيراني.

علاوةً على ذلك، من المتوقع أن تنشر الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) في حزيران/يونيو 2025 تقريرها الفصلي بشأن حالة البرنامج النووي الإيراني، والذي يُتوقع أن يكون شاملاً ونقدياً للغاية تجاه إيران، التي لا تزال تخرق التزاماتها في إطار الاتفاق النووي لسنة 2015، وتواصل تمركُزها عند العتبة النووية. وخلال زيارته لطهران في منتصف نيسان/أبريل 2025، حذّر المدير العام للوكالة، رفائيل غروسي، من أن إيران غير بعيدة عن امتلاك سلاح نووي.

يُضاف إلى ذلك، أن مفعول آلية “سناب باك” (Snapback) ينتهي في 18 تشرين الأول/أكتوبر 2025، والتي تتيح إعادة فرض جميع العقوبات على إيران، بموجب قرار مجلس الأمن الرقم 2231، الصادر عن الأمم المتحدة. يتطلّب تفعيل هذه الآلية، الذي لا يشترط موافقة روسيا والصين، من الدول الموقّعة للاتفاق النووي الاستعداد لتفعيلها قبل نحو ثلاثة أشهر من هذا التاريخ، أي في موعد أقصاه تموز/يوليو 2025. وقد يؤدي تفعيل الآلية وإعادة ملف البرنامج النووي الإيراني إلى مجلس الأمن إلى انسحاب إيران من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT) وتصعيد إضافي كبير في التوترات. أمّا تأجيل موعد انتهاء مفعول الآلية، فيتطلّب إصدار قرار جديد في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهو مشروط، في الحد الأدنى، بإحراز تقدّم ملموس في المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة.

في ظلّ هذه الظروف، ستُحدد نتائج المحادثات بين طهران وواشنطن خلال الأسابيع القليلة المقبلة، ما إذا كانت هذه المحادثات تحمل في طياتها إمكان التقدّم نحو تسوية سياسية (اتفاق نووي جديد، أو اتفاق مرحلي على الأقل)، أم أنها ستؤدي إلى تصعيد قد يصل إلى حدّ الهجوم العسكري على إيران.

الهدف الاستراتيجي

كان منع امتلاك إيران السلاح النووي، ولا يزال الهدف المركزي في سبيل الحفاظ على الأمن القومي الإسرائيلي وتعزيزه، إذ لا يمكن لإسرائيل أن تقبل وجود سلاح نووي في أيدي نظام راديكالي يسعى لتدميرها. الخيارات المطروحة أمام إسرائيل لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي هي: اتفاق نووي، أو ضربة عسكرية، أو إسقاط النظام، ومن أجل تحقيق أقصى استفادة ممكنة من هذه البدائل الثلاثة، ومواجهة العيوب الكامنة في كلّ منها (كما سيتم تفصيلها لاحقاً)، هناك حاجة إلى غاية استراتيجية متكاملة جديدة، يمكن صوغها على النحو التالي: استخدام القوة العسكرية (سواء بالتهديد، أو بالفعل) من أجل دفع إيران إلى توقيع اتفاق يمنعها من تطوير سلاح نووي، مع الحفاظ على قدرة المجتمع الدولي وإسرائيل على مواصلة الحملة الشاملة، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، ضد إيران، والتي من شأنها أن تُضعف النظام الإسلامي، وتُقيّد نشاطاته الإقليمية الضارة، وتحدّ من قدراته الصاروخية.

من أجل تحقيق هذه الغاية المركّبة، يمكن اتباع ثلاثة مسارات عمل، يدمج كلٌّ منها عناصر تشمل الدبلوماسية، والقوة العسكرية، والضغط على النظام:

-مسار يرتكز على تسوية سياسية.

-مسار يرتكز على الخيار العسكري (سواء أكان ذلك من خلال عملية عسكرية إسرائيلية، أو عملية تقودها الولايات المتحدة).

-مسار مركّب: ضربة تحذيرية، بهدف الوصول إلى اتفاق.

سيناريو التسوية السياسية

إن التوصّل إلى اتفاق نووي أفضل من اتفاق سنة 2015 يتطلّب من المرشد الإيراني توقيعه في ظل شروط أشدّ قسوةً، ومع إدارة أميركية يقودها رئيس سبق له أن انسحب من الاتفاق النووي الأصلي، وأعاد فرض العقوبات على إيران. ولإجبار إيران على قبول اتفاق محسّن، هناك حاجة إلى تهديد عسكري موثوق به، يقنع القيادة الإيرانية بأن التهديد لا يطاول فقط برنامجها النووي، بل أيضاً بقاء النظام نفسه.

في ظلّ نافذة الفرص الحالية – التي تشمل الدعم الأميركي لإسرائيل، وضُعف إيران، وإمكان تنفيذ ضربة من دون الخوف الجدي من الانزلاق إلى حرب إقليمية (بينها زوال تهديد الرد من طرف حزب الله)، يمكن تفعيل تهديد عسكري موثوق به.

إن التباينات في المواقف بين إسرائيل (التي تُظهر عزماً على مهاجمة إيران) والولايات المتحدة (التي تصرّ على تسوية سياسية) قد تخدم الغاية الاستراتيجية، لأنها تولّد دافعاً مضاعفاً لدى إيران إلى تليين مواقفها، إذ تدرك قيادتها أن فشل المفاوضات سيمنح إسرائيل فرصة لتنفيذ نياتها الهجومية.

مع ذلك، فإن أيّ محاولة للتوصل إلى تسوية سياسية للبرنامج النووي الإيراني ضمن إطار المفاوضات الحالية، ستضطر إلى أخذ “الخطوط الحمراء” التي ستضعها طهران في الحسبان، وعلى رأسها الرفض القاطع لتفكيك كامل البنية التحتية النووية التي تمتلكها. وفي ظلّ هذا الوضع، ومع التقدّم الكبير الذي أحرزته إيران في مجالات تخصيب اليورانيوم والبحث والتطوير النووي، لن يكون في الإمكان العودة إلى “زمن الاختراق النووي” الذي تحقّق بموجب الاتفاق النووي لسنة 2015، والذي بلغ، قبل نحو عام، القدرة على إنتاج سلاح نووي.

حتى في حال قيام إيران “بالتراجع” عن معظم نشاطات التخصيب، وفرض قيود كبيرة في هذا المجال (مثل إنتاج أجهزة الطرد المركزي، وعدد الأجهزة المستخدمة، ونوع الأجهزة المثبتة في مواقع التخصيب، وكمية المواد الانشطارية المسموح لها بتخزينها)، فإن المعرفة والخبرة التي راكمتها ستتيح لها الوصول إلى السلاح النووي بسرعة أكبر من الماضي.

وبحسب تقديرات الخبير في الشؤون النووية ديفيد أولبرايت، رئيس “المعهد الأميركي للعلوم والأمن الدولي” (ISIS)، حتى إذا احتفظت إيران بأقلّ من 5% من مخزون اليورانيوم المخصّب الموجود لديها حالياً، فإنها، في حال عدم تدمير أجهزة الطرد المركزي المتقدمة التي تمتلكها (وليس فقط تفكيكها)، ستكون قادرة خلال 25 يوماً فقط على تخصيب كمية من اليورانيوم إلى مستوى عسكري (WGU) يكفي لصنع قنبلة واحدة، وفي إمكانها تخصيب كمية تكفي لصنع 4 قنابل نووية خلال شهرين.

وقد تؤدي تسوية سياسية، على الأقل في المدى القريب، إلى تعزيز النظام الإيراني، وذلك بفضل الامتيازات الاقتصادية الكبيرة التي ستحصل عليها طهران في إطار أيّ اتفاق مستقبلي. هذه الامتيازات ستقوّي إيران اقتصادياً وتعيد إدماجها في النظام العالمي، بما في ذلك مع دول الغرب. ومن المرجح أن تستغل إيران هذه الموارد الاقتصادية أيضاً لتعزيز قدراتها العسكرية، وتوسيع نشاطاتها الإقليمية المثيرة للجدل، وإعادة تأهيل المحور الموالي لها، على الرغم من أن التغييرات التي طرأت في المنطقة خلال الأشهر الأخيرة تصعّب كثيراً جهود إعادة تأهيله.

علاوةً على ذلك، كلما طُلب من إيران تقديم تنازلات أكثر وتوفير ضمانات أكبر ضمن الاتفاق، يمكن الافتراض أنها ستطالب هي أيضاً بضمانات وتخفيفات وحوافز اقتصادية كبيرة، مثل رفع العقوبات الأميركية الأولية (primary sanctions) ، وليس فقط العقوبات الثانوية (secondary sanctions). ولا يمكن استبعاد احتمال أن الرئيس ترامب، بخلاف الرؤساء السابقين، وبما أنه يرفع شأن النهج التجاري في العلاقات الدولية والدبلوماسية الاقتصادية، قد يكون مستعداً للنظر إلى ذلك بإيجابية.

إن تغيير النظام في إيران يُعدّ هدفاً مشروعاً، ليس فقط لإسرائيل والمنطقة والغرب، بل أيضاً لمواطني إيران أنفسهم. ويمكن التقدير أنه لا سبيل إلى تغيير سياسات النظام الإيراني الضارة، إلّا من خلال استبداله، لأن النظام الحالي لن يتراجع عن معتقداته الأيديولوجية، ولن يتخلى عن عدائه لإسرائيل والولايات المتحدة، ولا عن طموحه بشأن ترسيخ تدخُّله الإقليمي والتزود بالسلاح النووي. ومع ذلك، فإن تغيير النظام يعتمد في الأساس على عوامل خارجة عن سيطرة إسرائيل، ويخضع لمسار لا يمكن التنبؤ متى سيتم تفعيله.

سيناريو الهجوم العسكري

يحمل الهجوم العسكري على المنشآت النووية في إيران عدداً من المزايا المحتملة لإسرائيل (بشرط نجاح العملية):

أولاً، سيسمح هذا الهجوم بتحييد القدرات النووية وتدميرها بشكل جزئي، أو كامل، وخصوصاً في مجال تخصيب اليورانيوم (بما في ذلك البنية التحتية)، وربما أيضاً في مجال التسليح النووي (weaponization)، وهي أهداف من المشكوك فيه إمكان تحقيقها ضمن تسوية سياسية-دبلوماسية. قد يُتيح الهجوم لإسرائيل فرصة لضرب برنامج الصواريخ الإيراني، وهو أمر من غير المرجّح أن تتم معالجته ضمن أيّ تسوية مستقبلية.

ثانياً، قد يتيح تنفيذ هجوم عسكري في الوقت الراهن استغلال نافذة الفرص المحسنة والفريدة، في ظل نقاط الضعف التي تعاني جرّاءها إيران حالياً: سواء من حيث قدرات الدفاع الجوي وإنتاج الصواريخ التي تضررت في الهجوم الإسرائيلي في أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2024، أو من حيث ضعف المحور الموالي لإيران، وخصوصاً حزب الله الذي فقد، إلى حدّ كبير، قدرته على الرد الفعّال على هجوم إسرائيلي ضد إيران في الوقت الحالي. في هذه المرحلة، لا يبدو أن إيران ووكلاءها، وعلى رأسهم حزب الله، قادرون على استعادة القدرات العسكرية للمحور في المستقبل القريب، بشكل يتيح رداً ذا مغزى على ضربة إسرائيلية.

في المقابل، بمرور الوقت، قد تتمكن إيران من ترميم وتعزيز منظومات دفاعها الجوي، ومكوّنات إنتاج الصواريخ. وتشير تقارير من الأشهر الأخيرة إلى جهود إيرانية كبيرة لإعادة بناء وتحسين هذه المنظومات، بعضها بمساعدة صينية وروسية. ففي شباط/فبراير 2025، أفادت مصادر استخباراتية غربية بأن سفينة شحن صينية تحمل 1000 طن من نيترات بيركلورات الصوديوم، وهي مركّب كيميائي يُصنّع في الصين ويُستخدم كمكوّن رئيسي في إنتاج وقود الصواريخ الصلب، رست في ميناء بندر عباس الإيراني. وفي نهاية آذار/مارس 2025، وردت تقارير بشأن وصول سفينة شحن إيرانية يُشتبه في أنها تنقل مكونات صواريخ من الصين إلى ميناء بندر عباس. في الوقت نفسه، أُفيدَ مؤخراً ببذل جهود إيرانية، بعضها بمساعدة روسية، لإعادة بناء منظومات الدفاع الجوي التي تضررت جرّاء الهجوم الإسرائيلي.

ثالثاً، حتى لو لم يكن الهجوم العسكري قادراً على القضاء التام على البرنامج النووي الإيراني (كما سيتضح لاحقاً)، فقد يمهّد الطريق لاستئناف المفاوضات مع إيران بشأن تنظيم برنامجها النووي، بشروط محسّنة، من منظور إسرائيل والولايات المتحدة. علاوةً على ذلك، فإن تعطيل البرنامج النووي الإيراني بشكل ملموس (لعدة أشهر، أو حتى سنوات) قد تستغله الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لصوغ ترتيبات سياسية إقليمية وآليات أمنية تُساهم في المعركة المستقبلية ضد إيران، بما في ذلك على الجبهة النووية.

رابعاً، قد يتيح الهجوم العسكري على إيران كسب الوقت حتى تنضج عمليات تغيير سياسي داخلي فيها، أو على الأقل، حتى وفاة المرشد الأعلى علي الخامنئي، الذي يبلغ اليوم 86 عاماً، هذا الحدث قد يشكل فرصة لتعزيز عمليات تغيير جوهرية في الجمهورية الإسلامية. وما يُزعزع استقرار النظام ضربة عسكرية كبيرة، وخصوصاً إذا استهدفت البنى التحتية الوطنية والاقتصادية الحيوية.

مع ذلك، من الصعب تقدير تأثير الهجوم العسكري في استقرار النظام. ثمة مَن يرى، ومنهم من أشدّ منتقدي النظام، أن هجوماً إسرائيلياً على إيران قد يؤدي إلى التفاف الشعب الإيراني حول النظام وتعزيز تماسُكه الداخلي. ومع أن أزمة الشرعية التي يواجهها النظام الإيراني وتآكل الهوية الجماعية الإيرانية يثيران تساؤلات بشأن قدرة سلطات الجمهورية الإسلامية على حشد الشعب بكامل طاقته، حتى في أوقات الطوارئ والأزمات الوطنية، بما في ذلك التهديدات الخارجية، لكن لا يمكن الاستهانة بالروح الوطنية لدى المواطنين الإيرانيين الذين يمكن أن ينخرطوا في دعم النظام في حال تعرُّضه لهجوم عسكري، بل سيعزّزونه، على الأقل في المدى القريب.

قيود الخيار العسكري

على الرغم من المزايا الكامنة في توجيه ضربة عسكرية، فإنه لا بدّ من أخذ عدد من الاعتبارات الأساسية بعين الاعتبار، والتي تستوجب، في الحد الأدنى، طرح علامات استفهام بشأن فعالية وجدوى الخيار العسكري المحتمل:

أولاً، تنطوي المقولة الشائعة إن “الحرب هي مملكة عدم اليقين” على قدر كبير من الصحة، فإسرائيل قادرة على تنفيذ هجوم على إيران، ويمكنها التحرك منفردة، على الرغم من أن هذا يتطلب تنسيقاً مع الولايات المتحدة، ومن المرجّح أيضاً أن تتمكن، إلى حدّ كبير، من تحقيق الأهداف التكتيكية للعملية. إن أحد الدروس المستخلصة من الحملة التي خاضتها إسرائيل في صيف 2024 ضد حزب الله، هو ضرورة تجنّب التقليل من قدرات الجيش الإسرائيلي العملياتية، وفي المقابل، تجنّب المبالغة في تقدير قدرات العدو، سواء في الدفاع، أو في الهجوم. ومع ذلك، من المهم أيضاً الاعتراف بمحدوديات القوة، وعدم الانطلاق من النجاحات العملياتية التي حققتها إسرائيل في مواجهة “حماس” في قطاع غزة، أو حزب الله في لبنان، لتقدير قدراتها في تنفيذ عملية عسكرية في إيران، وهي دولة بعيدة عن إسرائيل جغرافياً، ومساحة أراضيها تبلغ 150 ضعف مساحة لبنان. ومن المرجّح أن يؤدي شنّ عملية عسكرية إلى تصعيد إقليمي، تكون عواقبه وتداعياته على إسرائيل والولايات المتحدة والمنطقة غير معروفة مسبقاً. لكن إذا لم تنجح الضربة العسكرية، بسبب ثغرات استخباراتية، أو إخفاقات وأعطال محتملة، قد تترك في يد إيران قدرات نووية مهمة، بل قد تؤدي إلى نتائج خطِرة، من ضمنها وقوع جنود في الأسر.

ثانياً، إن فعالية الضربة العسكرية، سواء أكانت إسرائيلية، أميركية، أو مشتركة، في تحقيق الهدف الاستراتيجي الأساسي، المتمثل في منع إيران من امتلاك سلاح نووي، ليست مضمونة سلفاً، فمن الصعب تقدير مدى الضرر الذي قد يلحق بالبرنامج النووي الإيراني من دون معرفة القدرات العملياتية، وأنواع وسائل القتال المتوفرة، وأساليب التنفيذ التي تنوي الجهات المهاجِمة اتّباعها. ومع ذلك، من الواضح أن هذه المهمة ستكون بالغة الصعوبة، نظراً إلى خصائص البرنامج النووي الإيراني الذي يتميز بالمرونة والتوزيع الجغرافي والتكرار والتحصين والحصانة، وربما أيضاً بالسرية، فضلاً عن التقدم الكبير الذي أحرزته إيران، بحيث أصبحت تقف على العتبة النووية.

وفي كل الأحوال، لا يمكن تدمير المعرفة والتكنولوجيا التي يملكها العلماء الإيرانيون، والتي ستتيح لهم إمكانات إعادة بناء البرنامج بعد الضربة العسكرية. يكفي وجود المئات من أجهزة الطرد المركزي، وكمية محدودة من المواد الانشطارية، وبنية تحتية صناعية محدودة، من المرجح أن ينجو بعضها من الضربة، أو يتم نقله إلى أماكن سرّية قبلها، لكي تتمكن إيران من استخدام قدراتها المتبقية بشكل سرّي، أو مخفي، وتشق طريقها نحو امتلاك سلاح نووي في فترة زمنية قصيرة نسبياً.

إن عملية بقيادة أميركية تُشكّل تهديداً نهائياً لإيران، وقد تُزعزع أيضاً استقرار النظام الإيراني. ومع ذلك، فإنها تشكل حملة مكلفة، وقد تؤدي إلى تصعيد غير مرغوب فيه، وخصوصاً من وجهة نظر الولايات المتحدة، التي تتركّز أولوياتها واهتماماتها على قضايا أُخرى حالياً، ولا سيما الشؤون الداخلية والمنافسة مع الصين. لذلك، ونظراً إلى تحفّظ الولايات المتحدة عن تنفيذ عملية عسكرية أميركية ضد إيران، قد تضطر إسرائيل إلى التحرك منفردة (وإن كان ذلك بالتنسيق مع واشنطن، وبالاعتماد على الدعم الأميركي في التصدي لرد محتمل من إيران). وهذا يعني أن هجوماً إسرائيلياً من هذا النوع سيؤدي، على الأرجح، إلى تأخير محدود فقط في برنامج إيران النووي.

إقرأ على موقع 180  "هآرتس": هجوم تل أبيب.. لا مركزية "الذئاب المنفردة"!

ثمة تقرير استخباراتي أميركي، على الرغم من أن استنتاجاته قابلة للنقاش بطبيعة الحال، قدّر مؤخراً أن الضربة الإسرائيلية لن تؤخر البرنامج النووي الإيراني إلّا عدة أشهر كحد أقصى. ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” في منتصف نيسان/أبريل 2025 يتناول الاتصالات بين الإدارة الأميركية ورئيس الحكومة الإسرائيلية بشأن ضرب منشآت نووية إيرانية، فإن الخطط التي طوّرتها إسرائيل، مؤخراً، لضرب المواقع النووية، تهدف إلى إعادة قدرة إيران على امتلاك سلاح نووي إلى الوراء أكثر من عام. مع ذلك، شدد التقرير نفسه على أن جميع هذه الخطط تقريباً تتطلب دعماً أميركياً، ليس فقط بشأن الدفاع ضد ردّ إيراني محتمل على إسرائيل، بل أيضاً في تقديم دعم عسكري مباشر في أثناء تنفيذ الهجوم. ووفقاً لِما وردَ في التقرير، اقترحت إسرائيل (في ظلّ عدم القدرة على إشراك قوات خاصة في الأشهر القريبة المقبلة) تنفيذ قصف مكثف للمنشآت النووية الإيرانية على مدى أسبوع كامل، بمساعدة أميركية، في موازاة التصدي لهجوم صاروخي واسع، وذلك من أجل إبعاد إيران أكثر من عام عن قدرة تطوير سلاح نووي.

علاوةً على ذلك، فإن ضربة عسكرية تهدف إلى كبح المشروع النووي الإيراني لن تكتفي – على الأرجح – باستهداف المنشآت النووية وحدها، بل ستتطلب حملة تشمل أيضاً ضرب قدرات وأهداف عسكرية أُخرى، بما في ذلك مواقع إنتاج وإطلاق الصواريخ الباليستية ومنظومات الدفاع الجوي. وبخلاف إسرائيل، تمتلك الولايات المتحدة قدرة محسّنة على العمل بعيداً عن حدودها، وبشكل متواصل، ولفترات زمنية ممتدة.

كما أن استهداف أهداف عسكرية مرتبطة ببرنامج الصواريخ، بل وأكثر من ذلك، ضرب البُنى التحتية الوطنية الحيوية لإيران، مثل منشآت النفط والطاقة، بهدف الإضرار باقتصادها وردعها عن الرد، سيستلزم بشكل خاص مشاركة أميركية، وربما حتى إقليمية، نظراً إلى اتساع نطاق الضربة وتعقيدها.

ومع ذلك، فإن مثل هذه الحملة يشكّل أيضاً، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، مغامرة تنطوي على خطر التصعيد، وقد تؤدي إلى تحويل الانتباه والموارد الأميركية من ساحات استراتيجية أُخرى، وعلى رأسها الصين، نحو الشرق الأوسط، وتورّطها في حملة عسكرية واسعة لا يمكن ضمان نتائجها مسبقاً.

ثالثاً، إن ضربة عسكرية ضد إيران ستؤدي إلى ردّ إيراني على إسرائيل، قد يتبع نمطاً مشابهاً، وربما أكثر خطورةً مما ظهر في الهجومين الإيرانيين على إسرائيل في نيسان/أبريل وتشرين الأول/أكتوبر 2024. وعلى الرغم من إمكان تقليص هذا التهديد في أثناء تنفيذ العملية العسكرية، عبر استهداف منظومات الصواريخ الباليستية الإيرانية، فإنه من المشكوك فيه أن يكون لدى إسرائيل، وبصورة خاصة في حال تنفيذ ضربة منفردة من دون مشاركة أميركية، القدرة على إزالة تهديد الصواريخ بالكامل، نظراً إلى المساحة الشاسعة لإيران، وحجم مشروع الأنفاق الواسع الذي يُستخدم لتخزين الصواريخ في أنحاء البلد.

رابعاً، قد تؤدي ضربة عسكرية (سواء أكانت إسرائيلية، أو أميركية) إلى دفع القيادة الإيرانية إلى الاستنتاج أن الردع الفعّال الوحيد في المستقبل لا يمكن تحقيقه إلّا من خلال امتلاك قدرة نووية، وبالتالي تشجيعها على المضي قدماً نحو تطوير سلاح نووي، أو أن تكون ذريعة لانسحابها من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT). وفي مثل هذا السيناريو، ستسعى إيران لإعادة بناء برنامجها النووي بأسرع ما يمكن، مع توزيع وإخفاء أصولها النووية في مواقع بديلة تحت الأرض، وفي منشآت مدنية. ومن المرجّح أن يتم ذلك من دون إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لأن إيران لن تسمح بعودة مفتشي الوكالة إلى أراضيها. في ظلّ هذه الظروف، فإن ضرب المنشآت النووية سيكون خطوة مرغوباً فيها، لكنها قد تمثّل فقط بداية حملة طويلة الأمد ضد إيران، وفي أفضل الأحوال، تنتهي باتفاق سياسي يضمن الإنجاز العسكري. وفي حال عدم التوصّل إلى مثل هذا الاتفاق، سيكون هناك حاجة، حتى بعد الضربة العسكرية، إلى حملة شاملة مستمرة ومتعددة الأبعاد، تجمع بين ضربات عسكرية مباشرة، وعمليات إحباط سرّية، بهدف منع أيّ محاولة اختراق إيرانية نحو امتلاك سلاح نووي. تتطلب الحملة من هذا النوع استخبارات عالية الجودة، تتيح استهداف مخزون اليورانيوم المخصّب والأصول النووية المخبّأة، فضلاً عن تفعيل قدرات عملياتية مستدامة.

تتطلب هذه الحملة تنسيقاً كاملاً وتعاوناً متواصلاً مع الولايات المتحدة، وهو تعاون لا يمكن ضمان استمراريته في المدى البعيد، في ظل تغيّرات سياسية محتملة في الولايات المتحدة خلال الأعوام المقبلة، أو تحولات في أولوياتها الاستراتيجية، مثل سيناريو تصعيد خطِر بين الولايات المتحدة والصين، قد يؤثر سلباً في قدرة واشنطن، أو استعدادها لمواصلة تقديم الدعم لإسرائيل.

بطبيعة الحال، يمكن محاولة ردع إيران عن اتخاذ قرار إعادة بناء برنامجها النووي، بعد تنفيذ ضربة عسكرية، من خلال التوضيح أن أيّ تحرّك من هذا النوع سيؤدي إلى استهداف البنى التحتية والأهداف العسكرية ورموز النظام، وهو ما قد يُعرّض استقرار النظام نفسه للخطر. مع ذلك، فإن القرار الإيراني في هذا الشأن سيعتمد على مجموعة من الاعتبارات، بينها تقدير طهران لقدرتها على إعادة بناء البرنامج النووي من دون أن يُكتشف هذا الجهد، وكذلك تقييمها مستوى إصرار إسرائيل والولايات المتحدة واستعدادهما لتكرار الضربات على مدى فترة زمنية طويلة.

هناك خيار آخر يتمثل في تنفيذ عملية عسكرية محدودة (إسرائيلية، أو أميركية) كجزء من استراتيجية التفاوض، سواء بعد وصول المفاوضات إلى طريق مسدودة، أو فشلها – ويكون هدفها دفع إيران إلى العودة إلى طاولة المفاوضات من خلال ممارسة ضغط عسكري محدود، مثل تدمير أحد المواقع النووية وجميع قدرات الدفاع الجوي المحيطة به.

في أعقاب هذه الضربة، ستكون إيران مطالَبة باتخاذ قرار: إمّا العودة إلى طاولة المفاوضات، أو الردّ بهجوم كبير، قد يهدد بقاء النظام ذاته. مثل هذا الهجوم المحدود قد يُساهم في تقليص خطر التصعيد الواسع، وبالتالي يُتيح تحديد المخاطر، ومع ذلك، من المشكوك فيه ما إذا كان تنفيذ هذا السيناريو سيقود فعلاً إلى استعداد إيراني حقيقي للعودة إلى المفاوضات، لأن القيادة الإيرانية قد ترى في ذلك تعبيراً عن ضعف خطر لا يمكن قبوله، وقد تفضّل التصعيد، بدلاً من “الرضوخ” لِما تعتبره إذلالاً.

توصيات ومسارات عمل ممكنة

إن منع امتلاك إيران السلاح النووي كان ولا يزال الهدف المركزي للحفاظ على الأمن القومي الإسرائيلي وتعزيزه. وأكدت أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر هذا الهدف بشكل أوضح من أيّ وقت مضى، إذ أثبتت أن من المحظور السماح لنظام ذي أيديولوجيا ثورية وإسلاموية يسعى لتدمير إسرائيل، بامتلاك قدرات تشكّل تهديداً لها – وخصوصاً إذا كان تهديداً وجودياً محتملاً بامتلاك أسلحة دمار شامل. لا يمكن أن تتعايش إسرائيل مع وجود سلاح نووي في يد الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تسعى للقضاء عليها.

أولاً؛ تفكيك كامل للبرنامج النووي: حل مثالي غير قابل للتحقق 

إن التفكيك الكامل للبرنامج النووي الإيراني (“النموذج الليبي”) يُعدّ الحل الأمثل بالنسبة إلى إسرائيل، في ضوء المحاولات السابقة التي بذلتها إيران لتطوير سلاح نووي. ومع ذلك، فإن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه في الظروف الراهنة عبر المفاوضات والتسوية السياسية مع إيران، التي ترى في تفكيك بنيتها التحتية النووية “خطاً أحمر” لا يمكن تجاوُزه.

لم يتراجع المرشد الإيراني علي الخامنئي قط عن موقفه القائل إن البرنامج النووي ليس سوى ذريعة يستخدمها الغرب للضغط على إيران وعزلها وإضعافها، تمهيداً لتحقيق هدفه الاستراتيجي الأساسي: تغيير النظام الإسلامي. واستشهد الخامنئي بموافقة الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي على تفكيك البرنامج النووي الليبي في سنة 2003، والتي لم تمنع سقوطه، لاحقاً، على يد القوى الغربية، كدليل على صواب موقف إيران الرافضة للرضوخ لمطالب الغرب في مقابل وعود بمنافع اقتصادية.

علاوةً على ذلك، تعكس تحليلات نُشرت في الأشهر الأخيرة داخل إيران تنامي قناعة بين صنّاع القرار في طهران، مفادها بأن ضربة عسكرية محدودة من إسرائيل ضد منشآت نووية، لا تشكل تهديداً مباشراً لبقاء النظام، قد تكون مفضّلة على الرضوخ لإملاءات الولايات المتحدة، وعلى رأسها التخلي الكامل عن القدرات النووية.

ثانياً؛ الخيار العسكري: ممكن وعالي القيمة

الضربة العسكرية خيار ممكن يحمل قيمة استراتيجية عالية، لكنها تكون فعالة فقط إذا شُكّلت كجزء من حملة شاملة، تُمكّن من التوصّل إلى اتفاق نووي ممتاز، يصل إلى حدّ تفكيك البرنامج النووي، أو على الأقل، الحرمان الكامل لإيران من القدرة على تطوير سلاح نووي في المستقبل، بل تمهّد أيضاً إلى إضعاف النظام الإيراني، والمساس بقدراته العسكرية، ومزيد من إضعاف شبكة وكلائه في المنطقة.

ويُظهر التاريخ، كما في حالتَي جنوب أفريقيا وليبيا، أن الطريقة الأكثر أماناً لمنع التهديد النووي تتمثل في تخلّي الدولة عن قدراتها طوعاً، سواء بفعل ضغوط خارجية، أو نتيجة تحوّلات داخلية. ولتحقيق هذا الهدف، يجب دفع إيران في اتجاه هذا المسار، عبر مزيج من الضغط العسكري، والعزل السياسي، والمبادرات الدبلوماسية المصممة بدقة ضمن استراتيجيا متعددة المستويات.

ثالثاً؛ الضربة العسكرية: محاذير عدم التنسيق مع أميركا

إن أي هجوم عسكري، وخصوصاً إذا نُفّذ من دون مشاركة أميركية فعالة، سيكون محدوداً بطبيعته، ومن المرجح أن يؤدي فقط إلى إبعاد إيران عن امتلاك سلاح نووي (“زمن الاختراق”) مدة تقارب العام الواحد.

إن النجاحات العملياتية التي حققتها إسرائيل خلال العام الماضي لا تضمن بالضرورة نجاحاً مماثلاً في الساحة الإيرانية، كما أن ضربة إسرائيلية محدودة قد تسرّع مشروع إيران النووي فعلياً، وإذا نُفّذت من دون تنسيق مع الولايات المتحدة، فقد تُعرقل جهوداً إسرائيلية-أميركية منسّقة لتحقيق الهدف نفسه.

إن الحاجة إلى تنسيق كامل مع الولايات المتحدة تُعدّ ضرورية – لا بل حاسمة – لأن هجوماً إسرائيلياً قد يقود إلى حرب مباشرة مع إيران، وهي مواجهة ستتطلب دعماً أميركياً عسكرياً ودبلوماسياً لضمان استمرارية الحملة وتحقيق أهدافها الاستراتيجية.

رابعاً؛ التسوية السياسية: عدم رفضها تلقائياً، لكن ليس بأيّ ثمن

لا يجب رفض التسوية السياسية تلقائياً، بشرط أن تكون قادرة على منع إيران من الوصول إلى سلاح نووي. إن المعارضة الإسرائيلية الآلية لأيّ اتفاق نووي لا تخدم المصلحة، بل تؤدي إلى تجاهُل الموقف المهني الإسرائيلي ضمن مسار التفاوض.

يجب توجيه الرغبة الأميركية في التوصل إلى تسوية سياسية نحو تحقيق أفضل اتفاق ممكن، من منظور إسرائيلي، وذلك عبر التركيز على التفاصيل الدقيقة ودمج قيود وضمانات داخل الاتفاق، بما يضمن عدم امتلاك إيران سلاحاً نووياً في أيّ وقت من الأوقات، ويجب أن يتم ذلك في إطار حوار إسرائيلي – أميركي مكثف ومنسق، يضمن أنه إذا ما تم التوصل إلى تسوية سياسية، فإنها ستلبي بأفضل شكل ممكن المصالح الأمنية الحيوية لإسرائيل.

ومع ذلك، وحتى في سيناريو يتم فيه التوصّل إلى تسوية، ستبقى إسرائيل بحاجة إلى الحفاظ على قدراتها العسكرية تجاه إيران وتعزيزها، لضمان امتلاكها قدرة فعالة على تنفيذ عمل عسكري عند الضرورة.

مبادئ توجيهية لتسوية محتملة

كيف يمكن منع إيران من الوصول إلى سلاح نووي؟ على الرغم من أنه لا يمكن توقُّع تسوية تؤدي إلى تفكيك كامل لبرنامج إيران النووي، فإنه من الممكن منع إيران من الوصول إلى سلاح نووي من دون أن تتخلى بشكل كامل عن جميع قدراتها النووية، وبما أن الوقت اللازم للوصول إلى سلاح نووي يُتوقع أن يكون قصيراً، مقارنةً بسنة 2015، فثمة حاجة إلى فرض قيود وضمانات جوهرية في مجالات تخصيب اليورانيوم، والتسلح، والرقابة، والصواريخ. كذلك، ينبغي العمل على إلغاء “بنود غروب الشمس” (Sunset Clauses) التي تم تحديدها في الاتفاق النووي الأصلي، أو على الأقل، تأجيلها بشكل ملموس، أو استبدالها بآلية تتيح التمديد المتجدد لصلاحية القيود التي يفرضها الاتفاق على البرنامج النووي.

في مجال تخصيب اليورانيوم:

نظراً إلى التقدم الكبير الذي أحرزته إيران في برنامج تخصيب اليورانيوم خلال الأعوام الأخيرة، لن يكون من الممكن إعادتها إلى وضعها السابق في سنة 2015. لقد ركّز الاتفاق النووي، حينذاك، على تقييد قدرات التخصيب (عدد أجهزة الطرد المركزي، ونوعها، وتراكُم المواد الانشطارية)، ويجب تجديد هذه القيود وتشديدها، على سبيل المثال، فيما يتعلق بعدد أجهزة الطرد المركزي، أو كميات المواد الانشطارية، غير أن ذلك لن يكون كافياً. وبالتالي، سيُطلب من الاتفاق النووي المستقبلي فرض وإنفاذ قيود أكثر جوهرية لا تقتصر فقط على قدرات التخصيب.

في مجال التسلّح:

ثمة حاجة إلى تعزيز الرقابة والإنفاذ على المكونات المحتملة لعملية التسلّح الواردة في البند T من الاتفاق النووي، بما في ذلك النشاطات المحددة ذات الصلة بتطوير رأس نووي، مثل: حظر إنتاج اليورانيوم المعدني، الذي يُعدّ عنصراً أساسياً في عملية بناء نواة السلاح النووي؛ والنشاطات المرتبطة بتطوير واستخدام النماذج الحاسوبية التي قد تُستخدم في البحث والتطوير المتعلق بالسلاح النووي؛ وإجراء تجارب على “مفجّر النيوترونات”، وهو عنصر حاسم يُستخدم كمفجّر في القنبلة النووية.

في مجال الرقابة:

في ضوء التقدّم الذي أحرزته إيران في برنامجها النووي خلال الأعوام الأخيرة، يصبح توسيع صلاحيات الرقابة والتحقّق (verification) ، الممنوحة لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أمراً بالغ الأهمية ضمن الجهود الرامية إلى إحباط أيّ محاولة إيرانية مستقبلية لاختراق عتبة السلاح النووي. في هذا السياق، يجب اتخاذ سلسلة من الخطوات تهدف إلى تعزيز نظام رقابة الوكالة على تنفيذ اتفاق نووي جديد، بما في ذلك تصديق إيران على البروتوكول الإضافي في إطار معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT)، وهو ما يتيح للوكالة ممارسة صلاحيات رقابية واسعة، بموجب هذا البروتوكول، بما يشمل عمليات تفتيش في مواقع غير معلنة وتفتيشات مفاجئة. إن توسيع صلاحيات الوكالة سيمكنها من إجراء عمليات تفتيش متكررة في المنشآت المشتبه في قيامها بنشاطات مرتبطة بتطوير أسلحة نووية، والتي كُشف عنها في أرشيف البرنامج النووي الذي حصلت عليه إسرائيل في مطلع سنة 2018.

يجب معالجة الغموض في اتفاق 2015 بشأن البنود المتعلقة بالرقابة على منشآت عسكرية مشبوهة. إن المطلب الأصلي للقوى العظمى، إلزام إيران الموافقة على الرقابة “في أيّ وقت، وفي أيّ مكان” لدى الاشتباه في نشاط نووي محظور، انعكس في بنود معقدة وملتبسة في الاتفاق، تتيح لإيران تأخير مثل هذه الرقابة على الأقل. كذلك، يجب السماح برقابة متواصلة أيضاً على التقنيات والنشاطات في مجال التسلّح (وليس فقط تخصيب اليورانيوم)، وتوسيع استخدام الرقابة التكنولوجية المباشرة (Online Enrichment Monitor-OLEM) من طرف مفتشي الوكالة.

في مجال الصواريخ:

خلال المفاوضات التي أفضت إلى الاتفاق النووي في صيف 2015، أصرّت إيران على عدم إدراج مسألة الصواريخ ضمن المحادثات. حتى اليوم، تعارض إيران بشدة أيّ نقاش في هذه القضية. علاوةً على ذلك، باتت إيران تُولي أهمية لأكبر لمنظومتها الصاروخية، في ضوء ضُعف المحور الموالي لها، والذي كان يُعتبر عنصراً مركزياً (إلى جانب منظومتَي الصواريخ والطائرات المسيّرة الاستراتيجية) في عقيدتها الردعية. ومع ذلك، فإن أيّ جهد يرمي إلى منع إيران من امتلاك قدرة نووية عسكرية يجب أن يتطرق أيضاً إلى الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية. في هذا السياق، يجب أن يكون التركيز، ليس فقط على مدى الصواريخ، لأن الصواريخ المتوسطة المدى كافية لتغطية أراضي إسرائيل بالكامل، بل أيضاً على الصواريخ ذات الصلة، سواء الباليستية، أو صواريخ كروز، للمديَين المتوسط والبعيد، القادرة على حمل رؤوس نووية.

ينبغي إدراج المعايير التي حدّدها نظام الرقابة على تكنولوجيا الصواريخ (MTCR) ضمن المفاوضات مع إيران، والتي تعتبر أن أيّ صاروخ يتجاوز مداه 300 كلم، وقادر على حمل رأس حربي، يزيد وزنه عن 500 كلغ، يُعد “صاروخاً خطراً”، بل يُستحسن مطالبة إيران بالانضمام إلى هذا النظام الدولي، على الرغم من كونه طوعياً بطبيعته.

الانعكاسات على إسرائيل

في ظل التهديد الفوري والخطر الناجم عن استمرار تموضُع إيران على عتبة امتلاك سلاح نووي، وفي ظل ازدياد الأصوات الإيرانية التي تدعو إلى إعادة النظر في عقيدة السلاح النووي والنظر في المضيّ قدماً نحو تطويره، فإن التركيز في المرحلة الراهنة يجب أن ينصب على كبح هذا التهديد. لا تقتصر التحديات التي تواجه إسرائيل من جهة إيران على البرنامج النووي فقط. بل هناك ترابط بين مكونات التهديد المتعددة (ولا سيّما النووي، والتعاظم العسكري في منظومات الصواريخ والطائرات المسيّرة، والنشاط التخريبي الإقليمي ودعم “الإرهاب”، والحرب السيبرانية). ومع ذلك، ينبغي تفضيل التعامل مع كلّ واحد من هذه المكونات بشكل منفصل، وبأدوات مختلفة.

إن صفقة شاملة تتناول جميع عناصر التحدي المتعدد الأبعاد الذي تمثّله إيران ليست واقعية، ولا تخدم المصالح الإسرائيلية بالضرورة، بل قد تُبعد إسرائيل عن تحقيق الهدف الرئيسي: منع إيران من امتلاك سلاح نووي. هذا التقدير، الذي كان سارياً في السابق، لا يزال صالحاً اليوم بشكل خاص، لأن التطورات الإقليمية خلال العام الماضي، وفي مركزها تراجُع قوة المحور الموالي لإيران، توفّر لإسرائيل والولايات المتحدة أدوات أفضل وأكثر فاعليةً للتصدي لمحاولات إيران إعادة ترسيخ نفوذها الإقليمي واستعادة قدرات هذا المحور.

في حال تعذّر التوصل إلى تسوية تُعيق إيران عن الوصول إلى السلاح النووي، ومع اتخاذ قرار اللجوء إلى الخيار العسكري، ينبغي لإسرائيل التنسيق مع الولايات المتحدة (حتى إن لم يضمن ذلك مشاركة أميركية فعّالة في الهجوم). إن التنسيق والتعاون مع الولايات المتحدة ضروريان من أجل التصدي للرد الإيراني المحتمل، والحفاظ على الإنجاز بعد الهجوم، والحصول على دعم أميركي للجهود الرامية إلى منع إعادة تأهيل البرنامج النووي الإيراني، سواء من خلال وسائل عسكرية مباشرة، أو عمليات سرّية، أو أدوات دبلوماسية.

في جميع الأحوال، يجب التشديد على ضرورة خوض معركة شاملة ضد إيران، وليس فقط ضد برنامجها النووي. فالهجوم الأميركي- الإسرائيلي المشترك يمكن أن يشكّل الحل الأمثل للتحدي، بشرط أن يكون جزءاً من حملة أوسع ضد الجمهورية الإسلامية، لا تقتصر على عدد محدود من المنشآت النووية، ويجب أن يُخطط لها على هذا الأساس. في ختام هذه الحملة، يتعيّن الدفع نحو مسار سياسي مكمّل، يضمن تحقيق كافة الأهداف الاستراتيجية في مواجهة إيران، بما في ذلك تفكيك قدراتها النووية، وتفكيك المحور الموالي لها، وفرض قيود على مشروعها الصاروخي. (المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية)

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  الضفة تشتعل.. كيف تقرأ الصحافة العبرية المشهد هناك؟