“الفهلوة” الإسرائيلية تصطدم بترامب.. من التماهي إلى التجاهل!

حين يُطرَح الحديث عن خلافٍ محتمل أو أزمة متدحرجة بين الولايات المتحدة و"إسرائيل"، يُخطئ كثيرون حين يفترضون أن أي تباين في التكتيكات أو المواقف يعني تراجعًا في التحالف الاستراتيجي الأميركي – "الإسرائيلي".

إن المعادلة الجوهرية التي يجب أن تُشكِّل مدخل التحليل هي أن “إسرائيل” ليست سوى كيان وظيفي ضمن المنظومة الإمبريالية الغربية، وتحديدًا جزء لا يتجزأ من أدوات السيطرة الأميركية على الشرق الأوسط، وليست شريكًا ندّيًّا أو قوة مستقلة القرار.

وعلى الرغم من هذه الحقيقة البنيوية، فإن العلاقة بين التابع والمركز لا تُلغِي مساحةَ الاختلاف دائمًا، فحتى النظم التابعة تمتلك أحيانًا هامشًا للمناورة، وقدرةً على توجيه بعض الملفات وفقًا لمصالحها الخاصة، طالما لم تصطدم مباشرةً مع أولويات القوة المركزية.

هذا ما ينسحب على الحالة “الإسرائيلية”، إذ تملك “تل أبيب” قدرةً تاريخيةً على اللعب ضمن هوامش السياسات الأميركية، مستفيدةً من تقاطُع مصالحها العميق مع مراكز القوة في واشنطن، ومن تحالفاتها الحزبية والجماعات الضاغطة القوية، ومن هامش الثقة الذي لطالما منحتها إياه الإدارات الأميركية المتعاقبة.

لكن هذا النموذج، وعلى الرغم من استمراريته، ليس محصنًا من الاهتزاز. وما نشهده اليوم من مؤشرات على خلاف بين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والائتلاف الحكومي “الإسرائيلي” بقيادة بنيامين نتنياهو لهو أقرب إلى اختبار لهذا النموذج، وللقدرة “الإسرائيلية” على استخدام أميركا من دون الاصطدام معها.

“الترامبية”، كسلوك سياسي خارجي، تتجاوز في كثير من الأحيان المعاييرَ المؤسسيةَ الكلاسيكية، وتحتاج إلى مقاربات تحليلية مختلفة تأخذ في الحسبان الفردانية، والصفقات، والمنفعة الخالصة بوصفها محركاتٍ للسلوك السياسي

“أميركا أولًا”.. و”إسرائيل” لاحقًا

يأتي التوتر الحالي بين الإدارة الأميركية والحكومة “الإسرائيلية” في ظل تصاعد مؤشرات على أن ترامب، الذي عاد إلى البيت الأبيض بزخم مختلف عن دورته السابقة، بات يرى أن نتنياهو يتعامل بفوقية سياسية، ويتذاكى عليه، ويسعى إلى استخدام الموقف الأميركي في معاركه الخاصة من دون تقديم مقابل ملموس إلى واشنطن.

وهذا ما لا ينسجم مع العقيدة السياسية التي يتبناها ترامب، وتتلخص في الشعار الشهير “أميركا أولًا”، والتي تعني أن الأولوية المطلقة لمصالح الولايات المتحدة، وأن أي تحالف أو دعم خارجي يجب أن يُقاس بمدى ما يُحقِّقه لواشنطن من مكاسب استراتيجية أو اقتصادية، لا لمجرد الحفاظ على تحالف تاريخي أو التزامات أخلاقية.

من هذه الزاوية، بدأ ترامب يُظهِر إشاراتِ توترٍ واضحةً في تعاطيه مع نتنياهو، تضمنت تجاوزاتٍ بروتوكولية، وتجاهلًا متعمدًا في بعض المواقف، وأحيانًا إيماءات سياسية تشي بالاستعداد للتعامل مع الشرق الأوسط بعيدًا عن “إسرائيل”، مثلما حصل في مسارات التهدئة مع حركة “أنصار الله” -الحوثيين أو في الامتناع عن إدراج زيارة تل أبيب ضمن جدول جولته في المنطقة.

ويبدو أن ترامب، الذي يَعرف كيف يَستخدم الوعيد والتصعيد في التفاوض، أراد أن يُرسِل رسالة واضحة إلى نتنياهو مفادها: “لستَ محصَّنًا من إعادة التقييم”، وأن الاستخدامية التي لطالما تباهى نتنياهو بها في علاقته بالإدارات الأميركية لم تَعُد مجديةً في ظل التوازنات الجديدة التي يسعى ترامب إلى إعادة ترتيبها.

صراعُ رؤى ومصالح.. لا نهاية تحالف

لا ينبغي أن يُفهَم هذا الخلاف على أنه نهاية لتحالف طويل الأمد، أو تمهيد لانفكاك استراتيجي، فما تزال “إسرائيل” جزءًا من البنية العميقة للمصالح الأميركية، وما يزال اللوبي الصهيوني يتمتع بنفوذ واسع في واشنطن، سواءٌ في أوساط الجمهوريين أو الديموقراطيين، لكنَّ ما تغيَّر فعليًّا أن دونالد ترامب، بصفته رئيسًا لا يَخضع للمؤسسة السياسية التقليدية، ولا يتعامل وفق منطق “المقدَّس الإسرائيلي”، ويطالِب بمقابل واضح لأي انحياز أو دعم.

هذا ما يُفسِّر الاستياءَ الذي نقله مسؤولون في إدارة ترامب إلى وزير الشؤون الاستراتيجية في حكومة الاحتلال رون ديرمر، المقرب من نتنياهو، حين عبَّروا عن شكوكهم بأن رئيس الوزراء “الإسرائيلي” يراوغ ويتلاعب، ويسعى إلى جر الولايات المتحدة إلى معركة مع إيران، متجاوزًا رؤيةَ ترامب التي كانت تميل إلى استنفاد فرص التسوية، لا الانخراط في حروب مفتوحة جديدة في الشرق الأوسط.

والأخطر من ذلك، أن التسريبات أفادت بوجود ترتيب جرى بين نتنياهو ومستشار الأمن القومي الأميركي المُقال مايكل والتز، لدفع واشنطن نحو الخيار العسكري مع طهران، في تجاوُز لرغبة ترامب باستنفاذ فرص الحوار، ما شكَّل في نظر الأخير خيانةً للثقة، وخرقًا صريحًا لقواعد العلاقة، ودفعه إلى إقالة مستشاره.

اختلاف الأسلوب بين بايدن وترامب

ثمة مفارقة تكمن في أن بنيامين نتنياهو، على الرغم من توتر العلاقة مع إدارة جو بايدن، نجح في تحييد الخلافات إلى حدٍّ ما من خلال الاستفادة من قواعد اللعبة الأميركية التقليدية. فقد كانت العلاقة مع الديموقراطيين، وإن شابها الفتور، محكومةً بتوازنات المؤسسات والحزبين الجمهوري والديموقراطي، وبوجود جمهور ديموقراطي ما يزال يتقبل فكرة “إسرائيل الديموقراطية” و”القيم المشتركة”، على الرغم من تآكُل هذا الخطاب مؤخرًا.

أما دونالد ترامب، فهو خارج السياق المؤسساتي التقليدي، ولا يتردد في قلب الطاولة متى ما رأى أن الأمور لا تسير وفق مصالحه الشخصية أو حساباته السياسية، ومساعيه إلى تحقيق قفرات تاريخية في السياسة الأميركية. وهذا ما يُعقِّد حسابات نتنياهو، الذي راهن طويلًا على ترامب بوصفه حليفًا استثنائيًّا قادرًا على تمرير أكثر القضايا تطرفًا لصالح “إسرائيل”، من “صفقة القرن”، إلى ضم أجزاء من الضفة الغربية، إلى تجاوز ملف الدولة الفلسطينية تمامًا، وصولًا إلى تطبيع غير مشروط مع الأنظمة العربية.

إقرأ على موقع 180  الأردن.. هل من "شعرة معاوية" إسرائيلية؟

“إسرائيل” من لاعب إلى ورقة

في هذه اللحظة السياسية الدقيقة، يبدو أن ترامب بدأ يعيد تموضعه في العلاقة مع “إسرائيل”، محاولًا تحويلها من لاعب شريك إلى ورقة في ترتيباته الأوسع في الإقليم. وهذا ما يُفسِّر تلميحاته إلى إمكانية الذهاب إلى صفقات وترتيبات لا تشمل “إسرائيل”، وإعادة ترتيب أولويات السياسة الأميركية من دون اعتبار لمواقف نتنياهو، ما ظهر في المسارات التفاوضية التي جرت مع الحوثيين، وفي الموقف من الحرب في غزة، وفي التعامل مع إيران، وحتى النفوذ التركي في سوريا.

وهذا يعني أن “إسرائيل”، التي لطالما استخدَمت الولاياتِ المتحدةَ رافعةً لمصالحها، باتت عرضةً لأن تُستخدَم هي نفسها كورقة في يد إدارة تبحث عن تعظيم المكاسب الأميركية في صراعها مع القوى الإقليمية والدولية، من طهران إلى بكين.

وماذا عن غزة؟

على الرغم من هذا الخلاف، لا مؤشرات عملية على أن ترامب بصدد الضغط الحقيقي على “إسرائيل” لوقف الحرب على غزة، أو تغيير الشروط الجذرية لتسوية الصراع، فالمواقف الأمريكية ما تزال تراوح مكانها فيما يخص نزع سلاح المقاومة، وإعادة هندسة النظام الفلسطيني بما يُقصي الفصائل، ويُعيد تشكيلَ القيادة السياسية وفق رؤى تضمن الأمن “الإسرائيلي” أولًا.

من غير الصحي الإفراط في التفاؤل أو البناء على أوهام انقلاب جذري في الموقف الأميركي، لكن من المهم في الوقت نفسه ألا يُحكَم على علاقة إدارة ترامب بـ”إسرائيل” –أو بأيٍّ من حلفاء الولايات المتحدة التقليديين وخصومها على السواء– عبر القواعد التاريخية لقراءة السياسة الخارجية الأميركية

ومع ذلك، فإن الخلاف القائم بين ترامب ونتنياهو يمنح فرصةً محدودةً لطرح مقاربات جديدة، ولو من زاوية المصلحة الأميريكية، بعيدًا عن التصورات “الإسرائيلية” التي أثبتت فشلها في إدارة الإقليم. فالمزاج الترامبي يُتيح –نظريًّا– فرصةً لإعادة طرح الأسئلة حول الجدوى من دعم غير مشروط لـ”إسرائيل”، خصوصًا في ظل تحولها إلى عبء سياسي وأمني واقتصادي لا إلى رصيد استراتيجي دائم.

ويُمكن النظر إلى الصفقة التي أبرمتها إدارة ترامب مع حركة “حماس” للإفراج عن الأسير الأميركي “الإسرائيلي” عيدان الكسندر، اليوم (الإثنين)، وما سبقها من زيارة للمبعوث الأميركي ستيف ويتكوف إلى تل أبيب، على مسافة ساعات من وصول ترامب إلى المنطقة، على أنها خير دليل على منطق الصفقات الذي صار سمة تعامل الإدارة الأميركية الجديدة مع العديد من الملفات في العالم، وبينها ملف الحرب في غزة.

خاتمة

ما يزال الوقت مبكرًا للحُكم على مستقبل العلاقة بين ترامب ونتنياهو، لكن المؤكد أن إدارة ترامب الحالية لن تكون كسابقتها، وأن التعامل مع “إسرائيل” لن يكون بالآلية ذاتها التي حكمت سنوات “صفقة القرن”.. والتطبيع، إبّان الولاية الترامبية الأولى.

إننا أمام إدارة أكثر واقعية، وأقل استعدادًا لتقديم الهدايا المجانية، وأمام قيادة “إسرائيلية” باتت مكشوفة أمام هشاشة رهاناتها وتصاعد أزماتها الداخلية، وانكشافها الأمني الذي لا يُمكِّنها من الصمود دون الدعم الأميركي الكامل، ومن جهة أخرى محدودية قدرتها على المناورة في ظل رئيس أميركي لا يعترف بالمقدَّسات ولا يتعامل بمرونة مع محاولات المناورة السياسية داخل إدارته.

وبينما يُفتَح هذا التوتر على احتمالات مختلفة، فإنه من غير الصحي الإفراط في التفاؤل أو البناء على أوهام انقلاب جذري في الموقف الأميركي، لكن من المهم في الوقت نفسه ألا يُحكَم على علاقة إدارة ترامب بـ”إسرائيل” –أو بأيٍّ من حلفاء الولايات المتحدة التقليديين وخصومها على السواء– عبر القواعد التاريخية لقراءة السياسة الخارجية الأميركية.

فـ”الترامبية”، كسلوك سياسي خارجي، تتجاوز في كثير من الأحيان المعاييرَ المؤسسيةَ الكلاسيكية، وتحتاج إلى مقاربات تحليلية مختلفة تأخذ في الحسبان الفردانية، والصفقات، والمنفعة الخالصة بوصفها محركاتٍ للسلوك السياسي.

وفي هذا الإطار، يمكن للفلسطينيين –على الرغم من انسداد الأفق الحالي– أن يناوروا ضمن المساحة المتاحة، بالسعي الجاد إلى بلورة موقف وطني موحَّد أولًا، وتحويل هذا الموقف إلى مبادرة عربية حدها الأدنى أن تُجمِع على ضرورة تغيير المقاربة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية. إن من شأن ذلك أن يَخلقَ فرصةً سياسيةً حقيقيةً لوقف الطموح “الإسرائيلي” في حسم الصراع، ويحُولَ دون الإجهاز على القضية الوطنية الفلسطينية ووجود الشعب الفلسطيني على أرضه.

Print Friendly, PDF & Email
أحمد الطناني

كاتب فلسطيني مقيم في غزة

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180    الصين وروسيا مستفيدتان من مغامرة ترامب وإنحسار نفوذ واشنطن