ما لناصر.. لناصر وما لكم.. لكم! 

لماذا كل هذه الجلبة التي رافقت نشر محضر صوتي للزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر بينما كان مجتمعاً بالزعيم الليبي الراحل معمر القذافي في الرابع من آب/أغسطس عام 1970؟ أي قبل أقل من شهرين على رحيل الأول.

جلبةٌ أرادت منها دوائر سياسية وإعلامية في مصر وخارجها أن تجعل من عبد الناصر شخصاً براغماتياً انتهازياً إلى حد يسمح له بشطب سجله الثوري القومي على مدار أكثر من عقدين من الزمن؛ جلبةٌ أتت على طبق من فضة لـ”المطبلين” والمهللين للتطبيع الإبراهيمي ممن يريدون افهام المختلفين معهم من أبناء جلدتهم بأن التطبيع لم يكن بعيداً عن عقل “أيقونة القومية العربية”!

وجد بعض الكتبة ضالتهم في شريط تسجيل (عبد الناصر-القذافي) لتعزيز سرديتهم للرئيس الراحل أنور السادات -“بطل الحرب والسلام”، على اعتبار أن كل ما قام به الأخير من طرده للخبراء السوفيات وخوض حرب أكتوبر 1973 وطريقة إنهائها وصولاً إلى اتفاقية “كامب ديفيد”، أتى على وقع خطوات سلفه سواء من خلال ما استخلصوه من الشريط أو من موافقة ناصر على مبادرة وزير الخارجية الأميركي وليم روجرز في 22 تموز/يوليو 1970.

لم يسمع أو لم يطّلع هؤلاء الكتبة على كامل محضر اللقاء، وبطبيعة الحال، هم سمعوا ما يحبون سماعه وبما يخدم توجهاتهم، ولم يكترثوا إلى سياق الكلام وظروف المرحلة، علماً أن محبي ناصر ومريديه لا يتنكرون للكلام المُذاع، لكنهم يضعونه في سياقه الطبيعي. وفي المناسبة، فإن معظم تسجيلات ناصر، حتى بعض المحاضر السريّة، جرى تفريغها على صفحات ورقيّة في مكتبة الإسكندرية، وبالتحديد هذا التسجيل يقع في 56 صفحة فولسكاب، كما يقول الدكتور محمود الشربيني، أحد أبرز نشطاء ثورة 25 يناير. ويمكن الاطلاع عليها لمن يريد الحقيقة كاملة.

وأراد المتنكرون لمسيرة عبد الناصر تشويش الأذهان وقلب الحقائق عبر القول إن الرمز الثوري الأول في عالمنا العربي، لم نكن لنتعرف عليه لولا نشر هذا الشريط، ولم يكتب عنه الأستاذ الكبير الراحل محمد حسنين هيكل، الأقرب إليه، والأكثر معرفة به، حيث دارت جميع محاور كتبه الشهيرة حول مزايا وصفات ومواقف ومحطات هذا الرجل الذي لم تلد الأمة العربية زعيماً (رسمياً) يُجاري الحد الأدنى من وطنيته وقوميته وتبنيه للقضية الفلسطينية وللقضايا العربية المشتركة.

لا شك أن عبد الناصر قبل نكسة العام 1967 كان شيئاً وصار بعدها يمتلك نظرة مختلفة. الوقائع القاسية في معادلة الصراع مع إسرائيل بعد حرب 1967، ومن ثم خوض حرب الاستنزاف (1967-1970)، واختبار قدرات العدو الإسرائيلي المدعوم بأحدث الأسلحة الأميركية، وبناء حائط صاروخي لوقف العدوان الجوي الإسرائيلي على عمق أراضي الدولة المصرية. المناخات الدولية والإقليمية. هذه كلها جعلت الزعيم المصري يوافق على مبادرة روجز التي تقضي بانسحاب الإسرائيليين من كل الأراضي التي احتلّوها في حرب العام 1967 تنفيذاً لقرار مجلس الأمن الدولي الرقم 242.

يعني ذلك، الانسحاب من الجولان والضفة الغربية وغزة وسيناء، وليس كما حصل مع أنور السادات وتوقيعه على “اتفاقية السلام” (كامب ديفيد) التي نصّت فقط على انسحاب إسرائيل من سيناء دون غيرها من الأرضي العربية المحتلة، وأدى ذلك إلى رفض العديد من الشخصيات المصرية تولي مسؤولية وزارة الخارجية لتعارض رأيهم مع رأي السادات حتى رسا الأمر على تولي بطرس غالي (أمين عام الأمم المتحدة لاحقاً) وزارة الخارجية، والذي تماهى مع رئيسه في انجاز عملية السلام مع الكيان العبري.

وبالتالي، لم يكن عبد الناصر داعية سلام مجاني. هو من قال، في لحظة موافقته على مبادرة روجرز، إن الحل السلمي “غير مطروح بنسبة 99.5%”. لم يكن ناصر أيضاً زعيماً قومياً لا يفهم إلا لغة القوة، إنما كان يدرك بأن ثمة مسالك ديبلوماسية تتيح بناء القوة وتراكمها وصولاً إلى فرض معادلات مستقبلية جديدة. وهذا ما كان يضمره ناصر بالفعل من خلال موافقته على المبادرة الأميركية. بحيث يمكن استعادة الأراضي المحتلة عام 1967 بالديبلوماسية إذا وافقت تل أبيب، وتأجيل حرب التحرير حتى يحين أوانها إذا رفضت الدولة العبرية.

كثيرون من مسؤولين وكتّاب يتابعون سياسات جمال عبد الناصر ومعرفة أين أصاب؟ وأين أخطأ؟ ولا يحبونه وهذا من حقهم، وهو ليس فوق النقد لكن سياسيين وإعلاميين لا يزالون على كرههم لناصر بعد أكثر من خمسة وخمسين عاماً على وفاته، لم يكتفوا بذلك بل يطاردون أهم شخصية عربية في آخر مئة سنة.

في نهاية الأمر، لا تحاسبوا ناصر على قدره، ولا تشغلوا أنفسكم بالتنبؤ بما كان سيحصل لو ظلّ على قيد الحياة، اتركوا ما لناصر لناصر.. وما لكم لكم.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  الأقصى، "تاريخ القداسة.. وقداسة التاريخ"
مهدي عقيل

أستاذ جامعي، كاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  خطاب 3 تشرين.. وجماعة "عالحالتين مش خالصين"!