تجمع آلاف المواطنين والمقيمين في الكويت، مساء الجمعة، في “ساحة الإرادة”، أمام مجلس الأمة، في وقفة تضامنية مع الشعب الفلسطيني ودعماً لصموده ولمقاومته ضد الاحتلال الإسرائيلي، دعت لها العديد من القوى السياسية والنقابية والطلابية بالإضافة إلى وزراء ونواب حاليين وسابقين. وهي الوقفة التضامنية الثالثة خلال أسبوع، حيث كان الكويتيون سبَّاقين في هذا المجال. فبعد ساعات قليلة فقط على إنطلاق عملية “طوفان الأقصى”، السبت الماضي، عجَّت “ساحة الإرادة” بحشود المواطنين والوافدين لـ”مباركة” بسالة المقاومة في غزة وبقية المناطق الفلسطينية”.
ويوم الخميس الماضي، وجه مجلس الوزراء وزارة الإعلام إلى وقف كل مظاهر الاحتفالات الفنية في البلاد “تأكيداً لموقف دولة الكويت الدائم المساند للقضية الفلسطينية، ونظراً لما تشهده الساحة من تطورات في قطاع غزة، ووقوفاً مع الشعب الفلسطيني الشقيق الذي يتعرض لأبشع أنواع العدوان على يد الاحتلال الإسرائيلي”.
وقبل ذلك، (الثلاثاء)، أطلقت وزارتا الخارجية والشؤون الاجتماعية “فزعة لفلسطين”، وهي حملة إغاثة عاجلة لدعم صمود الشعب الفلسطيني وإسناد مقاومته، جمعت حتى الآن تبرعات بقيمة ثلاثة ملايين دينار كويتي (ما يعادل أكثر من 9 ملايين دولار). والتاريخ يثبت أن القوافل الإغاثية والمساهمات المالية الكويتية لم تتوقف يوماً. فمنذ العام 1999، قدمت الكويت مساعدة بقيمة 25 مليون دولار للسلطة الفلسطينية، وخصصت مليون ونصف المليون دولار سنوياً لمنظمة “الأونروا” العاملة في الأراضي المحتلة (رفعتها إلى مليوني دولار سنوياً عام 2011). كما خصصت مليون دولار لصندوق الأقصى والانتفاضة الفلسطينية. وتعهدت بتقديم منحة بمبلغ 300 مليون دولار لدعم مشاريع التنمية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتعهدت بتقديم نصف مليون دولار لدعم أجندة منظمة العمل الدولية في الأراضي الفلسطينية.
نهج ومبدأ رسمي وشعبي
هذه المبادرات والجهود وغيرها، وما سبقها، وما سيتبعها حُكماً، ما هي إلَّا إنعكاس وترجمة صريحة لمواقف الكويت الداعمة لفلسطين. وهي أيضاً امتداد للنهج الذي عُرف عن الكويت رسمياً وشعبياً منذ عشرات السنين تجاه القضية الفلسطينية، والاحتلال الصهيوني، والحصار، والعدوان، وما سُميت بـ”صفقة القرن”، وأخيراً “اتفاقات أبراهام” وصفقات التطبيع. فعندما يتعلق الأمر بفلسطين وقضيتها فلا مكان لـ”الحياد” في قاموس السياسة الكويتية ولا في أدبياتها ومواقف المجتمع الكويتي.
مجلس الوزراء وجَّه وزارة الإعلام إلى وقف كل مظاهر الاحتفالات والمناسبات الفنية في البلاد تضامناً مع الشعب الكويتي
والكويت هي الدولة الخليجية الوحيدة التي وقَّعت في تاريخها اتفاقية دفاعية لها علاقة بالشأن الفلسطيني، وذلك بموجب مرسوم أميري، صدر في 25 حزيران/يونيو 1967. والجيش الكويتي ومواطنون كويتيون شاركوا في القتال ضد الكيان الصهيوني في كثير من المعارك داخل فلسطين وعلى حدودها، وسقط منهم شهداء على الجبهات.
كما أن منظمة التحرير الفلسطينية ولدت على أرض الكويت، في العام 1961 (كان الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات يعمل مهندساً في الكويت منذ عام 1957). وعندما اتخذت “حركة فتح” مقراً رسمياً لها في منطقة “الشويخ”، بعد حرب 1967، أعلنت الإذاعة الكويتية الرسمية خبر تعيين خير الدين جبين مديراً لمكتب منظمة التحرير في البلاد، وأصدرت وزارة الخارجية الكويتية بيان أول دولة تعترف رسمياً بـ”فتح”.
رفض ثابت للتطبيع
في عام 1957 تأسس مكتب مقاطعة إسرائيل (BDS) في الكويت. وصدر مرسوم أميري (عام 1964) “يحظر حيازة أو تداول السلع الإسرائيلية، كما يحظر على كل شخص طبيعي أو اعتباري أن يعقد أي اتفاق (ولا حتى بالواسطة) مع هيئات أو أشخاص مقيمين في إسرائيل، أو منتمين إليها بجنسيتهم أو يعملون لحسابها أو لمصلحتها أينما أقاموا”. ومنذ ذلك الحين والكويت تواجه كل أشكال التطبيع؛ سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً. وتجلت هذه المواجهة في أعقاب العدوان الاسرائيلي على غزة، عام 2014، عندما قادت الحكومة الكويتية أكبر حملة مقاطعة لكيان الاحتلال، طالت 50 شركة كانت تتعاون مع المستوطنات الإسرائيلية. واليوم يشكل “المكتب” واحداً من أهم مكاتب المقاطعة (BDS) في العالم.
حالياً، تُعد الكويت، واحدة من الدول القليلة التي ترفض – رسمياً وشعبياً – التطبيع والتواصل المباشر مع الكيان الصهيوني. وهي لا تترك فرصة إلا وتُبرز مواقفها المعادية تجاه اسرائيل والتضامنية الصريحة تجاه القضية الفلسطينية وذلك عبر كافة المنابر الدولية، والحقوقية، والسياسية، والإنسانية.
وكان أمير البلاد الراحل، الشيخ جابر الأحمد الصباح، هو من ثبَّت معادلة: “الكويت ستكون آخر دولة تطبع مع إسرائيل.. ولن تُطبع”. وفي عهد الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد الصباح تأكدت مقاومة الكويت للتطبيع من خلال إنشاء العديد من لجان المقاطعة، وإقامة العديد من الملتقيات الرسمية والشعبية المقاومة للتطبيع، ومُنع الإسرائيليون من ركوب طائرات الخطوط الجوية الكويتية، وقاطع اللاعبون الكويتيون أي مباريات مع اللاعبين الصهاينة.
وبرغم كل الضغوط التي مورست عليها، لا سيما من الولايات المتحدة، عقب تطبيع بعض الدول علاقاتها مع إسرائيل؛ بما فيهم شركاء لها في مجلس التعاون الخليجي؛ لم تُغير الكويت موقفها الرسمي ولا الشعبي: فلسطين قضية مركزية.. ولا وجود لشيء اسمه “دولة إسرائيل”، وأي دعوة للتطبيع “تُعتبر خيانة وجريمة بحكم القانون” (دستور 1962، والمرسوم الأميري 1967). ووفقاً للقانون التشريعي رقم 31 لسنة 1971، تُعتبر إسرائيل بالنسبة للكويت “دولة معادية.. التعامل معها تترتب عليه عواقب”.
المرسوم الأميري والقانون التشريعي ما يزالان ساريين ونافذين حتى الآن. وفي آب/أغسطس 2020، وعلى وقع توقيع كل من الإمارات والبحرين “اتفاقية أبراهام” تقدّم خمسة من أعضاء مجلس الأمة الكويتي، باقتراح بقانون “لحظر كل أنواع وأشكال العلاقات مع “إسرائيل”، ومنع أي تطبيع أو توقيع اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني مهما كانت الأسباب”. وكان هذا هو الاقتراح الثاني خلال أشهر (الأول كان عقب استقبال سلطنة عُمان لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ومشاركة فرق رياضية إسرائيلية في بطولتين في الإمارات وقطر).
فلسطين قضية مركزية
في الوقفة التضامنية، في “ساحة الإرادة”، مساء الجمعة الماضي، كان شعار “لا للتطبيع” هو الأبرز في كلمات الخطباء، الذين شدَّدوا على وجود توافق حكومي ونيابي وشعبي في الكويت تجاه القضية الفلسطينية، وضرورة دعم مقاومة الشعب الفلسطيني وحقه في استعادة أراضيه وتطبيق القرارات الدولية، حيث أكد وزير التجارة محمد العيبان، الذي كان حاضراً برفقة أطفاله: “وجودي الشخصي هنا ممتد من الموقف الحكومي والرسمي تجاه القضايا الإنسانية والعروبية التي لا نحيد عنها ولا نقبل بتجزئتها”.
الكويت رفضت اعتماد أوراق ديبلوماسي أميركي لأنه عمل فتره في إسرائيل.. ووبخت سفير التشيك بسبب تغريدة تضامن مع الكيان العبري على حسابه الرسمي
وهذا ما أثبتته الكويت مراراً وتكراراً. فخلال العدوان الإسرائيلي على غزة، في أيار/مايو 2021، وقفت الكويت، أميراً وحكومة وشعباً، إلى جانب الشعب الفلسطيني، وأطلقت حملة ضغط ديبلوماسية واسعة من أجل وقف العدوان ثم بادرت بإطلاق حملات للمساهمة في إعادة إعمار القطاع. وفي خطوة تُحسب لها، استدعت الخارجية الكويتية سفير جمهورية التشيك لديها، مارتن دوفراك، ووجهت له تحذيراً شديد اللهجة لأنه نشر علم إسرائيل على حسابه الرسمي في وسائل التواصل الاجتماعي، وتغريدة عبَّر فيها عن تضامنه مع الكيان الإسرائيلي، وأجبرته على تقديم اعتذاره للشعبين الكويتي والفلسطيني وإعلان ندمه، وذلك في ظل غضب شعبي ومطالبات بطرده.
إن المواقف الفريدة والصريحة تجاه القضية الفلسطينية، حتى بمعزل عن بعض دول الخليج التي طبعت أو رحبت بالتطبيع وسكتت عن العدوان الإسرائيلي، تزيد من رصيد الكويت الشعبي في العالم العربي والإسلامي. وربما هي ما شجَّع البعض ليهتفوا باسم محمد ضيف، القائد العام لـ”كتائب عز الدين القسام”- الجناح العسكري لحركة حماس، ويشيدون بكل رموز المقاومة الفلسطينية، في ساحة “الإرادة”.
“إن الكويت التي رفضت اعتماد أوراق ديبلوماسي أميركي لأنه عمل فتره من الزمن في إسرائيل، والتي استشهد عدد من جنودها وأبنائها على جبهات القتال في فلسطين ومصر والجولان، والتي تنقلب فيها الدنيا إذا وجدت عبارة “صُنِعَ في إسرائيل” على أي منتج… تعني أن “الضمير الشعبي الكويتي ضمير قومي مناهض للصهيونية عبر التاريخ (…) وأن القضية الفلسطينية هي في صلب وجدان الكويتيين، على اختلاف إنتماءاتهم السياسية والفكرية والعقائدية والاجتماعية”، كما أكد أحمد الديين، الأمين العام للحركة التقدمية الكويتية وأحد مؤسسيها، في حديث لموقع “180 بوست”.
وفي حديث مماثل، أكد النائب حسن جوهر لموقع “180 بوست”: أنه “لا يمكن لدولة أن تتفهم وجوب تأييد الحقوق الفلسطينية أكثر من الكويت. نحن بلد جرّبنا ماذا يعني الاحتلال (الغزو العراقي عام 1990). جرّبنا ماذا يعني أن نكون تحت سلطة دولة معتدية ومنتهكة للقوانين والمواثيق الدولية، وماذا يعني أن يسقط لنا شهداء وضحايا، ونصبح لاجئين أو أسرى أو مفقودين، فكيف لنا مع كل ذلك أن نتخذ مواقف مناقضة للقضايا التي تشبه قضيتنا؟”.
منذ اللحظات الأولى لبدء “طوفان الأقصى” لم يهدأ الكويتيون، فهذه الدولة الصغيرة بمساحتها، الكبيرة بمواقفها الوطنية والإنسانية، لم ترض ولن ترضى إلَّا أن تكون “الحصن” المدافع عن الفلسطينيين وقضيتهم.