“إسرائيل الكبرى”.. من الحلم إلى المشروع

لولا الدلالةُ البلاغيّةُ للفظةِ "بيان" لكانَ يجبُ أنْ نحذِفَها من لغتنا حذْفاً مطلقاً. نحذفُ أيضاً أفعالاً من مثلِ: "استنكرَ، شجبَ، ندَّدَ، واحتفظ بحقِّ الردِّ". هذه كلُّها ألفاظٌ لا كلمات.

شتَّانَ في اللغةِ وفي الفكر ما بين اللفظةِ والكلمة. الأولى؛ صوت وفراغ، والثانية؛ فعلٌ ومضمون. الولاة العربُ سلاطينَ وملوكاً ورؤساءَ أثبتوا أنَّهم بمعظمِهم أهلُ ألفاظٍ وأصواتٍ، بل حتى في مستوى الألفاظِ لم يجرؤوا أن يكونوا قنبلةً صوتيةً. ليسوا عجَزةً كي نجدَ لهم عذراً. هم أهلُ خِذلانٍ بحقِّ الأرضِ والأمَّةِ والناس. سيُسجِّلُ التاريخ أنَّ هؤلاءِ هم أشهرُ حكامِ العالم في هذا العصرِ انصياعاً لمن يغتصبُ الحقوقَ، وأنَّهم أشدُّ عداوةً لكرامتِهم من العدوِّ الصهيونيّ نفسِهِ. تلك هي حقيقةُ القِمّةِ الأخيرةِ في قطر. الكيانُ الإسرائيلي هاجمَ قادةً من المقاومةِ الفلسطينيةِ على أرضِ دولةٍ حليفةٍ له. لا نقولُ اعتدى على قطر، فهو لم يستهدفْها بذاتِها، لكنَّه أحرجَها ولم يخْرجْها فقد ظلَّتْ تحت عباءتِهِ، ونفَّذ العربُ عادتَهم الممجوجةَ فاجتمعُوا وأصدرُوا بياناً وشجبُوا وأعلنوا أنَّ بنيامين نتنياهو وَحْدَهُ يُهدِّدُ “الاستقرار”، أمَّا الكيانُ الصهيونيُّ بكلِّ تركيبتِه العُدوانيَّةِ التوسعيّة فلا علاقة لهُ. المشكلةُ في نظرِ القمة العربية هي في الحكومةِ الحاكمةِ في الكيانِِ الإسرائيلي لا في الكيانِ نفسِهِ. وهذا أمرٌ في ذروةِ الخِذلانِ يُحضِّرُ لما هو أدهى في مقبلِ الأَّيَّامِ وهي قريبةٌ.

لقد كانت قِمَّةُ الدوحة أميركيَّةً – إسرائيليّةً بامتياز. ليس فيها من العربِ إلّا تسميةٌ بلا هُويّةٍ. لم يَشأ الولاةُ العربُ أنْ يقرأوا معنى الإبادةِ الجاريةِ في غزَّة. لمْ يشاءوا أن يفهموا أنَّ الحرب على غزة هي حربٌ على الوجود العربي كلِّه. لقد سلَّموا نهائيَّاً بإسقاطِ الهويَّة العربية عن بلادنا، وقدَّموا للأميركيين والإسرائيليين مجدَّداً استعدادَهم لتصفيةِ القضيَّةِ الفلسطينية على طريق تصفيةِ المنطقةِ كلِّها لمصلحةِ “إسرائيل الكبرى”.

“إسرائيل الكبرى” لم تعدْ حلماً بل باتت مشروعاً تطبيقياً. لقد تأكَّد الكيانُ الإسرائيلي بعد حرب الإبادة على غزَّة، وبعدَ القمم ِالعربيةِ المتعاقبة، وآخرُها قمةُ الدوحة، أنَّ سياسةَ التوسُّعِ الجغرافي، والتمدُّدِ الاستيطاني، والتقسيم الديموغرافي – الاجتماعي، وإدارة الحروب الدينية والمذهبية، وتفتيت الدول، باتت مُتاحةً ومجالاتُها مفتوحة. يذكِِّرنا كلُّ ذلك بما قالتْه غولدا مئير عام 1969عند إحراق المسجدِ الأقصى. آنذاك قالت إنَّها لم تَنَمْ ليلتَها ظنَّاً منها أنَّ العربَ سيتّحدونَ ويُهاجمونَ “إسرائيل”، وعندما مرَّ يومانِ من دون أيِّ شيءٍ قالتْ إنَّها “اطمأنَّت بأنَّ إسرائيل باقية”. وهذا ما يحصلُ منذ الحرب الإبادية على غزَّة وصولاً إلى بيانات الدوحة التي أعقبتْها زيارةُ وزيرِ الخارجيةِ الأميركي ماركو روبيو وإعلانِه من الدوحة إصرار واشنطن على مواقفها وتأييد تل أبيب في حربها.

نعم، هو مشروعُ “إسرائيل الكبرى”. والشرق الأوسط الجديد لا يعني غير ذلك. ها هي سوريا قد انتهت إلى التقسيم وتنتظر الآليَّة التنفيذية الإدارية الفدرالية. وها هو لبنان لاحق بها وتزدادُ الدعوات فيه إلى الفدرلة. ولا يظننَّ ولاة الدول الخليجية أنَّهم سيكونون بمنأى عن هذه المخاطر، ولعلَّهم يتذكَّرونَ ما يُنْقَلُ عن رئيسِ الوزراءِ البريطاني الراحل ونستون تشرشل عندما كان يقول عن الدول الخليجية إنَّها بالنسبة إلى بريطانيا هي مجرَّد “محطات وقود”.

الواقعُ مأساويٌّ. علينا أن نعترف بذلك. لم يبقَ الآنَ سوى مصر، فإذا صمدتْ يمكن أن تحُدَّ من الزحفِ الإسرائيلي، أمَّا إذا نجحتِ الصهيونيةُ في تفجيرها من الداخل، أو تمكَّنت إسرائيل من العدوان عليها، أو من تحريك إثيوبيا بوجهها فيما السودان وليبيا مشتعلان على حدودها، فعندئذٍ لن تقوم للعرب قائمةٌ، وسيحلُّ بهم اليوم ما حلَّ بهم سابقاً أيام المغول والصليبيين والاستعمارين الفرنسي والبريطاني.

نأملُ بشعب مصر ونخاف عليها. والمرحلة القريبة المقبلة هي مرحلة مصر في محاولة صياغة توازنات جديدة في المنطقة قبل فوات الأوان.

 

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  إلغاء الدعم يطوي صفحة نظام لبناني بديله الفوضى!
بسّام ضو

عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكُتّاب اللبنانيين

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  حذار من "ثورة الزعيم"..