

الزمنُ في الفيزياء خطٌ متحركٌ يتأثر بالحركة والكتلة والجاذبية، وفي السياسة يتباطأ أو يتسارع بحسب موقع الأطراف في الصراع. طرف يعيش طارئًا كالحرب أو الانهيار الاقتصادي يرى الدقيقة دهراً، بينما خصمٌ بعيدٌ يعتبرها تفصيلًا عابرًا. هذه النسبية الزمنية تمنح كل فاعل منظورًا مختلفًا: زمن الدولة المستقرة يتسع، وزمن المجتمع المأزوم يضيق. الزمن تجربة نفسية داخلية أيضًا، فالانتظار الطويل يرفع منسوب التوتر في الجهاز العصبي، فيفرز الجسم الأدرينالين والكورتيزول، ويصبح القرار أكثر اضطرابًا. التسرّع يُطلق اندفاعات عصبية تُفقد القدرة على الحساب العقلاني. السياسة تستثمر هذه الحالات: تؤجل المفاوضات فتضع الخصم تحت الضغط، أو تعلن مبادرة عاجلة فتفاجئه في لحظة ارتباك. الزمن يوازي صراعًا بيولوجيًا داخل الأجساد كما فوق الطاولات. المجتمعات تعيش الزمن بإيقاعات مختلفة، مجتمع شاب يميل إلى التغيير السريع، بينما مجتمع مثقل بالتقاليد يختار التدرج.
في لبنان، يتحول تشكيل الحكومات إلى مسرح للانتظار، حيث المهل الدستورية تفقد فعاليتها والفراغ المؤسسي يصبح جزءًا من اللعبة. القوى السياسية تراهن على الاستنزاف: فريق يتطلع إلى تبدل المعطيات الإقليمية، فريق آخر يعوّل على إنهاك الداخل.
في غزة، تُنتج الوساطات القطرية والمصرية هدنًا قصيرة تُسوّق كإنجازات، لكنها تدور في حلقة لا تنكسر.
السياسة تضبط الزمن لحظة بلحظة، والمتغيرات المفاجئة تقتحم المشهد: اغتيال، انفجار، انهيار مصرفي، أو عاصفة طبيعية، جميعها تغيّر إيقاع الأحداث.
الزمنُ يتحول إلى قوة مستقلة تفرض قواعدها الخاصة. كما في الفيزياء حين يُغيّر حدث مجهري الكثير من الحسابات، السياسة تدخل في مدار جديد. في لحظات الانهيار، السرعة تتحول إلى شرط بقاء: ضخ أموال عاجلة لإنقاذ مصرف، إدخال مساعدات إنسانية لتجنب كارثة.
في لحظات التسويات الكبرى، يُفسح التريث المجال لانخفاض حرارة الأعصاب وتركيب المعادلات من جديد.
الزمنُ علاجٌ مزدوجٌ: الإسعاف يمنع الانفجار، والتأجيل يسمح بإنضاج الحلول.
وحين يُردّد السياسي “نحتاج إلى وقت”، العبارة تتحول إلى خطاب كامل. في لبنان، هذه الجملة غطّت ملفات الكهرباء والإصلاح والفراغ الرئاسي، فصارت وعدًا مؤجلًا يبيع الأمل ويخفي العجز. في غزة، هدنة أيام قليلة تُسوّق كفتح تاريخي، فيما حقيقتها دوران إضافي في دائرة مغلقة.
الزمنُ سلعة: يُعرض كأمل، يُشترى كخوف، ويُستثمر كهيمنة.
الزمنُ التفاوضي في المنطقة تحول إلى دائرة؛ الوسيط يُمدّد الانتظار، والطرف الذي يعتبر نفسه رابحًا يرفض الاعتراف بوجود آخر أمامه.
الساعة جدارٌ يحاصر الجميع، والزمن السياسي آلة تدوير أزمات؛ طريقٌ مغلقٌ بدل أن يكون مسارًا نحو الحلول.