بدا العقل السنيّ منذ ما قبل فجر لبنان الكبير، أقرب إلى احتضان التاريخ ولفظ الجغرافيا. كان يعيش في بلده كمن يرتدي سروالًا ضيقًا يحبس عليه أنفاسه وأحلامه. تفاعل بأولوية مطلقة مع قضايا المنطقة وتشعباتها. يقرأ فلسطين. يتابع دقائق التفاصيل في مصر وسوريا والعراق، ثم ينتقل لاحقًا نحو تحصين عروبة لبنان وارتباطه الوثيق بهذه القضايا، ولو على حساب تركيبته وصيغته وخصوصيته.
تفجرّت هذه النزعة مع الصعود الهائل للزعيم جمال عبد الناصر. ثم مع المقاومة الفلسطينية وياسر عرفات. شعر هذا العقل بنشوة مفرطة عززت انحيازه الدائم لرفس الحدود والانتقال المتدحرج نحو وحدة المسار والمصير. لكنه سرعان ما اصطدم بواقع محلي ودولي عصيّ على الكسر، ثم بسلسلة من الهزائم والخيبات التي تركت ندوبها العميقة في مستقبله وحضوره وطريقة تفكيره.
تجسدت أهمية هذا المخاض في قدرة هذا العقل على الالتحاق بالقضية أيًا يكن حاملها. من عبد الناصر إلى ياسر عرفات وصولاً إلى كمال جنبلاط. سار السنّة في ركاب زعامتهم دون أن يقيموا أي وزن للتفاصيل الضيقة أو المماحكات الهامشية. تجسد الأمر عينه لاحقًا في التماهي الموصوف مع حزب الله وأمينه العام. ثم في الانتقالة المفصلية من ضفة إلى أخرى عقب اغتيال رفيق الحريري. حيث أن بيار الجميل وجبران التويني وسمير جعجع ووليد جنبلاط باتوا رأس حربة في معركتهم، وفي قيادة انتفاضتهم وشارعهم.
أسطورة الحريري
وصلت أسطورة رفيق الحريري قبل أن يصل، وما إن وصل، حتى ضجّت الدنيا بقصص نجاحه. “كنا نتوسط أحيانًا لدى بعض الصحف، لا لتتوقف عن انتقادنا، بل لتكف عن رفع سقف الآمال والأحلام. تخيّل مثلًا أن الصفحة الأولى في جريدة كبرى خُصصت بكاملها للحديث عن خطة سحرية يحملها رفيق الحريري لتأمين الكهرباء 24/24 بعد اسابيع قليلة من وصوله، فيما كان القطاع برمته يشهد دمارًا شاملًا وموصوفًا”، يقول أحد مواكبين تلك المرحلة.
كان رفيق الحريري أشبه بساحر نُسلّم ببراعته وخفة يده قبل أن نشاهد عرضه على خشبة المسرح. تحوّلت انتقالته الرشيقة من قاطف ليمون إلى قاطف نجاحات قصة تروي خيالنا الخصب. الناس تحب الأساطير. تحب الرجل المنقذ الذي لا يعرف المستحيل. رفيق الحريري كان من هذه القماشة، مع هالة استثنائية راحت تتعاظم يومًا تلو آخر. حتى اسلوب اغتياله وشطبه. لم يكن عاديًا أو بليدًا. بل انفجارًا يوازي انفجاره.
أرسى رفيق الحريري المدماك الأساس في صناعة هذه الأسطورة. لاحق الأدمغة في أقاصي الأرض وضمهم إلى فريق عمله. ثم راح يترك بصماته المتميزة في غير مكان. شكلت شركاته ومؤسساته الصورة الأبهى عن تفوقه وريادته. في المقاولات والمال والاقتصاد، كما في الترفيه والإعلام، حتى بدا الرجل وكأنه ممرٌ حتميٌ لأي قصة نجاح، وأي بصيص أمل.
لم يكن رفيق الحريري بحاجة إلى افتعال معركة بوجه خصومه. يقولون إنه أغلق البيوتات السياسية في بيروت وغير بيروت. الواقع أنهم أفلوا جميعًا أمام هيبة حضوره وسطوة بريقه. كان عنوانًا دائمًا للنجاح، حتى عندما يفشل، يتهم الناس غيره بالموبقات والصغائر. يقولون في معرض هجومهم ودفاعهم: يريدون أن يكسروا رفيق الحريري لأنه أكبر من قدرتهم على ترويضه أو تطويقه، وحين تعذّر عليهم كسره، قرروا حرقه بطنيّن من المتفجرات.
رفيق الحريري كان تلك الهيبة الرهيبة التي حطت رحالها في عقول الناس. شعروا أنه قويٌ قبل أن يختبروا قوته. أدركوا أنه حكيم قبل أن يتلّمسوا حكمته. قالوا إنه شجاع قبل أن تظهر شجاعته. إذا عبّد درب التسوية، فذاك قدر الكبار. وإذا سار في ركاب المواجهة، فذاك شأن الرجال. وعلى سجية هذه المعادلة البسيطة، قِسّ ما شئت.
بعد رفيق الحريري، انتقل السنة من ضفة إلى أخرى، كان الانتقال أشبه بمخاض عسير لولادة مستحيلة، راهن الجميع على تفكك هذه المعادلة المستجدة
هاكم الفجيعة
عرف القاتل أن لوثة الابتسامة ومعها رفيق الحريري تعني خروجًا مهيبًا من الإحباط الدفين. كان لا بد من استبدال ابتسامتهم ببكاء لا يهدأ وقهر لا يستكين، وكان لا بد من قتل رفيق الحريري كما قتلوه. هكذا. بطنين من المتفجرات. أحرقوه ودفنوه. ثم قالوا لأولئك البائسين اليائسين: الدنيا في بلادكم لا تضحك. ترفضون الإحباط؟ هاكم الفجيعة.
عقدٌ ونيّف والسنة يعيشون في خضم هذا الهاجس الرهيب. رحل رفيق الحريري وأخذ معه ذاك الأمل وتلك السكينة وتركهم في زاوية اللايقين. يشعرون أنهم أم الصبي. تارة بالولادة، وطورًا بالرضاعة. وكأنها عقدة ذنب، أو محاولة عبثية لإعادة إنتاج قامة بحجم هامته، أو جبلًا يوازي حضوره وهيبته.
يتناسى كثيرون أن الفاتورة الهائلة التي دفعها سنّة لبنان منذ شطب رفيق الحريري تكاد توازي مخاض المنطقة بأسرها. صحيحٌ أن المشهد من دمشق إلى صنعاء يفوق بدمويته ترف النضال السياسي والاغتيالات الموضعية، لكن الصحيح أيضًا أن الانزلاق نحو الرد على الدم بالدم أسهل بألف مرة ومرة من ضبط النفس وكبح رغبتها الأكيدة في الثأر وفي الانتقام.
لم يتلمسوا منذ ذاك اليوم المشؤوم أي ارتباط حقيقي يجمعهم بهذا الكيان المريض. يصرّون على العدالة مقابل اصطيادهم وقتلهم في وضح النهار. يذهبون نحو تسوية ناجزة ولو على حساب دمائهم وكرامتهم. يحفظون الدولة وأجهزتها بأشفار عيونهم، وهم يدركون تمام الإدراك أنهم ضلع قاصر في منظومة تحترف سكب الملح في جرحهم الذي لا يطيب.
التمسك بالأولويات
بعد رفيق الحريري، انتقل السنة من ضفة إلى أخرى، كان الانتقال أشبه بمخاض عسير لولادة مستحيلة، راهن الجميع على تفكك هذه المعادلة المستجدة مع أول صراخ في المحيط. اعتبروا أن القبضة الأمنية، إضافة إلى العجز العسكري واندثار الزعامات، ساهمت في كبح جماحهم وتقليم أظافرهم على نحو يُظهرهم بصورة لا تشبههم.
مع اشتعال الربيع العربي وارتفاع الصراخ في المحيط، وقف من ينظّر لنهاية شهر العسل بين سنة لبنان وأولوياتهم المستجدة. قالوا إن اغتيال رفيق الحريري لن يُشكل سدًا منيعًا بوجه انفجار التاريخ. صحيحٌ أنه ادخلهم في هاجس مُحكم الإغلاق، لكن وهج المتحركات من دمشق إلى القاهرة يتخطى أي قدرة على التطويق، بل وأي رغبة في الاستكانة. هي مسألة أيام لا أكثر. حينها ستكتشفون أن الأحداث الممتدة من خمسينيات القرن الماضي وصولاً إلى الحرب الأهلية لم تكن سوى نزهة عابرة.
اشتعلت طرابلس وصيدا والأطراف. بدت بيروت أقل حماسة من أخواتها تجاه الانخراط في الانعطافة المؤكدة، لكنها واكبت إلى حد بعيد حجم التغيرات المريعة. أطل الخطاب الديني والسياسي المشتعل. تحولت المساجد والمنابر إلى ما يشبه بركانًا يفيض بالقهر والمظلومية ويُحرّض على الثأر والقصاص. راح السنّة يتجهزون لمعركتهم الكبرى، وراح الشارع برمته يبحث عن زعيم يواكب هذا الصخب وهذه الثورة المفصلية.
سريعًا حطت المعارك رحالها، وفقد الخطاب شعبويته الكاسحة. بدا الأمر وكأنه مجرد تبديد عاجل لاحتقان مزمن: لقد فشل الرهان على انجراف جماعي نحو الحريق. ثم جاءت المعطيات والحقائق لتنسف كل الحسابات وكل الروايات، حيث أكدت الأرقام الموثقة أن عدد اللبنانيين السنة الذين انخرطوا في النزاع السوري المسلّح يساوي، مثلاً، عدد الاستراليين أو الأميركيين الذين يقاتلون في سوريا، بل وأن عدد المشاركين من دول الاتحاد الأوروبي قد يتجاوزهم بأضعاف مضاعفة.
إصطدم سعد الحريري بالمملكة التي صفعته كما لم تصفع أحدًا في تاريخها. كان الاصطدام رهيبًا ومريعًا ويضج بالعبثية والارتجال. توهمت القيادة السعودية بجيلها الحفيد أن لبنان يعيش في فراغ
التسوية المؤلمة
على سجيّة مخايل الضاهر أو الفوضى، كان الخيار محصورًا بين ميشال عون وميشال عون. دخل السنة التسوية المؤلمة على نحو مباغت، ثم راحوا يُمنّون النفس بأبغض الحلال: أن نشتبك داخل المؤسسات، أفضل بألف مرة ومرة من نفق نهرول عبره جميعًا نحو الهاوية.
لم يكن الخيار سهلًا على الكثرة الكاثرة من الوجدان السنيّ. شعر الشارع برهبة موصوفة. بدا وكأنه يقبض على جمرة صبّ فيها التاريخ ما تيّسر من الكيد والقهر والمرارة. هو يدرك تمامًا أن التسوية لن تؤسس لمصالحة حقيقية بينه وبين المارونية العميقة، لا سيما في لحظات الضعف واندثار الهالة وأفول الزعامة، حيث أنها أقرب ما تكون حينها إلى الهزيمة والاستسلام، منها إلى تسوية نديّة وعاقلة.
تشكّل رأي سياسي وازن عقب وصول ميشال عون. محور الجذب والاشتباك تركّز حول إظهار سعد الحريري بصورة الضعيف الواهن والعاجز عن إدارة ملف بحجم سنة لبنان، ما دفع السعودية نحو سلسلة من الخيارات الصادمة وغير المحسوبة، وقد انعكست في الشارع على نحو مختلف ومباغت، حيث انتقل الصراخ من ضفة إلى أخرى، ثم بدأت الغالبية السنية الجارفة بقراءة المتحرك السعودي المستجد على النحو الآتي:
هل المطلوب منا أن نفجّر الاستقرار الأمني والسياسي بهدف ارساء توازن مستحيل مع ايران؟ هل نذهب نحو مواجهة مفتوحة تشبه عاصفة الحزم التي عجزت حتى الآن عن تحرير صنعاء؟ هل نستنسخ حمام الدم في سوريا أو العراق؟ لماذا علينا أن نواجه؟ بل لماذا علينا أن نُخرّب بلدنا؟
ثمة تجربة مريرة بدأت عقب شطب رفيق الحريري. دخلنا بعدها كل أنواع المواجهة. لامس الاحتقان السياسي والمذهبي مستويات غير مسبوقة على الإطلاق. جربنا كل أنواع النضال، من الشعارات المخملية إلى القدح والذم والشتائم. تضاربنا. تناحرنا. لاحقناهم بالدولة ومنطقها والعبور إليها، فلاحقونا بالعبوات الناسفة إلى قبورنا. قتلوا ألمع رجالنا. بددوا جُل أحلامنا. ثم قطعوا تذكرة ذهاب بلا عودة لزعيم أكبر تكتل نيابي، وأكبر حيثية سنية في تاريخ لبنان.
ماذا فعلت السعودية؟ ماذا فعل العرب؟ ماذا فعل العالم؟ .. لا شيء. لقد واجهنا وحدنا هذا النزيف الهائل وهذا القهر الرهيب. دفعنا من دمنا ومن حياتنا ومستقبل أطفالنا لقاء معركة تتخطى قدرتنا على حسمها أو التأثير بها. كنا مجرد بيادق في مشاريع كبرى. ارتمينا نحن البائسون اليائسون في خضم مواجهة مستطيرة مع منظومة تحترف الشطب والقتل والترويع. ظننا أنه نفق الزامي لخلاص أكيد. وأن النصر صبر ساعة. فصبرنا وانتظرنا بلا طائل ولا أفق. ثم كان لزامًا علينا أن نستسلم. أن ندّور الزوايا الحادة، وأن نبحث عن شعاع أمل في قلب هذا الركام.
الخطيئة الكبرى
سارعت السعودية إلى احتجاز سعد الحريري انطلاقًا من يقينها المُطلق بعدم أهليته الشخصية والسياسية لقيادة السنة أو المرحلة. هذا ما قالته بشكل مباشر أو موارب. وهذا ما يستند إلى مروحة واسعة جدًا من مشاوراتها الدورية مع النافذين وأصحاب القرار، لا سيما أولئك الذين باتوا يسيطرون بشكل متعاظم على الأعمدة الخمسة التي تحمل السنية السياسية، ناهيك عن وجدان شعبي جارف راح يتوزع بين الحياد واللامبالاة، وبين الارتصاف في ركاب الأصوات المناهضة والرافضة لما اتفقوا على تسميته بالاستسلام والانبطاح.
لم تكن الخطوة السعودية المفاجئة وليدة فراغ أو تطور دراماتيكي غير محسوب، بل تماهت مع استطلاعات تفصيلية وحركة سنية نشطة، ناهيك عن كثرة كاثرة من الآراء التي أجمعت على رفضها أو امتعاضها من مسار التسوية، لا سيما لجهة الحضور الدقيق في تركيبة النظام، وما قد يرتبه أي خلل أو تنازل على دور السنة وفعاليتهم، انطلاقًا من رغبة تاريخية دفينة تتعلق بنسف المضمون السياسي لاتفاق الطائف ومفاعيله القائمة. وصولًا إلى الإقصاء التدريجي عبر استحقاقات تتخذ طابعًا ديمقراطيًا، لكنها تؤسس عمليًا لفرض واقع سياسي واجتماعي جديد.
إصطدم سعد الحريري بالمملكة التي صفعته كما لم تصفع أحدًا في تاريخها. كان الإصطدام رهيبًا ومريعًا ويضج بالعبثية والإرتجال. توهمت القيادة السعودية بجيلها الحفيد أن لبنان يعيش في الفراغ، وأن التعاطي مع حالته السنية والوطنية يستوي مع هذه العجالة ومع هذا التسطيح المبتذل الذي تجاوز حدود الاستفزاز.
سعد الحريري كان ولا يزال في مكان مختلف. يشعر أن التسويات الكبرى لا بد أن تتلازم مع رشاقة سياسية تُتيح تقديم تنازلات تاريخية، ولو على حساب شارعه وزعامته. لكنه اصطدم على نحو مباغت بسلسلة متلاحقة من الجدارات الصلبة، والتي بدأت مع جمهوره الممتعض من التنازلات المجانية. ثم مع مجموعة وازنة من كتلته النيابية. لتعود وتنسحب على كوكبة كبيرة جدًا من الفعاليات السنية والوطنية.
الانتقام وسحق الذات
عاد مكسور الخاطر والجناح. ابتلع صفعة الرياض وقال سأحتفظ بتفاصيلها. أما شارعه المربك، فقد سارع نحو تجرع عشرات السيناريوهات المرعبة التي تضج بها كبريات الصحف في العالم. لم يلتقط سعد الحريري اللحظة. ولم يُحسن احتضان التعاطف الشعبي الجارف. جذبه شذاذ الآفاق نحو الاشتباك في الأزقة. قال بأن بحصة كبيرة ترقد في فمه، وإن أحزابًا وشخصيات ساهمت في توبيخه وإهانته على النحو الذي استقيناه من وسائل الإعلام.
عاجلاً عمد سعد الحريري إلى تفريغ الحالة الحريرية من مضمونها السياسي وإرثها التاريخي، عبر تحويلها من منصة وطنية تقبض على القضية والشرعية والوجدان، إلى نسخة جديدة منفصلة تمامًا عن الواقع وعن التاريخ، عبر الإطاحة المزدوجة بالعقول الباردة وبالرؤوس الحامية، مستندًا في ذلك إلى رغبة شخصية، وإلى نصائح ملغومة تتمحور حول ضرورة استبعاد الأقوياء والملاكمين واستبدالهم بأشباح وأصنام على شاكلة أولئك الذين يسكنون المجاهل أو متاحف الشمع.
هرب من الحقائق الموجعة إلى الانتقام والتشفي من الحلفاء ومن الأصدقاء. فعاقب فؤاد السنيورة ونهاد المشنوق وأشرف ريفي وغيرهم على تمايزهم وفرادتهم وعلى موقفهم التاريخي والشجاع من تسويات بلا أفق، وذهب نحو توزيع الصفعات واللعنات والشتائم بحقهم وحق أولئك الذين وقفوا كالرمح في مواجهات قاتلة وحامية الوطيس، غير أبهٍ لفداحة هذا المنزلق وانعكاسه الرهيب على البيئة التي تحتضن ما اصطلح على تسميته الحريرية السياسية أو الوطنية، وعلى حضورها الكامل والوازن والمؤثر في تركيبة الدولة والنظام.
الحريرية السياسية فقدت برحيل رفيق الحريري أبرز مقومات وجودها وتألقها، وتحولت مع وريثه من عنوان دائم للتميّز والتفوق والنجاح إلى ما يتجاوز التخبط والعشوائية والفشل
بعد الانتخابات عام 2018، تعاطى سعد الحريري مع اللعبة السياسية الخشنة، ومع التركيبة الفظيعة للنظام، ومع الهجمة الشرسة على الحقوق والصلاحيات والحضور، بعقلية لا تستوي حتى في المدن الفاضلة. حيث يريد لفريقه الوزاري الآتي من ذهنية المجتمع المدني أو من خلفية تكنوقراطية أن ينجح في مواجهة عُتاة السياسة وغُلاتهم على طاولة مجلس الوزراء، وهو نسخة مطابقة تمامًا عن فريقه النيابي، الذي بات يترواح بين أولئك الذين يتعثرون أمام أبسط الأصول الاجتماعية والسياسية، وبين من تم استيرادهم من أحضان علي المملوك، فيما تغيب السياسة ويغيب أهلها لحساب أولئك الذين يبصمون ولا يناقشون.
بدا سعد الحريري ضعيفًا. مترهلًا. لا حول له ولا قوة. يحاول أن يستعيد رفيق الحريري السياسي. التسووي. المنفتح. دون الارتكاز على أرضية صلبة تخوله لعب هذا الدور أو استعادته. هو يعاني ضمن بيئته بعد سلسلة طويلة من الكبوات المتلاحقة، فضلًا عن التقلص المتدحرج لثقة الناس ولهيبته، وهذا بحد ذاته عنوانًا يستلزم إعادة النظر بكل شيء، انطلاقًا من رئاسة الحكومة، وصولًا حتى أصغر تفصيل في المماحكات اليومية.
في غمرة هذا الهوان. أعلنت غالبية المؤسسات التابعة لسعد الحريري إفلاسها وإغلاق أبوابها بعد صراع طويل، من سعودي أوجيه، الامبراطورية التي صنعها رفيق الحريري وصنعته، إلى جريدة وتلفزيون المستقبل. لا حاجة هنا لتشريح الأسباب والمسؤوليات. يكفي أن نخلُص إلى النتيجة المؤلمة: الحريرية السياسية فقدت برحيل رفيق الحريري أبرز مقومات وجودها وتألقها، وتحولت مع وريثه من عنوان دائم للتميّز والتفوق والنجاح إلى ما يتجاوز التخبط والعشوائية والفشل.