لبنان بين ضرورات تجنّب الحرب الإسرائيلية.. ومتطلّبات الحماية الوطنية

يجد لبنان نفسه اليوم أمام مفارقة معقّدة في مسار التفاوض مع إسرائيل؛ مفارقة تحمل أربعة أهداف متداخلة، بعضها مفروض عليه بحكم الواقع الجغرافي والسياسي، وبعضها الآخر نتيجة حسابات داخلية وخارجية لا يمكن تجاهلها. فهو من جهة يسعى إلى تجنّب سيناريو دموي شبيه بما حلّ بغزّة، ومن جهة ثانية يريد تفادي حرب واسعة قد تُستنزف فيها قدرات حزب الله بما يتجاوز طاقته الحالية.
يُدرك اللبنانيون أن أي مسار تفاوضي في هذه اللحظة قد يتحوّل- سواء أراد لبنان أم لا- إلى مكسب سياسي لكلّ من بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب: الأول، لكي يستعيد موقعًا مهتزًّا دوليًا، والثاني، ليُقدّم نفسه صانعًا للسلام في لحظة انتخابية داخلية حسّاسة.
لكن الأسئلة الوجودية تبقى: هل تُجدي هذه “الهدايا”؟ وهل يصحّ رهان رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون على أن “التفاوض أجدى من الحرب”؟
التجارب العربية مع إسرائيل منذ كامب ديفيد حتى أوسلو فوّضت لنا جوابًا قاسيًا: التفاوض لم يمنع استيطانًا، ولم يوقف اقتلاع زيتونة واحدة، ولم يحمِ طفلًا فلسطينيًا من الرصاص، باستثناء استعادة سيناء التي أتت بعد إنجاز عسكري كبير عام 1973. كل ذلك يذكّر بأن التفاوض لا يحمِل ضمانات بحدّ ذاته، وأنّ موازين القوى هي التي ترسم حدوده ونتائجه.
الإشكالية الكبرى اليوم أن لبنان يبدو وكأنه يذهب إلى مفاوضات شائكة بمرونة عالية لكن دون أوراق ضغط متماسكة. فالاكتفاء بتقديم “حسن النية” — سواء عبر إبراز الرغبة بالسلام أو فتح نقاش حول مستقبل سلاح حزب الله — سيحوّل المفاوضات إلى مساحة تستثمرها إسرائيل لتأكيد تفوّقها وفرض شروطها.
نتنياهو، الذي يبني سرديته على أنّ إسرائيل لا تتراجع إلا أمام القوة، سيقرأ أي ليونة لبنانية على أنها انحناءة سياسية، لا خيار تكتيكياً، ما يكرّس مفاوضات غير متكافئة منذ اللحظة الأولى.
ولكي لا يدخل لبنان في مسار تفاوضي ينتهي به في نهاية المطاف إلى موقع الطرف الأضعف، فهو يحتاج إلى:
1. إنشاء ملف تفاوضي متماسك ومهني؛ تُعدّه مجموعة مشتركة من خبراء لبنانيين، وعرب، وأصدقاء دوليين، بهدف وضع رؤية تفاوضية متكاملة تتضمن خرائط، وثائق قانونية، سوابق دولية، وحجج سياسية وأمنية راسخة.
2. مظلّة عربية-أوروبية واسعة؛ مدعومة من أطراف اقليمية عربية واسلامية إضافة الى دول أوروبية في طليعتها فرنسا، بما يوفّر غطاءً سياسيًا يمنع انفراد واشنطن بإدارة المسار وضرب مصالح لبنان.
3. استمرار التنسيق مع الصين وروسيا، ليس للتناقض مع واشنطن، بل لتوسيع الحيّز الدبلوماسي الذي يمنح لبنان هامشًا أكبر في رفض الابتزاز السياسي والعسكري.
4. عدم التخلي عن عناصر القوة اللبنانية؛ فسواء توافق اللبنانيون أو اختلفوا حول سلاح حزب الله، فإن رفعه عن الطاولة قبل أي تفاوض سيعني نسف آخر ورقة ضغط بيد الدولة اللبنانية، وتحويل المفاوضات إلى استسلام دبلوماسي لا عملية سياسية.
في الخلاصة؛ التفاوض ليس استسلامًا، والحرب ليست خيارًا، وما بينهما مساحة دقيقة يجب أن تُدار بعقل بارد، ورؤية صلبة، وواقعية لا تعني الخضوع بل التمسّك بحقّ البقاء كدولة لها وزن وموقف، لا ككيان يُراد له أن يفاوض من موقع الضعف.
نعم؛ التفاوض ليس عيبًا ولا هدفاً بذاته، لكن الخطأ القاتل هو الذهاب إلى التفاوض بلا أوراق، وبلا جبهة داخلية متماسكة، وبلا شبكة أمان خارجية.
لبنان لا يحتاج إلى إعلان حسن النية بقدر ما يحتاج إلى تثبيت معادلة واضحة: السلام يُصنع بالتوازن، لا بالتنازل؛ وبالقدرة على الرفض بقدر القدرة على القبول؛ وبامتلاك أوراق قوّة تمنع إسرائيل من فرض إيقاعها.
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "هآرتس": إسرائيل "دولتان".. برؤى متناقضة!
هشام الأعور

أكاديمي وكاتب سياسي لبناني

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  مستر بلينكن؛ عندما يَعْجَزُ الكلام.. تموت الإنسانيّة