لبنان وصندوق النقد: المسار المُرّ

علي نورعلي نور27/02/2020
ينشغل الرأي العام اللبناني بقضية سندات اليوروبوند المستحقة في الأشهر الأربعة المقبلة، وفيما تسعى الحكومة لإيجاد المخارج التي تضمن عدم دفع أول مبلغ مستحق في 9 آذار/مارس 2020 بقيمة 800 مليون دولار للمصارف الأجنبية (من أصل 1.2 مليار دولار )، أو دفع فوائد السندات المستحقة للعام 2020 كلها (أكثر من 300 مليون دولار)، كان لافتاً للإنتباه أن المصارف اللبنانية تمضي في عملية بيع سنداتها خارجياً بلا أية ضوابط وخصوصا من مصرف لبنان المركزي القادر على وقف هذه العملية بشحطة قلم.

يتجه لبنان إلى التخلّف عن سداد قيمة سندات اليوروبوند التي تستحق في 9 آذار/مارس المقبل، وتبلغ قيمتها 1.2 مليار دولار. وتحضيراً لهذه الخطوة، قررت الحكومة اللبنانية، رسمياً إعتماد شركة “لازار” الأميركية لتقديم المشورة الماليّة، ومكتب “كليري غوتليب” الأميركي لتقديم المشورة القانونيّة. ومن المفترض أن يقدّم المستشار المالي للبنان الدراسات اللازمة لتقييم خيارات وسيناريوهات التوقّف عن السداد المختلفة، والكلفة الماليّة المترتبة على كل خيار، فيما سيعمل المكتب القانوني على الدفاع عن مصلحة الدولة اللبنانية وحماية موجوداتها وموجودات مصرف لبنان في الخارج بعد إعلان عدم السداد، كما يضع إستراتيجية قانونية (من ضمنها تحضير المستندات وغيرها).

في ظلّ هذا الأجواء، دخل صندوق النقد الدولي على الخط من باب تقديم “الدعم التقني” الذي طلبه لبنان رسميّاً في منتصف شهر شباط/فبراير الحالي. وخلال الأيّام الماضية، تركّز جهد وفد الصندوق على إجراء جولة من اللقاءات التي وصفت بالإستطلاعيّة، لغرض جمع المعلومات والتمهيد لتوفير الدعم التقني للبنان في إعداد خطّة تهدف للخروج من الأزمة الحاليّة. في كل الحالات، كان هناك تشديد دائم على أن دور الصندوق غير مرتبط بإعطاء المشورة لمسألة التخلّف عن سداد السندات تحديداً، بل بما يعتبرها الصندوق “إصلاحات مالية” قادرة على إخراج لبنان من الحالة الراهنة.

الدعم التقني مقدّمة للدعم المالي

في الشكل، مازال إطار عمل وفد صندوق النقد منحصراً بالدعم التقني فقط، الذي سينتج توصيات بـ”إصلاحات” معيّنة غير ملزمة، في إطار خطّة متكاملة ستعمل عليها الحكومة ومصرف لبنان بالتعاون مع صندوق النقد. لكنّ توفير الدعم التقني عمليّاً، ليس سوى مقدّمة ضروريّة لطلب رزمة من الدعم المالي، وما سيقترحه الصندوق من “إصلاحات” لن يكون سوى “الوصفة المطلوبة” في أي خطّة يجري إعدادها من أجل تقديم الدعم المالي في مراحل لاحقة.

وعلى أي حال، ثمّة ترابط وتداخل كبير بين ما سيجري إعتماده حالياً وما يمكن إعتماده مستقبلاً، فالخطّة التي سيعمل عليها لبنان بمعاونة صندوق النقد الدولي، اليوم، ستحدد حكماً حجم وطبيعة الدعم المالي المطلوب من الجهات الدوليّة، والتي سيتصدّرها صندوق النقد كونه المرشّح التقليدي للعب هذا النوع من الأدوار خلال فترات تعثّر الدول. وحتّى معظم الجهات الدوليّة الأخرى التي قد يراهن لبنان على دعمها المالي في إطار خططه المستقبليّة، من المتوقّع أن تربط هذا الدعم بدخول لبنان في إطار برنامج مع صندوق النقد، كحال فرنسا التي أبلغت السلطات اللبنانيّة مؤخّراً أن أي دعم مالي منها أو من الإتحاد الأوروبي مرتبط بدخول لبنان في برنامج مع الصندوق.

لماذا صندوق النقد؟

تتعامل الغالبيّة الساحقة من القوى السياسيّة في لبنان بمنطق التسليم لفكرة اللجوء إلى صندوق النقد (بإستثناء حزب الله الذي وافق فقط على طلب المساعدة التقنية حتى الآن)، بعيداً عن الحساسيّة التقليديّة من الأدوار السياسيّة التي يمكن أن يلعبها هذا النوع من برامج الدعم، مع العلم أن جميع هذه القوى تدرك مسبقاً أنّ الذهاب في هذا المسار سيُنتج خضّات إجتماعية كبيرة، ذلك أن توصيات صندوق النقد التلقيديّة غالباً ما تترك آثاراً إجتماعيّة مؤلمة، وخصوصاً تلك التي تنطوي على زيادة في الضرائب وتحرير سعر العملة الوطنية، وخصخصة الخدمات الحيويّة. وبالرغم من كل تلك التبعات السياسيّة ـ الإجتماعيّة، تدرك القوى السياسيّة الأساسيّة على الساحة اللبنانيّة أن اللجوء إلى الصندوق قد يكون أهون الشرور بالنسبة إلى مصالحها التي يوفرها لها النظام السياسي ـ الإقتصادي المعمول به منذ إتفاق الطائف حتى الآن.

تتعامل الغالبيّة الساحقة من القوى السياسيّة في لبنان بمنطق التسليم لفكرة اللجوء إلى صندوق النقد (بإستثناء حزب الله الذي وافق فقط على طلب المساعدة التقنية حتى الآن)، بعيداً عن الحساسيّة التقليديّة من الأدوار السياسيّة التي يمكن أن يلعبها هذا النوع من برامج الدعم، مع إدراك جميع هذه القوى أنّ الذهاب في هذا المسار سيُنتج خضّات إجتماعية كبيرة

تعني خطوة التخلّف الصريح عن دفع سندات الدين السيادي، بالنسبة إلى النظام الإقتصادي اللبناني، خروج الدولة اللبنانية من سوق السندات الدوليّة، وضعف قدرتها على بيع اي سندات في إكتتابات جديدة إلى أن تخرج الدولة من أزمتها التمويليّة القائمة (طبعاً تستطيع الدول الخروج بسرعة ولكن للأمر شروطه). يعني هذا الأمر عمليّاً فقدان القدرة على إعادة تمويل الدين العام بالعملات الصعبة بهذه الطريقة، حتّى لو تمّت عمليّة إعادة هيكلة أو جدولة هذا الدين. وفي المقلب الآخر، بات النظام المالي أيضاً عاجزاً عن إستقطاب أية تحويلات خارجيّة تغذّي موجودات البلاد بالعملة الصعبة، خصوصاً بعد دخوله في مرحلة التعثّر الصريح منذ تشرين الأوّل/أكتوبر 2019.

وهكذا، تتلازم أزمتان ترتبط كل منهما بمسألة السيولة بالعملة الصعبة: الأولى، تطال ماليّة الدولة وقدرة الدولة على الإستمرار في حالة التعثّر، والثانية، ترتبط بالقطاع المالي. وإذا كان تعثّر الدولة يطال أوّلاً قدرة النظام السياسي بأسره على الصمود من دون وجود تصوّر لمخارج سياسية واضحة (صيغة جديدة بصريح العبارة)، فإن تعثّر القطاع المصرفي سيرتد سريعاً على قدرة البلاد على توفير السيولة اللازمة للإستيراد في المستقبل، وخصوصاً بالنسبة للسلع الحيويّة التي لا مفر من إستيرادها كالدواء والطحين والمحروقات.

ثمّة حلول جذريّة على المستوى المحلّي يشير إليها بعض الخبراء الإقتصاديين، اليوم، وهي من نوع الحلول التي لا تستلزم رزم الدعم المالي الخارجي من صندوق النقد. وكل تلك الحلول تمرّ من خلال إعادة نظر شاملة في طبيعة النموذج الإقتصادي اللبناني، والإندفاع بإتجاه إعادة هيكلة القطاع المالي بشقيه (مصرف لبنان والمصارف الخاصة) بما يرمي كلفة التصحيح وإعادة التوازن على الشرائح الأكثر ملاءة من المودعين والمساهمين في القطاع المصرفي. وتشمل هذه النظرة عمليّة تفاوض شرسة بما يخص الدين العام، تفضي في النهاية إلى تقليص أثره على المجتمع وماليّة الدولة.

إقرأ على موقع 180  عندما تصبح هونغ كونغ أقرب سياسياً للرياض من بيروت

لكنّ هذه الحلول تستلزم أوّلاً الإنقلاب على النخبة المستفيدة من النموذج الإقتصادي الموجود، وهي فئة ذات مصالح متشابكة بشكل وثيق مع مصالح الطبقة السياسيّة المهيمنة على القرار في لبنان. وبينما يفتقد هذا النوع من الحلول للإرادة السياسيّة اللازمة لتطبيقها، تجد الحكومة نفسها متجهة تلقائيّاً للخيار الأقل صعوبة والأسرع أثراً، وهو الإعتماد على رزم الدعم المالي المترافقة مع برنامج صندوق النقد الدولي. وعمليّاً، ستسمح جرعات الدعم هذه بشراء الوقت أولاً على المدى القصير الأجل، وبفرض تصحيح في ميزانيّة الدولة وهيكليّة القطاع المالي على المدى الأطول، وهو ما سيسمح بتجديد النموذج الإقتصادي القائم منذ الطائف حتى يومنا هذا.

سقوف وآليات الدعم المحتملة

بحسب آليّات عمل وإقراض صندوق النقد الدولي، من المفترض أن يكون للبنان كعضو في الصندوق الحق التلقائي في الإستفادة من “إتفاقات الإستعداد الإئتماني”، وهي أحد برامج الإقراض التي يمنحها الصندوق للدول التي تعاني من مشاكل قصيرة الأجل في ميزان المدفوعات. وعادةً ما تتم جدولة القرض على دفعات فصليّة (فترة تصل لغاية سنتين)، على أن تبدأ فترة السداد بعد فترة سماح يمكن أن تبلغ ثلاث سنوات وربع بعد إنفاق المبلغ. لكنّ سقف هذا البرنامج الإئتماني يبلغ بحسب قواعد عمل الصندوق والكوتا التي يتمتّع بها لبنان حاليّاً حوالي ال1.25 مليار دولار في السنة الواحدة، و3.77 مليار دولار في جميع السنوات التي يستفيد خلالها لبنان من هذا البرنامج. وبالتالي، فان السقف الذي يحدده الصندوق لإستفادة لبنان من هذا البرنامج يُعد منخفضاً بالنسبة إلى حاجات لبنان التمويليّة خلال السنوات المقبلة.

البديل بالنسبة إلى لبنان، سيكون طلب ولوج إستثنائي إلى برنامج إتفاقات الإستعداد الإئتماني، وهو ما يعطي لبنان القدرة على طلب مبالغ أكبر وخارج السقف الإئتماني الذي يضعه الصندوق لهذه الإتفاقات. وبينما لا تنص قواعد الصندوق على سقف محدد لهذا النوع من البرامج الإستثنائيّة، تدل تجربة الصندوق مع الدول التي إستفادت من برامج مماثلة مؤخراً على إمكانيّة بلوغ قيمة القرض حدود ال8.5 مليار دولار، وذلك أخذاً بالإعتبار قيمة الكوتا الخاصّة بلبنان في الصندوق. أمّا الأهم هنا، فهو أن الصندوق لن يعتبر أن إستفادة لبنان من هذا البرنامج حق مكتسب، بل سيكون خاضعاً لموافقة خاصّة تعتمد على شروط أربعة واضحة تحددها قواعد عمل الصندوق.

الشرط الأوّل هو مسألة موضوعيّة يمكن قياسها بدقّة متناهية وفقاً للموشرات الحاليّة، وهي مرور البلاد في مرحلة عجز كبير في ميزان المدفوعات، وهو ما يبرر حاجة البلد المعني لهذا القرض الإستثنائي. أمّا الشروط الثلاثة الأخرى فتتعلّق بإستدامة الدين العام على المدى المتوسّط بعد منح القرض، وإمكانيّة إستعادة البلد المعني لقدرته على الإستدانة من الأسواق خلال فترة معقولة تمكّنه من سداد قيمة قرض الصندوق، وتمتّع البرنامج الذي يضعه الصندوق مع البلد المعني بفرص معقولة للنجاح، وقدرة المؤسسات السياسيّة على توفير شروط هذا النجاح.

وهكذا، يمكن الإلتفات سريعاً إلى الشروط الأربعة التي يُفترض أن تمثّل معايير موضوعيّة لمنح القرض، فهي تحتوي على ثلاثة شروط لا يمكن قياس إمكانيّة تحققها إلّا وفقاً لتقدير بعثات الصندوق الإستنسابيّة لنوعيّة “الإصلاحات” التي تقوم بها الدولة المعنيّة. فالشروط هذه – بإستثناء شرط عجز ميزان المدفوعات – كلّها تتعلّق بتقييم بعثات الصندوق لمستقبل الخطط التي سيعتمدها البلد الذي يطلب القرض، وتوقّعات الصندوق لمدى فعاليّة هذه الخطط، وهذه التوقّعات تعتمد حكماً على أولويّات الصندوق والسياسات التي يبشّر بها عادةً في جميع توصياته.

ماذا يريد الصندوق من لبنان؟

وهكذا، تعزز قواعد عمل الصندوق الإعتقاد بأن منح أي قرض إستثنائي للبنان سيعتمد على تنفيذ البلاد لأجندة الصندوق على المستويين النقدي والمالي. ومن السهل تنبّؤ طبيعة “الإصلاحات” التي سيطلبها الصندوق من لبنان، خصوصاً أنّها تكررت في تقارير بعثة مشاورات المادّة الرابعة خلال السنوات الماضية. فالتقارير ركّزت على تحقيق زيادة كبيرة وفوريّة في الإيرادات من خلال زيادة الضريبة على القيمة المضافة، وزيادة رسم على مبيعات المحروقات. كما أوصى تقرير البعثة للسنة الماضية بتوسيع قاعدة الضريبة على القيمة المضافة، من خلال إلغاء أشكال مختلفة من الإعفاءات على بعض السلع من هذه الضريبة. وبالإضافة إلى هذه التوصيات الضريبيّة، يوصي الصندوق على نحو متكرر بمعالجة ملف الكهرباء، من خلال الإلغاء الفوري للدعم الذي تقدّمه الدولة لمؤسسة كهرباء لبنان.

بالإضافة إلى كل ذلك، إستفاض التقرير الأخير في الإشارة إلى التبعات السلبيّة لسياسة تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية التي ينتهجها مصرف لبنان، مع العلم أن الوفد الإستطلاعي الأخير للصندوق ركّز خلال جميع لقاءاته على تحرير سعر صرف العملة الوطنية والتي تمثّل إحدى التوجّهات المعروفة للصندوق في جميع الدول، وتمثّل الخصخصة بدورها ركيزة أساسيّة أخرى في توجّهات الصندوق المعروفة.

في الخلاصة، ليس هناك اسهل من توقّع توجّهات الصندوق في ما يخص الأزمة النقديّة والماليّة اللبنانيّة خلال الفترة المقبلة. ومن الطبيعي جدّاً أن تشترط وفود الصندوق خلال توفير المشورة التقنية إتباع هذه التوجّهات، قبل مراهنة لبنان على أي تمويل من قبل الصندوق أو الدول التي تربط مساعداتها برزم دعم الصندوق. ما ينبغي إنتظاره خلال الفترة المقبلة سيكون معرفة مدى تجاوب الدولة مع جميع شروط الصندوق في سبيل تأمين الموافقة على برنامج الدعم، أو بالمقابل مدى قدرتها على فرض أجندة تأخذ بالإعتبار أولويّات العدالة الإجتماعيّة وحماية الفئات الأضعف إجتماعيّاً، وهي أولويات لا ينظر لها الصندوق في شروطه و”إصلاحاته”.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  السعودية وإيران.. خيارات المواجهة والتقارب