بعدها بفترة طويلة، جاء سؤال من شخص مرهف وأديب وشاعر وكاتب، وهو الآخر مخضرم أيضًا! وكان السؤال منحصرًا في الطائفية والهوية، وبعيدًا عن المشهد العام ومحور الحديث الذي كان حول الانتهاكات في مجال حقوق الإنسان في بعض الدول التي شهدت تحولات في قياداتها السياسية أو أنظمتها. هو الآخر أنكر جرائم القتل والتنكيل، وراح ينبش خلف الهويات الضيقة. راح يسأل عن تلك الطائفة وغيرها، وحصر الأمر مرة أخرى في الهويات الصغيرة المقسّمة لأي مجتمع، والتي أصبحت مادة دسمة في يد الإعلام «الموجَّه» ووسائل التواصل الاجتماعي «المُجَيَّشَة»، التي ساهمت في تحويل الهوية إلى هويات تفرّق لا تجمع.
***
لم يرَ مما يحدث سوى تحولات طبيعية في مجرى بناء الدولة الحقيقية، الذي تأخر في كثير من دول المنطقة لأسباب ليس مجال شرحها هنا. هو الآخر شرع الأبواب للبحث عن مفهوم الهوية، وكيف تحوّل من هوية جامعة إلى هويات تقسّم وتفتّت المفتّت، وتصبح مادة دسمة في يد الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي «الموجَّهة»، لتزيد من حجم الانقسام وتصبح الهوية أصغر من خُرْم في حائط.
***
لم تكن الهوية، في أصلها، مشروع صراع. وُلدت بوصفها تعريفًا للذات، وجسرًا بين الفرد ومحيطه، ومظلّة انتماء تمنح الإنسان شعورًا بالمعنى والاستمرارية. كانت الهوية الثقافية أو الدينية أو الوطنية إطارًا جامعًا يسمح بالتنوّع داخله، لا سكينًا تُجزَّأ بها المجتمعات، بل ربما تُذبح. غير أن التحوّل الأخطر الذي شهده عالمنا المعاصر هو انتقال الهوية من كونها فضاءً للانتماء إلى كونها أداة تُدار سياسيًا لإنتاج الفرقة والاقتتال.
***
وربما قدّم «الربيع العربي» مثالًا صارخًا على هذا المسار، حيث انطلقت الانتفاضات الأولى بشعارات جامعة: الكرامة، الحرية، العدالة الاجتماعية، دولة القانون. لم يكن سؤال الهوية حاضرًا في الميادين، ولم تكن الانتماءات الفرعية هي المحرّك. لكن ما إن تعثّر الانتقال السياسي، وتقدّمت مشاريع السلطة المضادّة، حتى جرى استدعاء الهوية كسلاح. تحوّلت الثورات إلى صراعات داخلية، وتبدّل الصراع من مواجهة الاستبداد إلى اقتتال بين مكوّنات المجتمع الواحد، كلٌّ باسم «حماية هويته».
***
في سوريا ولبنان واليمن وليبيا والعراق والسودان وغيرها، رأينا كيف تُدار الهوية لا بوصفها حقيقة اجتماعية، بل كأداة تعبئة وتخويف. صارت الطائفة بديلًا عن الدولة، والعرق بديلًا عن المواطنة، والانتماء الضيق بديلًا عن العقد الاجتماعي. ومع غياب الدولة العادلة، تصبح الهوية الملاذ الأخير، لكنها ملاذ هشّ، يتحوّل بسرعة إلى قيد وسجن. بل تصبح وسيلة لضرب أي مشروع طمحت وتطمح إليه الشعوب في المنطقة، من النهوض بمفهوم الدولة الحاضنة العادلة والجامعة، بدلًا من النخب السياسية التي تحكم فتقسّم، أو حتى الفضاءات الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي والجيوش الإلكترونية، التي أصبحت مهمتها الرئيسية تفكيك المجتمعات وزراعة الشكوك بين المواطن والمواطن، بل وخلق أجواء من الكراهية والخوف من «الآخر»، حتى يصبح العيش المشترك وهمًا، والتعددية خطرًا على ما يسمّونه «هوية الوطن»، حسب مفهومهم المحصور في مصالحهم الضيقة أو ربما مشروعهم السياسي!
***
هنا تتحوّل الهوية، أو الهويات، من كونها مصدرَ غنىً حضاريًا في أي مجتمع إلى مشروع تفتيت سياسي وثقافي، قابل أحيانًا للتحوّل إلى حرب أهلية، كما حذّر ابن خلدون منذ عصور. وجاء بعده بعقود الاقتصادي الهندي أمارتيا صن ليعيد التأكيد على أن الإنسان لا يُختزل في هوية واحدة، لأنه كائن متعدد الطبقات، والانتماء الواحد حين يُفرض يتحوّل إلى قفص يُدار ويُغذّى من قبل أجهزة مختصّة، حتى تفقد المجتمعات، الصغيرة منها والكبيرة، قدرتها على العيش معًا. أما حسن أوريد، ففي كتابه الجديد «فخ الهويات»، يفتح أبوابًا واسعة لإعادة النقاش حول الهوية وما تحمله من قدرة على الجمع أو التفرقة والتمزّق المدمّرين، حيث تصبح الهوية الضيقة بديلًا عن المواطنة والعدالة، وستارًا لإخفاء فشل الدولة!
(*) بالتزامن مع “الشروق“
