العرب والذكاء الاصطناعي.. أداة للتبعية أم للتنمية والاستقلال؟

من الواضح أنّ الذكاء الاصطناعي يشكّل طفرةً كبرى، ليس فقط على الصعيد التقنيّ، بل أيضاً على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. ولا شكّ أن تطبيقات مذهلة وشديدة الفائدة تقوم على أساس برمجيّاته.

تتباين توقّعات المؤسّسات الكبرى كثيراً حول آثار الذكاء الإصطناعي. صندوق النقد الدولي يقول إنّه سيؤثّر سلباً على 40% من فرص العمل العالمية الحالية، بينما تقول توقّعات ماكينزي إنّ زيادة الناتج المحليّ العالمي سيتراوح بين 17 و26 تريليون دولار سنويّاً. هذا في حين يرى دارون عاصم أوغلو، أستاذ معهد ماساشوستس للتكنولوجيا الحائز على جائزة نوبل، أنّ هذه كلّها مجرّد مبالغات. ما يعني أنّه لا يُمكن أخذ إجابة يُعتمد عليها حتّى عند سؤال الذكاء الاصطناعي ذاته عن آثاره المستقبليّة؟

لقد دخل الذكاء الاصطناعي جميع المجالات وأحدث ثورات في ميادين الصحة والصناعة والقطاع المالي والتجارة والنقل واللوجستيات والطاقة والخدمات والزراعة والري… والبرمجة وغيرها. وباتت الاستثمارات التي تُصرَف على تطبيقاته ضخمة جداً. وبالفعل بات أثره عميقاً في كلّ هذه الميادين. وقد فتح الذكاء الاصطناعي معركةً كبرى حول جمع واستحواذ البيانات التي تشكّل “وقود” عمله، وحول القدرات الحسابيّة، وبخاصّةً بين الولايات المتحدة والصين. وباتت أكبر تحديات تشغيل برامجه هي مصادر الطاقة والبصمة الكربونية، وكذلك مصادر المياه المُكرّسة للتبريد.

في المقابل، يظهر أيضاً جليّاً أنّ الذكاء الاصطناعي يقلّل من فرص العمل ويزيد البطالة. هكذا بات الترابط متوازياً بين ارتفاع أسعار البورصات وارتفاع معدّلات البطالة. كما أنّه سيُرتب آثاراً سلبيّة على الطبقات الوسطى في المجتمع، إذ أنّ معظم مهن الفئات المتعلّمة سيُمكن استبدالها بالذكاء الاصطناعي، في حين ما زال الأمر بعيداً عن الحرف وعن مهن الفئات البسيطة، غير النظامية غالباً. ما يعني تأثيراً كبيراً ليس فقط على الأجور، بل أيضاً في زيادة الفجوة بين رأس المال والعمل، كما يشير إليه عاصم أوغلو. وبالتالي ليس واضحاً أنّ الذكاء الاصطناعي سيُحسّن فعليّاً وحقيقةً… الرفاهية للأفراد والمجتمعات.

كما بات الذكاء الاصطناعي اليوم أيضاً.. “موضة”، وذلك بمعنى أنّه غدا علامة تسويق تضعها بعض الشركات دون فعاليّة حقيقيّة في زيادة الإنتاجيّة، وكذلك حجّة لصرف مئات المشتغلين. وهناك هوس استثماري حول الذكاء الاصطناعي، ما يشير إلى إمكانيّة انفجار “فقاعة” مالية تخصّه. فقاعةٌ تماثل “فقاعة” شركات الانترنت عام 2000. إلاّ أنّ هذه التقنيّة باتت “صلبة” ولها زبائن حقيقيّون ولديها بنى تحتيّة فعليّة وتضخّ فيها أموال حكومية كبيرة، على عكس الانترنت حينها. بالتالي سيحدث على الأغلب “تنظيف صحيّ” لهوس الاستثمار، وستبرز الاختناقات في الحوسبة والطاقة وسلاسل الإمداد. وهكذا سيخفّ الضجيج، لكن من دون انهيار.

إنّ جزءاً كبيراً من الأموال الحكوميّة التي تُضخّ في الذكاء الاصطناعي، يرتبط بالدفاع والأمن، بما فيه الأمن السيبراني. إذ يشكّل الذكاء الاصطناعي سلاحاً للتلاعب بالرأي العام والانتخابات بغرض الهيمنة وفي الصراعات الدوليّة، وكذلك في الحروب. هكذا لعب الذكاء الاصطناعي دوراً رئيسيّاً في حرب إسرائيل الأخيرة على غزّة ولبنان. وبات تهديداً عالميّاً واضحاً كما صرّح مسؤولٌ إسرائيلي أنّ بقدرته بكبسة زرّ أن يعيد بلاداً إلى العصر الحجري عبر تعطيل عمل كلّ منشآتها ومطاراتها وخدماتها!

هل ستستطيع الدول العربية بناء آلياتها الخاصة، وتطوير كفاءات محلية، ووضع أطر حوكمة رشيدة لضمان أن يكون الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني أدوات للتنمية والاستقلال والعدالة الاجتماعية، وليس مصدراً جديداً للتبعية وعدم الاستقرار؟ وهل هناك مجال لتعاون عربي في هذه الميادين، أم أصبح الأمر، كما هو الحال حتّى في الاتحاد الأوروبي، أنّ كلّ دولة تبحث عن مسارها الخاص؟

وفي الواقع، تطرح طفرة الذكاء الاصطناعي إشكاليّات كبرى حول الأمن السيبراني. بل تقوّض أصلاً أسس العولمة، ما يفسّر بعض تصرّفات الإدارة الأمريكيّة وغيرها. فكيف تحمي كلّ دولة نفسها من اختراقات الأمن السيبرانيّ المطوّرة بالذكاء الاصطناعي، وكيف تحمي قواعد بياناتها أو السيطرة على النتائج، حتّى من قبل حلفائها، وبخاصّة أنّ تركيبة برمجيّات الذكاء، وبعضها مفتوح المصادر، يُوسّع مجالات الاختراق. زدْ على ذلك، أنّ تطوّرات الحوسبة قد تكسر أقوى وسائل التشفير المتواجدة. وثمة إشكاليّة مطروحة ليس فقط في زمن الحروب العسكريّة، بل أيضاً في الصراعات “الناعمة” الاقتصاديّة والتقنيّة أو لجهة التلاعب بالرأي العام في المجتمعات… هكذا يتحوّل اليوم الأمن السيبراني (الذي ترتفع كلف التأمين التي تخصّه بشكلٍ كبير) من مركز تكلفة إلى أولويّة أمن قومي.

فيما يخصّ البلدان العربيّة، بالطبع تتمتّع بلدان الخليج بجهوزيّة أعلى من بقيّة الدول تجاه هذه الطفرة التقنيّة، لكنّها أقلّ من الدول العالميّة التي تماثلها في الثروة. هذا باستثناء قطاعات الأمن حيث ارتفعت الاستثمارات بشكلٍ كبير. ويتوقّع أنّ تبلغ مساهمة الذكاء الاصطناعي في الناتج المحلي العربي 320 مليار دولار عام 2030. لكنّ ذلك يتطلّب بين 25 و100 ملياراً من الاستثمارات خلال السنوات القادمة للشأن المحليّ وحده، أي ما عدا رغبة بعض الدول الخليجيّة في استضافة القدرات الحسابيّة لصالح الشركات الكبرى، بغية توفّر الطاقة بأسعارٍ رخيصة.

إقرأ على موقع 180  لا عروبة بلا مصر ولا مستقبل لمصر خارج عالمها العربى

وفعلاً دخل الذكاء الاصطناعي في مجالات كثيرة في الدول الخليجية، الأمر الذي يُساعد في التحوّل الاقتصادي نحو قطاعات غير نفطيّة: الرعاية الصحيّة، الطاقة والاستدامة، التعليم، الحكومة والمدن الذكيّة والتمويل والأعمال، وكذلك في.. الثقافة. ولكنّ أهمّ التطبيقات هي في مجال الأمن (الأمن الداخليّ خاصّةً) وإدارة الحج، وتشكّل أغلبها في الواقع استخداماً لبرمجيّات مطوّرة في الخارج وتعاني من ندرة الخبرات المحليّة. هذا في حين يبقى الولوج إلى معترك الذكاء الاصطناعي أكثر محدوديّة في البلدان العربيّة الأقلّ ثراءً، برغم الحاجات الكبرى لإدارة ندرة الموارد، وبينها ندرة المياه، لضعف البنية الرقمية ونقص التمويل (بما فيه الحكومي) وندرة البيانات وهجرة العقول. وبرغم أيضاً المخاطر على وظائف المبرمجين في البلاد أو المغتربين الذين يمكن أن يفقدوا وظائفهم والعملة الصعبة التي يجلبونها.

بالتأكيد لا بدّ أنّ تبذل جميع الدول العربيّة جهوداً حثيثة كي تواكب هذه الطفرة التقنيّة. ليس فقط لأنّها تدفع النموّ وتخلق فرصاً جديدة. بل أيضاً لأنّها ستُعمّق الفجوة بين الدول العربيّة الثريّة والدول الأخرى، وبين رأس المال والعمل داخل كلّ دولة وتنهي دور الطبقات الوسطى؛ بل وبخاصّةً لأنّها تحتوي مخاطرَ تقوّض الأمن القومي لكلّ دولة. فهل ستُبذَل الجهود أكثر على تطبيقات الذكاء الاصطناعي أم على الأمن السيبراني؟

كلّ هذا يطرح تساؤلات مصيريّة للمنطقة. فهل ستستطيع الدول العربية بناء آلياتها الخاصة، وتطوير كفاءات محلية، ووضع أطر حوكمة رشيدة لضمان أن يكون الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني أدوات للتنمية والاستقلال والعدالة الاجتماعية، وليس مصدراً جديداً للتبعية وعدم الاستقرار؟ وهل هناك مجال لتعاون عربي في هذه الميادين، أم أصبح الأمر، كما هو الحال حتّى في الاتحاد الأوروبي، أنّ كلّ دولة تبحث عن مسارها الخاص؟ وهل يمكن للدول القادرة على الاستخدام الواسع لتطبيقات الذكاء الاصطناعي أن تثق بحلفائها وبرمجيّاتهم وأن تحمي بياناتها؟ وهل أيضاً سينهض المجتمع في البلدان العربية كي يضع هذه الأمور ضمن أولويّات اهتماماته، لما تحويه من مخاطر هيمنة عليه؟

لن تأتي الإجابة على هذه التساؤلات من التكنولوجيا نفسها، بل من الإرادة السياسية، والاستثمار الذكي في التعليم والبحث، وبناء شراكات متوازنة تحفظ السيادة الوطنية. حيث أنّ التحدّي الحقيقي هو تحدّي بناء العقل والقدرة، وليس الهوس في موضة التطبيقات.

فرص الذكاء الاصطناعي كبيرة وكذلك تحدياته في الأمن السيبراني. لكنّه لا يستطيع حقّاً أن يستقرئ المستقبل، لأنّه يُبنى على المعطيات والبيانات المتواجدة والتاريخيّة. بالتالي لن يتوقّع الطفرة القادمة، “البجعة السوداء”، كما يسميّها نسيم نقولا طالب. المستقبل دوماً مفتوح أمام من يجرؤ على مواجهة التحديات. والمهمّ أن تُبتكََر “بجعات سود” على المستوى العربي.. فتحاً لأفاق جديدة.

إن معركة مواجهة تحدّي الذكاء الإصطناعي لا تقبل التأجيل.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  حين يُعيد الذّكاء الاصطناعيّ تشكيل المجتمع اللبنانيّ تحت وطأة الانهيار