إذا لم تتمكن الدول الأوروبية من الإلتزام بتعهداتها في الإتفاق النووي (5+1)، هل يجب أن تستمر ايران في برنامج خفض التزاماتها النووية، على حساب برنامجها النووي السلمي فنياً وعلمياً؟ وهل يجب أن تلجأ طهران إلى الخيار الأسوأ، فتعلن الخروج من الإتفاق النووي نهائيا من دون أن يتوفر البديل؟
بإستثناء حقبة قصيرة من الزمن، لم تحصد إيران الثمار الإقتصادية التي أتاحها توقيع الإتفاق النووي مع مجموعة دول 5+1، بسبب خروج الولايات المتحدة من الإتفاق النووي، وفرضها عقوبات إقتصادية مشددة ضد إيران. حتى المصالح الإقتصادية المقتضبة تم تقويضها، والتحركات التي أعلنت عنها الدول الشريكة لإيران في الإتحاد الأوروبي (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) من خلال تأسيس القناة المالية الخاصة “إنستكس” لم تفسح المجال أمام طهران للحصول على مصالها الإقتصادية من خلال الإتفاق النووي.
ومن المعروف أن “إنستكس” هي قناة مالية تعرف باسم آلية دعم المبادلات التجارية مع إيران، اسستها الترويكا الاوروبية في كانون الثاني/ يناير 2019، لتسهيل التجارة مع إيران، وذلك للتعويض عن الخسائر الناجمة عن وقف العمل بالاتفاق النووي.
وقد لعبت الوكالة الدولية للطاقة الذرية دوراً محورياً في رسم آليات الإتفاق النووي الراهن الذي تم التوصل إليه بين إيران ودول 5+1 عام 2015، وذلك من خلال قيام الوكالة بفرض الرقابة على البرنامج النووي الايراني السلمي وتقديم تقارير مفصلة عن هذا البرنامج إلى مجلس الأمن الدولي ومجموعة دول 5+1.
وفي ظل الأدوات الهامة التي وفرها الإتفاق النووي والوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومن أجل الخروج من المأزق الذي تسببت به السياسات الأميركية وعدم التزام الدول الأوروبية بتعهداتها، يمكن لإيران أن تتبنى خطوة إستراتيجية وتضعها على رأس تحركاتها الديبلوماسية وهي كالتالي:
اولاً: تعلن إيران رسمياً الخروج من الإتفاق النووي الذي تم التوصل إليه عام 2015، وتراجعها عن التعهدات التي قطعتها على نفسها بحضور الولايات المتحدة (بسبب خرقها لهذا الإتفاق الدولي) والدول الأوروبية (بسبب عدم التزام فرنسا وانجلترا وألمانيا بتعهداتها في الإتفاق)، على أن تستمر بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وذلك حرصاً على الشفافية التي تثبت سلمية البرنامج النووي الايراني.
تطالب إيران بتوقيع إتفاق أمني وعسكري شامل وجديد مع الصين وروسيا والدول الأعضاء في الإتفاق النووي الجديد
ثانياً: بما أن الصين وروسيا اللتين تتمتعان بعضوية مجلس الأمن الدولي التزمتا بتعهداتهما في الإتفاق النووي، تقوم طهران بتوقيع إتفاق جديد مشابه لإتفاق عام 2015 مع موسكو وبكين، مع إضافة عدد من الدول الأخرى إلى الإتفاق الجديد، والمقصود هنا الدول التي حاولت مد الجسور الإقتصادية مع طهران بعد إتفاق 2015، مثل تركيا والعراق وسوريا ولبنان والهند وقطر وماليزيا وكوريا الجنوبية واليابان وسلطنة عمان والكويت…إلخ، مع الحفاظ على مكانة الوكالة الدولية للطاقة الذرية في الإتفاق الجديد بصفتها القوة التنفيذية في مجال إختبار صدق النوايا.
وبعد توقيع الإتفاق الجديد، تعلن إيران بشكل رسمي الخروج من الإتفاق النووي القديم، والآثار المترتبة على أي مفاوضات تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني السلمي والتي تم خوضها مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وبالتالي تقوم طهران بتغيير معيار الإعتراف الدولي بسلمية برنامجها النووي، ولكن تحافظ على الآليات التي تثبت سلمية هذا البرنامج بالنسبة للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ثالثاً: بالتزامن مع تحديد الخطوط العريضة في الإتفاق الجديد حول البرنامج النووي الإيراني السلمي، تطالب إيران بتوقيع إتفاق أمني وعسكري شامل وجديد مع الصين وروسيا والدول الأعضاء في الإتفاق النووي الجديد، وذلك في سياق مكافحة الإرهاب، بحيث يتم إيجاد إئتلاف أمني عسكري جديد، على غرار الإئتلاف الغربي ضد الإرهاب، وفي إطار المكافحة العملية للإرهاب والحفاظ على الأمن والمصالح الوطنية، تمهد طهران لإيجاد غرفة قيادة عسكرية مشتركة يكون محور عملها الأساسي محاربة الإرهاب في الشرق الأوسط من خلال العمليات البرية والجوية والبحرية.
رابعاً: تحمل الصين وروسيا بصفتهما دولتين عضوتين في مجلس الأمن، الإتفاق النووي الجديد مع إيران والإئتلاف الأمني الجديد ضد الإرهاب في الشرق الأوسط إلى مجلس الأمن، ليتم المصادقة عليها بصفتهما معاهدات دولية جديدة.
خامساً: على خلفية التجربة الناجحة في هاتين المعاهدتين الجديدتين مع روسيا والصين، يمكن لإيران أن تبرم معاهدات عسكرية وأمنية جديدة مع هاتين الدولتين بخصوص ملفات غرب آسيا (الشرق الأوسط وخليج فارس).
بهذه الخطوة تكون طهران قد ردت بشكل قوي وديبلوماسي على الإدارة الأميركية من دون أية مواجهة أمنية أو عسكرية
ما هي النتائج المترتبة على هذا المشروع؟
أولاً: إيران، وبرغم خروجها من الإتفاق النووي المبرم مع مجموعة دول 5+1 عام 2015، إلا أنها وفي ظل الحفاظ على التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تلتزم ببرنامج الشفافية بالنسبة لبرنامجها النووي السلمي كما في السابق، ولكن هذه المرة من دون أي جوانب حقوقية مع الولايات المتحدة ودول الترويكا الاوروبية ( فرنسا وألمانيا وبريطانيا).
ثانياً: إيران بهذه الخطوة المبتكرة والتي تجنبها أية تبعات باعثة على التوتر، تُعلم الدول الاوروبية أنها فقدت مكانتها كشريك استراتيجي، وأنها سوف تتعامل مع هذه الدول في إطار استراتيجية جديدة أركانها مبنية على أساس الإئتلاف الجديد مع الصين وروسيا.
ثالثاً: بهذه الخطوة تكون طهران قد ردت بشكل قوي وديبلوماسي على الإدارة الأميركية، ومن دون أية مواجهة أمنية أو عسكرية مع واشنطن، التي ستفهم أنها خسرت فرصة عقد أي حوار مباشر بين البلدين، وبالتالي فإن إيران ستدخل في معادلات إستراتيجية جديدة مع حلفائها الجدد لا مكان لأميركا فيها.
رابعاً: سيتم تقييم هذه الخطوة الإيرانية على أنها تعاون إيراني مع جزء كبير من المجتمع الدولي في إطار التطورات الجارية في غرب آسيا، بالتوازي مع حفاظ طهران على التعاون مع المجتمع الدولي في ملفات برنامجها النووي السلمي ومكافحة الإرهاب.
بهذه الخطوة وفي ظل تأسيس الإئتلاف الجديد، تحيي طهران طريق الحرير الإقتصادي
خامساً: بالتزامن مع إبرام الإتفاق النووي الجديد، ستعلن إيران الخروج من الإتفاق النووي القديم 2015، من دون أن تتخلى عن الأصول والمبادئ التي تبنتها، ومن دون أن تتخلى عن تعهداتها التي قطعتها أمام المجتمع الدولي والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
سادساً: بهذه الخطوة وفي ظل تأسيس الإئتلاف الجديد، تحيي طهران طريق الحرير الإقتصادي وبالتالي توفر السبل إلى إمكانية إجراء التبادلات المالية والتجارية بين غرب وشرق آسيا بشكل مستقل عن دول الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ولا ننسى أن إيران هي القلب النابض لطريق الحرير.
ما هي أسس ومبادئ هذا المشروع؟
أولاً: إن خروج إيران من الإتفاق النووي للعام 2015 من دون أن يكون لديها بديل يعني الدخول في مجازفة سياسية دولية ستحمل إيران ومصالحها الوطنية وسياساتها الخارجية أعباء ثقيلة، وستضع العلاقات الدولية الايرانية في دائرة الشبهات، في حين أن إيران يجب أن تبذل كل ما في وسعها لتمنع الولايات المتحدة وحلفائها من إتخاذ خطوات وتبني مشاريع تتيح فرض المزيد من الضغوط الدولية عليها.
ثانياً: عندما يكون البرنامج النووي سلمياً بالكامل والوثائق تؤكد سلميته، لماذا تقوم طهران بخطوات من شأنها إثارة الشبهات حول سلمية برنامجها وتمنح أعداءها الفرصة للتبليغ ضده؟ جميع المراقبين يدركون أن أقصى ما تسعى له أميركا هي أن تضع ايران في مواجهة مباشرة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ولكن طهران عليها أن تتجنب هذه المواجهة بأي طريقة.
ثالثاً: حتى لو لم يكن هناك إتفاق نووي، على ايران أن تتبنى سياسة الشفافية في الإجابة على تساؤلات وطلبات الوكالة الدولية للطاقة الذرية لكي تثبت سلمية برنامجها النووي، الآن وبعد إصدار الوكالة الدولية للطاقة الذرية ستة عشر تقريراً يؤكد سلمية البرنامج النووي الايراني يجب على ايران أن تمضي في ذات الطريق إلى أن توقع الإتفاق النووي الجديد مع روسيا والصين وبعض الدول الجديدة، وبطبيعة الحال فإن تعاون ايران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لن يترتب عليه أي إضرار بأمن ايران ومصالحها الوطنية، ولذلك نعتقد أنه يجب على ايران أن تواصل الحركة في هذا الطريق وأن تستمر في تبني المشاريع التي تتوافق مع سياستها الخارجية.
رابعاً: الإقتدار العسكري والأمني لايران في المنطقة يتم تقييمه وفق معيار إسقاط طائرة التجسس الأمريكية التي اخترقت إقليمها الجوي، وهذا الإنجاز يجب استغلاله في مجال الديبلوماسية الخارجية الايرانية، ومن المعروف أنه عندما يحقق أي بلد إنجازاً كبيراً في المجال العسكري والأمني، يجب أن يستثمره فورا في المجالات السياسية والديبلوماسية والإقتصادية، لأن الإقتدار العسكري والأمني والإقتدار الديبلوماسي هما وجهان لعملة واحدة في السياسة الخارجية لأية دولة.
في الخلاصة، يمكن القول إن خيار الخروج من الإتفاق النووي في ظل الظروف الدولية والإقليمية الراهنة هو الخيار الأسوأ الذي قد تتبناه طهران إلا في حال كان لديها بديل جديد.