خلال حملته الانتخابية، أدلى ترامب بعدة تصريحات من شأنها – إذا ما تحولت إلى سياسة – أن تقلب علاقات أميركا مع كل من الحلفاء والخصوم رأساً على عقب. فقد تعهد؛ من جملة ما تعهد به؛ بما يلي:
إنهاء الحرب في أوكرانيا في غضون 24 ساعة، وهو الوعد الذي يفترض كثيرون أنه يعني وقف المساعدات الأميركية لكييف، الأمر الذي من شأنه أن يصب في مصلحة روسيا. كما تعهد بجعل أميركا (أقوى دولة في العالم) أكثر إنعزالية، وأكثر عدائية تجاه المهاجرين (ترحيل الملايين منهم)، وأكثر تطلباً من الشركاء الأمنيين، وأقل انخراطاً في التحديات العالمية مثل تغير المناخ. بالإضافة إلى انتهاج سياسة أكثر عدوانية في ما يخص موضوع الرسوم الجمركية (زيادة المطبق منها وفرض تعريفات جديدة).
ويعتقد كثيرون أن تأثير مثل هذه “التعهدات”؛ إذا ما طُبقت؛ سيكون كبيراً جداً ومختلفاً عن كل ما شهده العالم منذ بداية الحرب الباردة.
وقال جيمس كوران، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة سيدني: “إن هذا من شأنه أن يُسرّع الاتجاه العميق بالفعل المتمثل في أن تنظر أميركا إلى الداخل. وسيتعين على الحُلفاء إنقاذ الأثاث المتعدد الأطراف بينما لا يزال موجوداً – وعليهم أن يأملوا في أن تعيد أميركا الرغبة في الشراء مرة أخرى”.
الآن، على العالم أن يعلم أن اليقين الوحيد مع ترامب هو عدم اليقين. على العالم أن لا ينسى ما عايشه خلال فترة ولايته الأولى (2017-2020)، وما كان يتباهى بترديده في كثير من الأحيان “السياسة الخارجية المثالية بالنسبة لي هي إبقاء العالم في حيرة وعدم القدرة على التنبؤ بشيء”!
حاول كبار المسؤولين في جميع أنحاء العالم التأكيد على عناصر علاقاتهم مع الولايات المتحدة التي من شأنها أن تستمر.
في المكسيك، قالت الرئيسة كلوديا شينباوم إن “العلاقات الجيدة” مع واشنطن ستبقى قائمة، وذلك برغم التهديدات الأخيرة التي أطلقها ترامب بفرض تعريفات جمركية ضخمة على بلادها. وأضافت: “لا يوجد سبب للقلق. سيكون للمكسيك دائماً ميزة عن غيرها”.
ترامب تعهد بتغيير علاقة أميركا بالحلفاء والخصوم على حد سواء.. وبإنهاء الحرب في أوكرانيا في غضون 24 ساعة، وزيادة الرسوم الجمركية وترحيل ملايين المهاجرين
وقال وزير خارجية إيطاليا، أنطونيو تاجاني، إنه يعتقد أن ترامب لديه “تعاطف طبيعي مع بلادنا.. وأنا مقتنع بأننا سنعمل بشكل جيد مع الإدارة الجديدة للقطب”. وفي كينيا، قال نديندي نيورو، وهو عضو في ائتلاف الرئيس ويليام روتو الحاكم، إنه يعتقد أن سياسات ترامب الاقتصادية ستكون أفضل للدول الأفريقية، التي يعاني العديد منها من التضخم المتزايد والديون الساحقة.
كما كانت الهند تراقب السباق الانتخابي الأميركي بقليل من الاهتمام، لثقتها بأنها ستظل بمثابة “ثقل موازن للصين“، باعتبارها أكبر دولة من حيث عدد السكان وخامس أكبر اقتصاد في العالم.
وبرغم أن العلاقة كانت متوترة جداً خلال الولاية الأولى، سارع الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى تهنئة الرئيس الأميركي الجديد، ووصف التعاون مع الولايات المتحدة بأنه “ركيزة أساسية للعلاقات الدولية”.
الاستعداد لنهج انعزالي
لقد وضعت موضوعات حملة ترامب الانعزالية العديد من الدول على حافة الهاوية بالفعل.
فالصين، التي يعاني اقتصادها من الركود، تواجه تعريفات جمركية أوسع وأعلى من تلك التي تم تطبيقها خلال فترة ولاية ترامب الأولى واستمرت في عهد الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن. وفي هذا الخصوص يقول شي ين هونغ، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة رينمين في بكين، إن رئاسة ترامب الثانية “ستؤدي حتماً إلى تقليص الثقة والاحترام العالميين للولايات المتحدة”.
قلَّة قليلة فقط من جيران الصين، الحذرين، مقتنعين بإمكانية “الاحتفال” بعودة ترامب.
كوريا الجنوبية واليابان تتوقعان أن تتعرضا لضغوط تجبرهما على دفع المزيد من المال مقابل بقاء القوات الأميركية في بلديهما. وكان ترامب تعهد بجعل كوريا الجنوبية تدفع 10 مليارات دولار سنوياً؛ وهي تدفع حالياً ما يزيد قليلاً عن مليار دولار.
عالم أقل أمناً
بعض الدبلوماسيين في آسيا قالوا إنه مع وجود ترامب في البيت الأبيض، فإنهم يتوقعون أيضاً أن تُكثّف الصين الضغوط على تايوان، وربما تغزو الجزيرة. وفي رأيهم، قد تحسب الصين أن ترامب لن يخوض حرباً من أجل الديموقراطية التي اتهمها بـ “سرقة” صناعة الرقائق الدقيقة من الولايات المتحدة.
فبعد أن كانوا يكنون الاحترام الكبير لترامب في ولايته الأولى، أصبح سكان جزيرة تايوان أقل يقيناً من أنه يمكن الوثوق به “بسبب الشعور بعدم الأمان جراء المخاطر الكبيرة التي تحدق بتايوان”، بحسب ليف ناخمان، عالم السياسة في جامعة تايوان الوطنية في تايبيه.
بالنسبة لأوكرانيا، فإن عودة ترامب تعني ضباباً من خطر إضافي مرتقب. لقد أدَّى زعمه بأنه سيكون قادراً على التوسط لإنهاء الحرب على الفور (خلال 24 ساعة)، جنباً إلى جنب مع علاقاته الدافئة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى تأجيج المخاوف من أنه قد يُجبر الأوكرانيين على إبرام صفقة سيئة من خلال قطع الدعم العسكري عنهم.
في روسيا، أشار ديميتري بيسكوف، المتحدث باسم بوتين، إلى أن واشنطن “غير ودّية” تجاه موسكو، وتدعم أوكرانيا. ومع ذلك، كانت هناك تلميحات من الابتهاج بفوز ترامب الذي أدلى بتعليقات إيجابية عن بوتين. وقال الرئيس الروسي: “لا أعتقد أن من الخطأ إجراء مكالمة هاتفية مع ترامب.. نحن مستعدون للتحدث معه.. وأود أن أنتهز هذه الفرصة لأهنئه بانتخابه رئيسا للولايات المتحدة”. وأضاف: “رغبة ترامب في استعادة العلاقات مع روسيا وتسهيل إنهاء الأزمة الأوكرانية تستحق الاهتمام”. وختم بالقول “نحن مستعدون لاستعادة العلاقات مع أميركا والكرة في ملعب واشنطن”.
ونقلت تقارير صحفية روسية عن بيسكوف قوله، في إشارة إلى الحرب: “إذا كان بإمكان شخص ما أن يغير شيئاً ما، فيجب الترحيب بذلك. أما إذا كان مدحه لبوتين دعاية انتخابية، فقد رأينا هذا من قبل”.
تتذكر روسيا باهتمام أن إدارة ترامب الأولى فرضت عقوبات اقتصادية على البلاد بشأن مجموعة من القضايا. وكتب ساشا كوتس، وهو مدوّن عسكري بارز: “إن فوز ترامب لن يجعل الأمور أكثر سهولة بالنسبة لنا بالتأكيد. إنه ذكي ولا يمكن التنبؤ بتصرفاته. وهذا أمر خطير”.
قلق واضطراب بين الشركاء
وكان الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، قد صرَّح (الأسبوع الماضي) أنه “يفهم كل المخاطر” المترتبة على فوز ترامب. ومع ذلك كتب على موقع X (الأربعاء) يقول إنه يُقدّر “التزام الرئيس ترامب بنهج السلام من خلال القوة “في الشؤون العالمية”.
لكن العديد من أنصار أوكرانيا في المنطقة “غير مستعدين بشكل مؤسف لعودة ترامب”، كما تقول جورجينا رايت، خبيرة السياسة الأوروبية في معهد مونتين في باريس. ويتوقع المحللون والمسؤولون في القارة حربًا تجارية، وفاتورة أكبر لحلف شمال الأطلسي والمساعدات العسكرية من واشنطن، وانتشار الشعبوية المناهضة للديموقراطية بتشجيع من ترامب، وخطر أكبر من توسيع روسيا لطموحاتها الإقليمية.
وقد ألمح ترامب إلى أنه لن يلتزم بالمادة الخاصة بحلف شمال الأطلسي (الناتو) التي تتطلب الدفاع الجماعي، والتي ساعدت في الحدّ من تداعيات حرب أوكرانيا على أوروبا. وقال ترامب إنه “سيُشجّع” روسيا “على فعل ما تريد” تجاه الدول التي لم تدفع أموالاً كافية للتحالف.
وبينما هنأ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني، أولاف شولتز، ترامب علناً، ناقشا يوم الأربعاء الماضي الاستراتيجية الأوروبية تجاه “رئيس صفقات” تكون بلاده حليفاً استراتيجياً وأكبر شريك تجاري لأوروبا. وكتب ماكرون على موقع X يقول: “سنعمل من أجل أوروبا أكثر اتحاداً، وقوة، وسيادة في هذا السياق الجديد”.
في الدول التي اعتمدت على الولايات المتحدة لهزيمة الفاشية أثناء الحرب العالمية الثانية، لا يزال هناك شعور بالصدمة لأن الناخبين الأميركيين اختاروا “مجرماً روَّج لتهديدات بالعنف ضد الصحافيين. وقال إنه سيستخدم المحاكم والجيش ضد الأعداء المحليين”.
وفي هذا الشأن، قالت نيكول باشاران، عالمة السياسة في باريس: “إذا لم تكن هناك أميركا ديموقراطية قوية كصخرة يمكن الاعتماد عليها، فأنا لا أرى مستقبلاً عظيماً للديموقراطيات الأوروبية” (…).
لخّص أنتوني سمراني، رئيس تحرير صحيفة “لوريان لو جور” اليومية اللبنانية، ما أسماه العقلية السائدة تجاه ترامب في الشرق الأوسط بالقول: “إنه مجنون، لكنه على الأقل قوي”
تغيير مرحب به بـ”خجل”
في بعض البلدان، أدَّى نهج ترامب إلى قدر من الأمل.
في الشرق الأوسط، كان يُنظَر إلى الولايات المتحدة على نطاق واسع على أنها غير فعّالة وعاجزة عن فرض وقف إطلاق النار في حرب تهدد بابتلاع المنطقة (الحرب على غزَّة). ويأمل البعض أن يجد ترامب، الذي يعتبر مؤيداً قوياً لإسرائيل ولكنه حريص على إبرام الصفقات، طريقاً جديداً للمضي قدماً نحو وقف العمليات العسكرية الإسرائيلية.
وكان اليمين المتطرف في إسرائيل يلوّح بقبضته في وجه فوز ترامب، معتقداً أنه يمكن إقناعه بالانحياز إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في أي محاولة لإنهاء الحروب في غزة وضد قوى محور المقاومة الذي تقوده إيران في المنطقة. وعندما بدا فوز ترامب حتمياً، نشر إيتامار بن غفير، وزير الأمن القومي، عبارة “نعم” احتفالية على وسائل التواصل الاجتماعي.
لقد أدان الفلسطينيون الدعم الأميركي للحروب، معربين عن مزيج من الخوف والقلق لما سيأتي بعد ذلك. وقالت حركة “حماس” إن الفلسطينيين “يتطلعون إلى وقف فوري للعدوان ضد شعبنا”.
في لبنان وبعض الدول العربية الأخرى، بدا أن ولاية ترامب الثانية موضع ترحيب حذر. ولخص أنتوني سمراني، رئيس تحرير صحيفة “لوريان لو جور” اليومية اللبنانية، ما أسماه العقلية السائدة تجاه ترامب في الشرق الأوسط بالقول: “إنه مجنون، لكنه على الأقل قوي”.
ومن بين الأكثر حماساً لفوز ترامب كان رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي قمع المعارضة لإنشاء ديموقراطية عرقية غير ليبرالية في بلاده. وهنأ ترامب على “فوزه الكاسح” الذي وصفه بأنه “نصر ضروري للعالم!”
المهاجرون أول الضحايا
قد يكون التأثير الأوسع نطاقاً والأكثر مباشرة لفوز ترامب على العالم متعلقاً بالهجرة.
لقد وعد بأن يكون من بين أول أعماله في منصبه الترحيل الجماعي لملايين المهاجرين غير الشرعيين. ويخشى المنتقدون أن يعني هذا في غضون أسابيع طائرات يومية محملة بالعائدين ليس فقط إلى المكسيك، بل وأيضاً إلى الهند والسلفادور والفيليبين.
في كوكس بازار، شريط حدودي في بنغلاديش مع معسكرات لأكثر من مليون مسلم من الروهينجا فروا من موطنهم ميانمار، كان اللاجئون قلقين بشأن ما قد يجلبه عداء ترامب للهجرة.
وقال يوسف عبد الرحمن (26 عاماً)، وهو لاجئ من الروهينغا، إن مشاعر ترامب القومية تذكره بالحكام العسكريين في ميانمار.
وقال: “يحب ترامب الحصول على الشعبية من خلال تحويل الناس ضد بعضهم البعض. يقول، “أنتم الناس، هؤلاء الناس”، وهذا يخلق الكراهية”.
– ترجمة بتصرف عن “نيويورك تايمز“.
(*) أعد التقرير كلٌ من داميان كايف، مدير مكتب “نيويورك تايمز” في هو تشي منه (فيتنام). وكاثرين بورتر، مراسلة الصحيفة في باريس. بالإضافة إلى عدد من مراسلي الصحيفة في عواصم عدة.