من الهندسات المالية التي حصلت في السنوات الثلاث الأخيرة، إنطلق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لإجراء جردة حساب بالسياسات التي إعتمدها المصرف المركزي على مدى هذه السنوات، وفي صلبها الحفاظ على إستقرار العملة الوطنية والثقة بها، كأداة لتأمين النمو الإقتصادي والإستقرار الإجتماعي لينتهي إلى ثلاث خلاصات؛ أولها، أن المسؤولية في ما وصلنا إليه سياسية بالدرجة الأولى، مثل العقوبات الأميركية والفراغ الرئاسي (2014 ـ 2016) والتعثر الحكومي (ظاهرة تكررت أربع مرات في السنوات العشر الأخيرة) وإستقالة سعد الحريري من السعودية في خريف العام 2017، وبالتالي فإن الحل يكمن عند أهل السياسة، وثانيها، أن على المصارف “حصة” في إدارة الأزمة من خلال تدابير إستفاض في شرحها. وثالثها، أن المصرف المركزي لديه من الإمكانيات ما يؤهله لمنع القطاع المصرفي من التعثر، وبالتالي فإن أموال المودعين ليست في عين الخطر.
إستفاض سلامة في سرد الأسباب التي دفعته إلى إعتماد خيار الهندسات المالية كسبيل لحماية إستقرار الليرة. جاء دفاعه عن هذه الإجراءات المثيرة للجدل تحت عنوان أنها سمحت بتكوين إحتياطات كبيرة دعمت الليرة اللبنانية، وأمنت الملاءة للمصارف، مع تشديده على أن المال العام لم يستعمل في هذه الهندسات، ومن يطالب بإعادة أموال الهندسات كلامه غير دقيق (الربح الذي حققته الخزينة اللبنانية من فوائد الهندسات قدره سلامة بنحو 800 مليون دولار).
في هذا المجال، تبدو لهجة رياض سلامة المباشرة في تحميله المستوى السياسي مسؤولية ما آلت اليه الأوضاع في لبنان جديدة وغير مسبوقة. فكل ما أشار إليه من أزمات سياسية تسبب بتراجع النمو والسيولة، وإرتفاع الفوائد، والتضخم، وبلوغ العجز حدود ال 11% في العام 2018، ما شرّع الأبواب أمام تراجع التصنيف الإئتماني في تقارير سلبية متتالية ومستمرة، ولعل خلاصة قوله “نحن أمنَّا تمويل البلد ولم نصرف، ومن صرف هو من قرر الموازنات” يحمل أوضح تعبير عن هذا التمايز بينه وبين أهل القرار السياسي.
إزاء ذلك، يبدو لبنان أمام مرحلة جديدة وفق ما يقول حاكم المصرف المركزي. وقد حدد عنوانين بارزين لهذه المرحلة هما:
أولاً: الحفاظ على إستقرار الليرة اللبنانية “وإمكاناتنا متوفرة لذلك”، كما يقول.
ثانياً: حماية الودائع والمودعين.
في الموضوع الأول، يستند سلامة الى إمكانيات المصرف المركزي القوية. إذ كشف أن “إحتياطي المصرف من دون الذهب يقارب الـ 38 مليار دولار، بما فيها سندات اليوروبوند والاستثمارات، بينها كتلة نقدية قابلة للتصرف الفوري تبلغ نحو 30 مليار دولار”. هذا يعني أن المصرف ليس مضطراً الى اللجوء الى أية وسائل إستثنائية يجيزها له القانون، وأن حاجات الدولة السنوية كخدمة الدين، وتأمين الموارد الأساسية من فيول ومشتقات نفطية وقمح وأدوية مؤمنة، علماً بأن حاجة الدولة في هذا المجال لا تتخطى سنوياً الـ 8 مليارات دولار.
في الموضوع الثاني، رمى سلامة الكرة في ملعب المصارف، لكنه سعى لطمأنة المودعين؛ فلا كابيتال كونترول Capital control ولا هيركات Haircut،(لا قيود على التحويلات ولا إقتطاع من رؤوس الاموال)، “أصلا لا صلاحية قانونية لدينا لفرض الأمر، ولا نية لنا بذلك، والودائع ملك اللبنانيين” يقول سلامة، لكنه يتحدث عن آلية لحماية المودع من خلال إجراءات تحمي المصارف من التعثر، “فعندما نمنع التعثر نحمي الودائع”.
لعل رسالة سلامة الى المصارف كانت عبر دعوته إياها الى مبادرات لإراحة السوق، وإشارته إلى أن هذه الأخيرة لجأت في الأسبوع الذي أعقب فترة الإقفال الطويلة بعد نشوب الحراك الشعبي، الى “تدابير فاجأتنا بها، وقد طلبنا منها تصحيحها، وهو ما سيتم فوراً”، داعياً إياها إلى تحسين ادارة سيولتها، من دون أن تعني إدارة السيولة أن الملاءة قد إنخفضت أو أن هناك مخاطر على الودائع، كذلك دعوته إلى إعادة دراسة كل التسهيلات التي خفضت منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر، وتلبية الشيكات المرتجعة، وإبقاء البطاقات الائتمانية بالسقوف نفسها، كي يتمكن اللبناني من إستعمالها في الداخل والخارج، وأن يتاح تسديد القروض بالليرة اللبنانية لا بالدولار فقط. ولعل في هذه الإجراءات توجه لامتصاص قلق المودعين – لا سيما الصغار منهم – الذين قد يشكلون وقوداً لأي إهتزاز إجتماعي – أمني قد يحدث في حال إنحدرت الأمور بإتجاه إنهيار أكبر.
فتح المصرف المركزي أمام المصارف باب الإستلاف من دون حدود، إنما بفائدة عالية تبلغ 20%، شرط ألا تحوَّل الأموال المقتَرَضة الى الخارج، وهي خطوة يراد منها فضلاً عن ضخ السيولة، بث أجواء تطمينية
لكن مراقبين إقتصاديين يرون أن الرسالة الأقوى كانت تلك التي وجهها رياض سلامة الى المصارف عندما دعاها إلى زيادة تقديماتها لزيادة الرسملة لديها بنسبة 20%، مما سيؤمن نحو ملياري دولار من السيولة لديها كمرحلة اولى . ويشرح خبير مصرفي لموقع 180 بوست أن المصارف اللبنانية تملك في الخارج مبالغ مالية كبيرة تتراوح بين 9 مليارات دولار (وفق تقديرات المصارف نفسها) و17 مليار دولار (وفق تقديرات المصرف المركزي)، وهي قادرة على الإستعانة بها عبر المصارف المراسِلة، لا سيما لجهة تلبية طلبات المودعين اللبنانيين الموجودين في الخارج، من دون المس بالكتلة النقدية الموجودة في لبنان.
وأكد خبير إقتصادي رفض ذكر إسمه أن ما أعلنه رياض سلامة بخصوص حماية الودائع، وأنها ليست بخطر وألا هيركات ولا كابيتل كونترول “هو إعلان إيجابي ولكن تبقى العبرة في التنفيذ”.
في مقابل ذلك، فتح المصرف المركزي أمام المصارف باب الإستلاف من دون حدود، إنما بفائدة عالية تبلغ 20%، شرط ألا تحوَّل الأموال المقتَرَضة الى الخارج، وهي خطوة يراد منها فضلاً عن ضخ السيولة، بث أجواء تطمينية. فهل نجحت في ذلك؟
يقول الخبير الإقتصادي والمالي ونائب حاكم مصرف لبنان المركزي سابقا الدكتور غسان عياش “إن لجوء المصرف المركزي الى إقراض المصارف لكن شرط عدم خروج الأموال من لبنان يثبت أن الأزمة قائمة”، ويضيف لموقع 180 بوست ” إذا كان رياض سلامة يملك الإرادة لكنه لا يملك الأدوات أو الوسائل للمعالجة، فالحل يكمن بتوافق سياسي قائم على خطة سياسية إقتصادية إجتماعية، تضعها حكومة سليمة وموثوقة، وهذا أمر غير متوفر حتى اللحظة”.
وقال خبير إقتصادي ومالي محايد إن ما أعلنه سلامة وجمعية المصارف “يظهر وجود أزمة كبيرة وهو يُخرج للمرة الأولى التوتر الحاصل بين حاكم المصرف المركزي وبين جمعية مصارف لبنان التي حاول رسم حدود لها، وإن كان بيان جمعية المصارف حاول ملاقاة سلامة بإبداء التفهم والقبول ولكن النار تبقى تحت الرماد”.
وأوضح مدير مؤسسة البحوث والإستشارات في لبنان الدكتور كمال حمدان لموقع 180 بوست أن رياض سلامة “نجح في فرض رسملة على المصارف بقيمة 4.8 مليار دولار، نصفهم في آخر السنة ونصفهم الآخر في حزيران/يونيو 2020 وبمعدل فائدة مرتفعة على الدولار، تعادل أموال “اللوتو” التي حصلت عليها المصارف من خلال الهندسات المالية، وكأنه يستعيدها من دون أن يقولها لهم مباشرة، ذلك أن هناك شكوكا كبيرة لديه بأن هذه المصارف قد أخرجت في الأشهر الأخيرة مبالغ مالية كبيرة ناتجة عن الأرباح المتأتية عن هذه الهندسات، وبالتالي يريد منهم أن يعيدوها إلى البلد”.
من جهتها، نوهت جمعية مصارف لبنان، بتوجيهات حاكم المصرف المركزي، وأملت بأن يكون لمؤتمره وقعا إيجابيا على عمل المصارف، ونوهت أيضا “بتطمينات سلامة في ما يخص عدم النية باعتماد آلية الكابيتال كونترول Capital control أو الهيركات Haircut”، ورحبت بتوجيهات سلامة في ما يخص التحويلات الى الخارج، و”ضرورة أن تكون مرتبطة بالحاجات الضرورية للناس وبما يتلاءم مع متطلبات الواقع والظروف الاستثنائية”.
يذكر أن اتحاد نقابات موظفي المصارف في لبنان قرر الإضراب العام اعتباراً من صباح اليوم الثلثاء في 12 تشرين الثاني/نوفمبر “وحتى استقرار الأوضاع العامة”.