بين “الزيارات العادية” و”بصمات النصر”، ووسط أكثر صراعات العالم تعقيداً في القرن الحالي، كان سليماني ينسج تجربته السورية ساعياً لتحقيق انجازات طالما نجح في بلوغها، ومتجنباً خيبات وخسائر لم يكن في وسعه أن ينجو منها جميعاً.
لكن القاسم المشترك هو أن سليماني سواء بظهوره أم اختفائه، وسواء بانتصاراته أم خيباته، وحتى بحياته وموته، استطاع أن يفرض نفسه رقماً صعباً، لا يمكن لأعدائه ولا أصدقائه أن يتجاوزوا حضوره وتأثيره في معادلات المنطقة وتداعياتها.
خيوط كثيرة غزلها سليماني في سجادة الحدث السوري. حياكته في بعSض الأحيان لم تكن واضحة، فكان من غير الممكن الاستدلال عليها إلا من تكامل التطريز في نهاية المطاف، حين تصبح نقشة سليماني مميزة لا تشبه أية نقشة أخرى.
دوره في الجنوب السوري، يشي باستخدام الرجل خيوط غير مرئية ما تزال حتى اليوم تثير خشية إسرائيل وتدفعها للاستماتة من أجل الحيلولة دون اكتمال تطريزته هناك. فرغم أنه لم يظهر في درعا إلا مرة واحدة “غير مؤكدة رسمياً” فإنّ ظلّه على الجبهة الشمالية بات يشكل أحد أخطر الهواجس التي تشغل القيادة العسكرية في تل أبيب.
العداء الجليّ لإسرائيل، لم يكن كذلك مع تركيا. في هذه الزاوية برز تفضيلُ سليماني لاستخدام خيوط مركبة تعكس حنكة الرجل السياسية بالإضافة إلى براعته العسكرية، فأنقرة قد تكون منافساً استراتيجياً لطهران، لكن التنافس يختلف عن العداوة، ولكل منهما خيوطه المختلفة واسلوب حياكته الخاص، وذلك رغم أن الحرب بالوكالة بين الطرفين في الشمال السوري وصلت في مراحل عديدة إلى آفاق مسدودة وهددت بانزلاق تركيا إلى المحور السعودي قبل أن تدخل موسكو على الخط وتفوز بالصيدة التركية.
المفارقة هنا، هي أنه بعد أقل من شهر على نفي الرئيس السوري لأي دور إيراني، كان سليماني يحط في موسكو في نيسان من العام 2015. وبقدر ما كانت هذه الزيارة تعبّر عن قدرته على استجلاب خيوط جديدة تمكنه من إكمال سجادته، بقدر ما كانت تعبر في الوقت عينه عن مدى الصعوبات والتحديات التي واجهها الرجل واضطرته إلى الاستغناء عن شعار “صنع في إيران”.
في ذلك الوقت، انتعش التحالف الثلاثي السعودي – القطري – التركي بعد تربع الملك سلمان بن عبدالعزيز على عرش المملكة السعودية وإطلاقه “عاصفة الحزم” في اليمن، وراح كثيرون يأملون في أن يكون تشكيل جيش الفتح وسيطرته على كامل محافظة إدلب، هو التجلي السوري لها.
في تلك الفترة، قال سليماني في أحد كلماته أن السعودية عرضت على الأسد التخلي عن إيران مقابل عودة العلاقات معها، وهو ما يدل على حجم الضغوط السياسية والعسكرية التي كان يعمل تحتها.
اقتراب الفصائل الجهادية من حدود محافظة اللاذقية بهذه القوة، واختلال الوضع الميداني في محيط العاصمة دمشق (سيظهر في شهر أيلول عندما أطلق “جيش الاسلام” معركة “الله غالب”) التي كان سليماني مهندس حمايتها ومنعها من السقوط، بالإضافة إلى طبيعة المعادلات الاقليمية والدولية التي كانت سائدة آنذاك، كانت من بين عوامل كثيرة دفعته في لحظة مصيرية إلى طرق الباب الروسي، ودعوته ليس إلى إنقاذ سوريا وحسب، بل إنقاذ تجربته من النفق الصعب التي كانت على وشك الدخول فيه.
طرق سليماني الباب الروسي ليس لإنقاذ سوريا فحسب، بل إنقاذ تجربته من النفق الصعب التي كانت على وشك الدخول فيه.
ورغم أن الحضور الروسي تمّ، حسب الرواية، بناء على دعوة سليماني نفسه، فإن التطورات اللاحقة ومحاولة لاعبين آخرين استخدام الخيط الروسي للالتفاف على نظيره الايراني، وربما إخراجه من اللعبة، اضطرت رجل الأدوار الخفيّة إلى الاعتراف في شهر أيار من العام 2016 بدوره في دعم الجيش السوري والحوثيين.
وقد انطوى ذلك الاعتراف في حينه على دلالات كثيرة يتعلق بعضها بإحساس طهران بفائض قوة بعد توقيع الاتفاق النووي. غير أن ما يحتاج إلى مزيد من البحث هو دور الحضور الروسي في استفزاز الحساسية الايرانية آنذاك، وسعيها إلى إخراج دورها القديم من ظلمات الانكار، إلى الاقرار به، وعلى لسان سليماني نفسه.
لم يكن تآلف النول الايراني مع الخيط الروسي سهلاً، وربما بعض السجالات بين الطرفين حول الأولويات الميدانية في بعض المسارح ولا سيما في نبل والزهراء قبل تحريرهما، وكذلك حول طبيعة بعض التشكيلات المنويّ إنشاؤها وتوجهاتها وراياتها، وأحياناً صدور اتهامات واضحة للطيران الروسي بعدم حماية قوات محسوبة على إيران في بعض المواقف، كانت جميعها تشكل إشارات لا يمكن تجاهلها على مدى الصعوبات التي واجهت الطرفين قبل أن يبلغا مرحلة التنسيق المرضي عنه، وتطويره لاحقاً إلى مستويات جديدة.
ولعلّ آخر الإشارات العلنية على المماحكات الروسية – الايرانية كانت اضطرار طهران إلى رفع سقف مطالبها وعرقلة تنفيذ الاتفاق الروسي – التركي بخصوص أحياء حلب الشرقية لدفع الطرفين إلى إدخالها فيه.
تعرف حلب قاسمَ سليماني أكثر مما يظن كثيرون. وقد تكون تجربة الرجل الحلبية (وهي التي قد تكون شهدت إصابته الأولى في الميدان السوري) من أكثر فصول تجربته السورية إثارة وتأثيراً. لذلك لم يكن مستغرباً أن يتكلل انتصار حلب في أواخر العام 2016 بجولة في أحياء المدينة المحررة تعمد سليماني إلى تصديرها لوسائل الإعلام في رسائل واضحة عن قوة الدور الايراني والدرجة التي وصل إليها في الانسجام مع الدور الروسي.
تجربة سليماني الحلبية هي من أكثر فصول تجربته السورية إثارة وتأثيراً.
لكن، ورغم نشوة سليماني بانتصار حلب، كان عليه أن ينتظر عاماً ونصف العام قبل أن يخوض ما اسماها هو نفسه بـ “أم المعارك” وذلك في الشرق السوري وصولاً إلى مدينة البوكمال الحدودية والتي تحتل أهمية كبيرة في الاستراتيجية الايرانية في سوريا.
لم يكن الطريق إلى البوكمال معبداً، بل كان مليئاً بالمطبات والتحديات ابتدءاً من تنظيم “داعش”، الذي كان ما زال يحافظ على قسم كبير من قوته آنذاك، وليس انتهاءً بالقوات الأميركية وحلفائها على الأرض التي دخلت في سباق معلن لأخذ حصتها من تركة “داعش” وبسط سيطرتها على أراضٍ تمكنها من قطع الطريق على الهدف الايراني.
وقد يكون الانزال الأميركي في مطار الطبقة من أهم المفاجآت التي اضطرت سليماني إلى تغيير مخططاته والاقرار ضمناً بعدم القدرة على تجاوز الدور الأميركي في تلك المرحلة.
نكهة الانتصار في البوكمال كانت مختلفة. ومن أهم مظاهرها هو الظهور العلني الأول من نوعه لقيادي في “حزب الله” على وسائل الإعلام. لكن الأهم هو تدبيج سليماني لرسالة “نصر” أرسلها في خطوة لها دلالاتها إلى المرشد علي خامنئي في يوم الثلاثاء 21 تشرين الثاني من العام 2017 يعلن فيها “نهاية تنظيم داعش”.
أما سياسياً، فلا يمكن القفز على زيارة الرئيس السوري بشار الأسد لطهران في شباط من العام 2019 وهي الزيارة التي كانت من مبتداها لمنتهاها بتخطيط ورفقة سليماني نفسه. ورغم أن الأخير اعتبر لقاء الأسد – خامنئي في طهران “احتفاءً بالنصر” فقد عكّر تجاهل وزير الخارجية محمد جواد ظريف وتهديده بالاستقالة جراء ذلك، أجواء الزيارة ونقل الاهتمام من الاحتفاء بالنصر إلى محاولة احتواء استقالة ظريف التي تراجع عنها لاحقاً.
مسار طويل من المعارك والمفاوضات والمماحكات قضاه سليماني في سوريا. لم يكن ساعياً إلى الظهور إلا حين تستوجب الظروف إرسال رسالة قوية لخصومه أو اصدقائه. ولم يكن مفتوناً باستعراض مواهبه وانجازاته كما لم يكن ممن ينكرون الخيبات التي واجهتهم في الطريق.
ورغم أن البعض يميل للنظر إلى سليماني كأسطورة، فإن العدل والانصاف بعد مقتل الرجل يوجب الاعتراف بأن الرجل لم يكن يملك اي قدرات أسطورية، لكن إيمانه بقضيته وإخلاصه في العمل من أجلها جعلته يحقق إنجازات اسطورية بقدرات عادية وفي ظل ظروف قاسية ومعقدة ومن دون أن يمنعه من ذلك ما واجهه من تحديات وعراقيل وأحياناً هزائم وخسائر وإصابات.