اللافت أن العملة السورية التي فقدت نحو 95 في المئة من قيمتها، خسرت نحو 50 في المائة منها خلال بضعة أشهر، حيث بدأت تتدهور بشكل كبير مع اندلاع الأحداث في لبنان، وأزمة الدولار التي تشهدها السوق اللبنانية، وخسرت نحو 10 في المئة من قيمتها منذ بداية العام الحالي (خلال أقل من أسبوعين).
أمام هذا الوضع الاقتصادي الصعب، يواجه المواطن السوري مجموعة كبيرة من التحديات تتعلق بلقمة عيشه بشكل أساسي، حيث لا يتجاوز متوسط الدخل بالنسبة للموظفين 45 دولاراً شهرياً، في وقت اعتبر فيه البنك الدولي أن الأشخاص الذين يعيشون على أقل من 1.9 دولار في اليوم، أي ما يعادل 47 دولاراً في الشهر يعيشون في ظل فقر مدقع.
ويتقارب متوسط الأجور بشكل كبير في سوريا في القطاعين العام والخاص، في وقت تعاني فيه شريحة واسعة من الشباب من البطالة، إذ تشير دراسات عدّة إلى أنّ نسبتها تجاوزت 50 في المئة، في وقت توقف فيه المنظمات الدولية ومؤسسات الاغاثة، التي كانت تقدم المعونات، مشاريعها بشكل تدريجي في سوريا، الأمر الذي جعل ضغوط الحياة مضاعفة، فمن جهة توقف الدعم، ومن جهة أخرى تراجعت قيمة العملة وقفزت معها الأسعار بنسب تجاوزت في بعض الحالات 70 في المائة، خلال فترة وجيزة.
خوف وترقب
بعيداً عن مستوى الفقر وتدني مستويات الدخل، وما يرافقها من أزمة معيشية كبيرة، تسبب الانهيار المتتابع لليرة السورية بأزمة اقتصادية متفاقمة، على صعيدي الصناعة والتجارة، في وقت يعاني فيه القطاع الزراعي أصلاً من أزمات متلاحقة جرّاء الحرب.
وعلى الرغم من استعادة حلب، التي كانت تمثل قبل اندلاع الحرب عاصمة سوريا الاقتصادية وعمودها الفقري الاقتصادي، لم تدر عجلة الإنتاج في المدينة، وإن وُجدت بعض المحاولات الخجولة.
صناعي سوري أشار خلال حديث إلى “180” إلى أن أسعار الصرف تعتبر واحدة من المشاكل التي تواجه الصناعة، موضحاً أن سعر الصرف ساهم في ارتفاع أسعار الوقود والمواد الأولية، بالإضافة إلى عوامل أخرى، من بينها أزمة “الكساد” في الأسواق السورية، وعدم وجود تصدير فعلي، في ظل استمرار تعطل منفذ العراق، والأزمة السياسية التي يعيشها، بالإضافة إلى الأزمة التي يعيشها لبنان.
ولا يعتبر انخفاض قيمة العملة مشكلة بحد ذاته، وفق الصناعي، الذي أوضح أن المشكلة تكمن في “عدم استقرار سعر الصرف، والانخفاض المستمر للعملة السورية، الأمر الذي يجعل عملية البيع في الأسواق السورية -في ظل عدم وجود بدائل- عملية خاسرة مع مرور الوقت.
ويتابع: “في مثل هذه الظروف يفضل معظم الصناعيين الانتظار والترقب”، الأمر الذي يساهم بدوره في تعثّر عجلة الإنتاج التي لم تنطلق أصلاً.
“الجرح” اللبناني
على الرغم من الانخفاض الكبير والمستمر في قيمة العملة السورية، يصرّ مصرف سوريا المركزي على السعر الرسمي (434 ليرة سورية)، الأمر الذي ساهم في خسارة سوريا عوائد مادية كبيرة، وفق خبير اقتصادي.
يصرّ المصرف المركزي السوري على السعر الرسمي (434 ليرة سورية)، الأمر الذي يساهم في خسارة سوريا عوائد مادية كبير
ويرى الخبير أن الفرق بين السعر الحقيقي (أكثر من ألف ليرة) والسعر الرسمي (434 ليرة) دفع السوريين في الخارج الذين كانوا يرسلون حوالات مالية لمساعدة ذويهم إلى الابتعاد عن الطرق النظامية في تحويل العملات، فكل دولار ترسله إلى سوريا ستخسر أكثر من نصفه.
ويوضح: “رفع السعر الرسمي للحوالات سيرفد الدولة السورية بملايين الدولارات التي يرسلها المغتربون كحوالات إلى ذويهم، وسيغلق السوق الموازي”.
ويرى الخبير الاقتصادي أن استمرار نزيف الليرة السورية يعود بشكل أساسي إلى المضاربة في ظل “ندرة الدولار في السوق”. ويشرح أنه وبسبب الظروف التي يعيشها لبنان في الوقت الحالي، تحملت الأسواق السورية عبئاًً كبيراًً، حيث تجري المضاربة على الدولار في ظل الطلب عليه في لبنان وسوريا معاً.
ويتقاطع حديث الخبير مع دراسة حديثة أعدها رئيس قسم المصارف في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق الدكتور علي كنعان، ونشرها المرصد العمالي للدراسات والبحوث وحملت عنوان “لبنان أمام أزمة مالية مرتقبة، وآثار سيئة على الاقتصاد السوري”، حيث اعتبر الأزمة اللبنانية سبباً رئيسياً في تدهور الليرة السورية.
يشير بحث اقتصادي سوري إلى أن ودائع السوريين تساوي 25.4 في المئة من إجمالي الودائع في المصارف اللبنانية.
وبحسب الأرقام التي أوردها البحث، تتجاوز ودائع السوريين في المصارف اللبنانية 25.4 في المئة من إجمالي الودائع في المصارف اللبنانية، والبالغة نحو 177 مليار دولار أميركي. ويشير الباحث في تصريح إلى جريدة “الوطن” السورية إلى أن هذه النسبة لا تشمل إيداعات بعض المصارف وشركات التأمين الخاضعة تحت بند حساب المراسلين وغيره، موضحاً أنه إذا احتسبنا هذه الإيداعات فقد تتجاوز الأموال السورية في المصارف اللبنانية الخمسين مليار دولار.
البحث الذي خلص إلى أن الأزمة الاقتصادية في لبنان لها تأثير كبير على الأوضاع في سوريا، سواء من ناحية توفر السيولة، أو ارتفاع الطلب على الدولار في السوق السوداء، أشار أيضاً إلى أن إجراءات لبنان حرمت سوريا نحو أربعة ملايين دولار يومياً، بسبب دفع الحوالات الواردة إلى السوريين عن طريق لبنان بالليرة اللبنانية، محذراً من استمرار نزيف العملة، وارتفاع الأسعار إلى أضعاف، بالإضافة إلى الاضطرابات المالية والنقدية الكبيرة المتوقعة، ومطالباً في الوقت ذاته بتشكيل لجنة اقتصادية سورية- لبنانية مشتركة لحل هذه الأزمة.
ماذا بعد؟
ساهمت العقوبات الأميركية والأوروبية الاقتصادية على سوريا في تفاقم الأزمة المعيشية للسوريين، الأمر الذي يبدو واضحاً في طوابير انتظار الغاز المنزلي في الشوارع، وأزمة الكهرباء وزيادة ساعات التقنين، بالإضافة إلى الارتفاع الكبير في أسعار المواد الأساسية.
وفي خطوة خجولة لمواجهة هذه الأزمات، بدأت الحكومة السورية تقديم الدعم لبعض السلع الأساسية (سكر – رز – شاي) بكميات قليلة ومحددة سيتم توزيعها عن طريق نظام البطاقة الذكية، التي تنظم أيضاً عملية الحصول على غاز التدفئة، وحتى الوقود لمن يملك سيارة.
كذلك، قامت الحكومة السورية بزيادة الرواتب قبل نحو شهرين بمبلغ قدره نحو 20 ألف ليرة سورية، إلا أن انخفاض قيمة العملة السورية ساهم في ابتلاع هذه الزيادة بشكل كامل.
في ظل الظروف الحالية، الداخلية التي تخص الاقتصاد السوري، أو الخارجية سواء دول الجوار، أو العقوبات الأميركية و الأوروبية على سوريا، لا يبدو أن ثمة تحسناً ستشهده الأسواق السورية في المستقبل القريب، وسط توقعات باستمرار تدهور الاقتصاد.
برغم ذلك، يرى خبير اقتصادي أنه يمكن التصدي لهذا الواقع عن طريق مجموعة من الخطوات الحكومية السورية المدروسة، والتي تتضمن تشجيع الصناعات المحلية في سوريا والدفع بعجلة الإنتاج، بالإضافة إلى إعادة إحياء وتنشيط القطاع الزراعي وتقديم الدعم الحقيقي لهذين القطاعين بشكل رئيسي، وإلا فإن الأزمة ستتفاقم بشكل كبير لا يمكن ضبطه.